03-يناير-2016

من الفيلم

الهجرة غير الشرعية هي موضوع الساعة مع الأخبار التي تطالعنا بها الشاشات والجرائد عن قوارب تغرق في عرض البحر، ويموت راكبوها ممن ضاقت بهم بلادهم وحلموا بالوصول إلى حياة أكثر إنسانية على الشواطئ الجنوبية لأوروبا. 

غالبًا ما تكون الهجرة غير الشرعية ثيمة سينمائية يمكن بسهولة تسليعها وتسييسها 

لسنوات عديدة ألقت الهجرة بظلالها الحسّاسة على السينما العالمية. ومع ذلك، ورغم المعالجات السينمائية الرصينة الأخيرة مثل الفيلم الفرنسي "ديبان" لجاك أوديار الذي يلقي نظرة قاتمة على عالم مهاجرين غير شرعيين من سريلانكا يحاولون التكيّف في ضاحية فرنسية تديرها عصابة، فهي أيضًا ثيمة يمكن بسهولة تسليعها وتسييسها وغالبًا ما تكون عرضة لاستسهال الطروحات في أفلام لا تُحسن التعامل مع هكذا موضوعات ثقيلة الوزن ومتعددة الأسباب والنتائج. في بعض الأحيان، يحدث ذلك أيضًا كنتيجة للتقلّبات الميلودرامية في حكاية الفيلم، يصبح الأمر مكرورًا ويمكن التنبؤ به.

ما سبق ليس هو الحال مع فيلم "البحر الأبيض المتوسط" (MEDITERRANEA)، باكورة أفلام المخرج الإيطالي جوناس كاربينانو، والذي استقبل بحفاوة في العديد من المهرجانات السينمائية على مدار العام قبل أن يحطّ رحاله في القاهرة لينال تصفيق الحاضرين في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، حيث تمّ عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته السابعة والثلاثين، وقد توّج لاحقًا بجائزة الهرم الذهبي، كبرى جوائز المهرجان العريق. بأسلوب ونهج يمكن وصفه بالمضاد للسينما، يصل فيلم جوناس كاربينانو إلى هدفه بنجاح والمتمثّل في رسم وضع إنساني مروّع بمقاربة توقظ الأسئلة ومن دون إطلاق الأحكام.

النهج المتبع من قبل كاربينانو يميل للواقعية مع استعانة بالأدوات السينمائية في حدّها الأدنى، لدرجة يبدو فيها الفيلم لديه من القواسم المشتركة مع صناعة الفيلم الوثائقي أكثر مما لديه مع السينما الروائية. يُعلي المخرج من حيوية فيلمه وقوة تأثيره عن طريق التمثيل الحقيقي لواقع الشخصيات، وبالتالي لا يستخدم الفيلم الموسيقى للّعب على مشاعر المتفرّج. في الوقت ذاته، تأتي الكاميرا المحمولة وتغيب الحوارات المطوّلة ليشكّل هذان العنصران ما يمكن رؤيته بالأساس كتجربة مشاهدة لا تدعو لإصدار الأحكام ولكن لمحاولة الفهم، وهو ما يسمح بتفاعل أكثر انفتاحًا من قبل المشاهدين ليس فقط على أساس النظر والتدقيق في السياق الثقافي للفيلم، ولكن أيضًا على مستوى الاستخلاص النهائي والحالة الشعورية التي سيصل إليها المُشاهدون، كلّ على حدة، كردّ فعل على طريقة سرد الفيلم.

يتابع الفيلم قصة صديقين من بوركينا فاسو يقومان بهذه الرحلة الخطرة من صحراء أفريقيا إلى شواطئ إيطاليا من أجل حياة أفضل. ينتهي بهم المطاف إلى حي للمهاجرين في روزارنو في كالابريا، وتحديدًا في العام 2010، وهو الأمر الذي سيؤدّي، وسط جو متوتّر من الصراعات العرقية، إلى اندلاع ثورة عنيفة من قبل المهاجرين الأفارقة الذين لم يجدوا الحياة التي طالما حلموا بها.

يتابع فيلم MEDITERRANEA قصة صديقين يقومان برحلة من صحراء أفريقيا إلى شواطئ إيطاليا من أجل حياة أفضل

اندلاع أعمال العنف في نهاية الفيلم هو التتويج الفادح لبناء تراكمي من مشاهد ولقطات مسيطر عليها بعناية تبدو غريبة بالنظر إلى حداثة تجربة المخرج وراء الكاميرا. ينجح كاربينانو في تصوير اجتياح الأجواء المرعبة في لحظات واضحة وصادمة وهو في ذلك يبيّن فاعليته في الإمساك بصورة سينمائية مكافئة لوضع معيشي ميؤوس منه تقريبًا.

الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية آييفا (كودور سيهون) والتي تهيمن على حكاية الفيلم وخطوطه السردية، ومن خلال تصوير تلك الشخصية وتتبُّع مسارها يتضحّ للمُشاهد الوضع الكارثي الذي آلت إليه أمور هذا المهاجر الأفريقي وهو يقوم بما يقوم من أعمال شاقة فيما يمكن وصفه بسهولة بأنه شكل من أشكال العبودية الحديثة: العيش في خيام رثة وغير كافية لاتقاء البرد الأوروبي، والتعرّض باستمرار إلى التمييز المباشر أو غير المباشر من أهالي المنطقة، والاستغلال الجائر من قبل صاحب العمل الذي يمثّل الأمل الوحيد للحصول على تصريح عمل من شأنه السماح للمهاجر بالبقاء في إيطاليا، واستئناف حلمه في جلب باقي أفراد أسرته إلى البلد الأوروبي، حياة "اليوم بيومه" المثالية في قسوتها.

نظرات آييفا الشاردة تنبيء عن قلق مدروس، حين يعبّر صديقه عن عدم رضاه عن حالهما التي تتعارض بوضوح مع أحلامهما قبل الشروع في رحلة الهجرة الشاقة يردّ عليه ببساطة بجملة على غرار: "ماذا تريد أن تفعل؟ العودة؟". آييفا هو المهاجر التعيس المعلّق بطريقة أو بأخرى بجعل حلمه الأوروبي ممكنًا، الحلم الذي يبدو مع ذلك بعيد المنال في كل الأحوال.

اقرأ/ي أيضًا:

أوديسا عراقية.. نشيد الشتات الأخير

"خطاب إلى الملك".. الجرح الكردي المهاجر