29-مارس-2022
حفار القبور

فيلم حفار القبور

في تاريخ 21 كانون الثاني/يناير من هذا العام، قامت قناة الجزيرة بعرض فيلم وثائقي تحت عنوان "حفار القبور"، وقد جاء هذا الفيلم بقصد استعراض رواية الشاهد الرئيسي في المحاكم الألمانية بخصوص سياسة الإبادة الجماعية التي يتبعها نظام الأسد بحقّ المعتقلين السياسيين في السجون التابعة له، وتأتي هذه السياسة ضمن إطار معين يسعى فيه النظام إلى إخفاء جرائمه ضدّ الإنسانية بحقّ هؤلاء المعتقلين.

في شهادته، يروي حفار القبور أو زد 30، أنّ وظيفته هي تجهيز المقابر الجماعية لجثث المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب

جاء الفيلم بقصد الكشف عن مصير آلاف المفقودين في سجون نظام الأسد، الذين يُقدّر عددهم بحسب لجنة شؤون المفقودين بحوالي 100 ألف شخص، فراوي الفيلم والشاهد الرئيسي فيه هو أحد المسؤولين عن حفر المقابر الجماعية التي يستخدمها النظام كجزء من سياسة الإبادة الجماعية بحقّ المعتقلين في سجونه، حيثُ يتمّ فيها دفن وإخفاء جثث هؤلاء المعتقلين الذين قُتلوا تحت وطأة التعذيب في غياهب تلك السجون.

يأتي حفار القبور الذي في الفيلم كراوٍ وشاهد أساسيٍّ فيه يظهر يحمل اسمًا حركيًا يُدعى "زد 30" وهو الاسم الحركي الذي أعطته إياه محكمة كوبلنز الألمانية، بدوافع الخوف على عائلته التي ما زالت في سوريا، وذلك أثناء إدلائه بشهادته أمامها في المُحاكمة التي عقدتها -على عدة جلسات بلغ عددها 31 جلسة- من أجل محاسبة عدد من رموز النظام السوري، وفي مقدمتهم أنور رسلان الذي كان محققًا في أحد أفرع السجون التابعة له، وكان يُعطي أوامر بتنفيذ عمليات تعذيب بحقّ المعتقلين السياسيين الذين يتمّ اقتيادهم إلى ذلك الفرع.

يروي حفار القبور، أو زد 30، في شهادته أنّه كانت له وظيفة محدّدة ضمن إطار سياسة الإبادة الجماعية التي يُمارسها النظام السوري بحقّ المعتقلين في سجونه، وهي تجهيز المقابر الجماعية لجثث المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب، ومرافقتها عند تحميلها في شاحنات مُبرَّدة، حيثُ أنّها كانت تأتي من كافة الأفرع الأمنية والمستشفيات العسكرية وبعض المستشفيات المدنية، وكان هو مسؤولًا عن عملية نقلها من تلك الأفرع والمستشفيات إلى المقابر الجماعية التي يتم دفنها وإخفاؤها فيها.

يروي حفار القبور في شهادته أنّه استمرّ في وظيفته هذه من عام 2011 إلى عام 2018، وأنّه طُلبَ منه من قبل أحد عناصر المخابرات في نظام الأسد إعداد فريق مكوَّن من 10  إلى 15 رجلًا، بحيث يكونون مسؤولين عن مرافقة شاحنات محمّلة بالجثث إلى تلك المقابر الجماعية، ويروي الشاهد بأنّ تلك الجثث لم يكن لها أسماء بل كانت تحمل رموز أو أرقام، ويؤكّد في شهادته بأنّ الكثير من تلك الجثث كانت وجوهها مشوّهة، حيثُ أنّها تنقل من الأفرع الأمنية والمستشفيات العسكرية والمدنية محملة بالشاحنات التي يصل عددها من شاحنة إلى ثلاث شاحنات في اليوم الواحد، تكون محملة في ما يُقدّر عدده بين 300 و700 جثة، ويكون انطلاقها فجرًا ما بين الساعة الرابعة والخامسة، وذلك من مستشفيات تشرين وحرستا ومزة العسكرية، إلى المقبرتين الجماعيتين في القطيفة (الواقعة شمال دمشق) ونجها (الواقعة في جنوب دمشق)، حيثُ يقوم الرجال المرافقين لها -وعلى رأسهم حفار القبور- بتفريغها عشوائيًا في حفرة عملاقة بعمق 6 أمتار وطول 100 متر.

ورغمَ التأثر الذي أبداه حفار القبور في روايته حول طبيعة وظيفته المحددة ضمن إطار سياسة الإبادة الجماعية ضدّ المعتقلين في سجون نظام الأسد، وخصوصًا عند روايته لمشهد قيامه بدفن جثة امرأة وعلى صدرها جثة طفلها الرضيع؛ رغمَ التأثر الكبير الذي أبداه الشاهد عند روايته لهذه الحادثة وغيرها، إلا أنّ اللافت في شهادته كان إيراده لمسألة البيروقراطية في سياسات الإبادة الجماعية التي يَقوم نظام الأسد بانتهاجها ضدّ المعتقلين وجثثهم، فقد ذكر حفار القبور بأنّ هناك طرفًا معينًا يُدعى "مكتب دفن الموتى"، كان مسؤولًا عن تغليف جثث المعتقلين بأكياس نايلون سوداء ثم تحميلها في الشاحنات التي كان يُطلب منه مرافقتها ودفنها في المقابر الجماعية.

يساهم تقسيم المهمة الكلية للإبادة إلى وحدات مجزأة في الزمان والمكان والعمل في خلق مسافة ضرورية بين الضحايا وأولئك الذين شاركوا في إبادتهم

 

تدفع إشارة حفار القبور السابقة في الفيلم، حول هذه البيروقراطية أو الحرض على توزيع الأدوار التي يتبعها النظام السوري في سياسة الإبادة الجماعية ضدّ المعتقلين في سجونه، إلى التساؤل حول كيفية تسهيل هذه البيروقراطية مسألة تنفيذ هذه السياسة؟ وكيف تّعمل على تخفيف العبء الأخلاقي عن منفِّذيها بحيث أنّها تدفع عنهم عبء الشعور بارتكاب الجريمة الكاملة؟

وفي سياق الإجابة عن الأسئلة السابقة، فإنّ آدم جونز يُورد في بحثه حول "سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الإبادة الجماعية" بأنّ عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان وضمن إطار سعيه لمقاربة ظاهرة الإبادة الجماعية –ممثلة بالهولوكوست- من زاوية حداثية، قد اعتبر البيروقراطية هي سمة جوهرية من سمات الحداثة التي تُمثّل الشرط اللازم لوقوع الإبادة.

العربي-التلفزيون

ويورد جوبز بأنّ البيروقراطية ضمن سياسة الإبادة الجماعية تُساهم في تقسيم المهمة الإجمالية الكلية للإبادة إلى وحدات مجزأة في الزمان والمكان والعمل، وهو الأمر الذي يعمل على خلق مسافة ضرورية بين الضحايا وأولئك الذين شاركوا في إبادتهم، حيثُ يُورد –ضمن هذا الإطار- "إنّ البيروقراطية تُبدي ميلًا إلى تعزيز العقلانية الشكلية لا الموضوعاتية، هذا يعني نمط التفكير الذي يُشدّد على الفاعلية، لا على الاعتبارات الأخلاقية أو السياقية".

وإنّه يُمكن تفسير المقولة السابقة في ضوء ما أورده عزمي بشارة في مقدمة كتاب "الحداثة والهولوكوست" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان) لزيجمونت باومان والتي جاءت تحت عنوان: "الحداثة وآليات تحييد الأخلاق"، فبحسب بشارة فإنّ البيروقراطية قادرة على ارتكاب جرام الإبادة، لأنّ التقسيم التراتبي والوظيفي للجرائم المرتكبة ضمن عملية الإبادة الجماعية، يؤدي إلى تكريس الفصل البيروقراطي بين الأخلاق والغايات، حيثُ أنّه يؤدي إلى تحويل شعور مرتكبيها من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن غايات وظيفتهم إلى الشعور بالمسؤولية التكنيكية الإجرائية عن إتمام الوظيفة على الوجه الأمثل.

وإنّ تعزيز الشعور بالمسؤولية التكنيكية الإجرائية على حساب المسؤولية الأخلاقية يدفع بمرتكبي كلّ وظيفة من وظائف الإبادة إلى الحرص على إتقان العمل وإنجاز المهمة المحدّدة بين أيديهم، وهو ما يؤدي إلى تغييب حقيقة كونهم جزءًا من عملية إبادة جماعية عن أذهانهم.

بحسب عزمي بشارة يؤدي التقسيم التراتبي والوظيفي للجرائم المرتكبة ضمن عملية الإبادة الجماعية إلى تكريس الفصل بين الأخلاق والغايات

أخيرًا، فإنّه يُمكن القول بأنّ شهادة حفار القبور حول وظيفته المحددة في سياسة الإبادة الجماعية التي كان ومازال يتبعها النظام الأسدي ضدّ المعتقلين في سجونه، تأتي لتؤكّد على أنّ اتباع البيروقراطية والتحديد الوظيفي في عمليات الإبادة الجماعية تُساهم بشكل أو بآخر في الدفع بأصحاب الوظائف المحددة ضمن هذه العملية إلى تحييد شعورهم بالمسؤولية الأخلاقية عنها، حيثُ أنّها تدفع بهم إلى نسيان الغاية الكلية من وظيفتهم وإلى تقديم واجب تنفيذها على الوجه الأمثل، وهو الأمر الذي تحدّثت عنه المنظّرة السياسية حنة آرندت في مقاربتها للشرّ التافه عند البشر، وهو الشرّ الذي يدفع بهم نحو التصرّف بلا رحمة أو شفقة، وهم يشعرون بأنّهم يرتكبون أفعالًا بسيطة وعاديّة، حيثُ أكّدت آرندت بأنّ مرتكبي هذا النوع من الشرّ هم في أغلب الأحيان مجموعة من الموظفين البيروقراطيين الذين يقومون بتنفيذ أوامر سادتهم دون أن يُفكروا ودون أن يمتلكوا الجرأة على التفكير.