12-أبريل-2016

وليد سيتي/ كردستان العراق

1

بدأ الأمر يعنيني وكأني المسؤول عن إضراب السماء عن المطر (في الحلم حشد من الناس يبدو عليهم الذهول، بأيد متسائلة وأفواه تصدر لغوًا واسعًا، كل منهم يحمل عصا طويلة يلمس بها بطنًا كبيرة تحجب السماء).

2

لديَّ غرفة من الطين، وبناءات من الإسمنت رزينة وحصينة تحيط بمملكتي الهشَّة، أرانبُ عديدة تواظب الحفر في الليل تحت غرفتي، فترات قصيرة من الهدوء تدرك حين تتبادل مهام الحفر فيما بينها، يستغل أبي غيابي المتكرر ليحيط المكان في كل مرة بمساحات من الإسمنت يزعم بأنها تفيد في الحدّ من غزو الأرانب والحشرات، إسمنت فضّي يحمله من الفائض عن جبلة العمارة المقابلة لبيتنا، تشتمني أمي ممازحةً حين أبدي استيائي في كل مرة من توسع فكرة أبي، إنه يستغل حبي له، وأمي تذكّرني بأفضاله الكبيرة عليّ.

3

مات مدرِّس الرياضيات بعد حوار صامت مع سرطان الدم، بطريقةٍ غريبة كنت حاضرًا أمام منزله عندما وصل من دمشق، وسط نواح صاخب تتبعت مرثية تتساءل ما إذا كان الميت سيأتي حاملًا الباذنجان لتصنع له صاحبة الصوت مكدوسًا، منهية جملتها الطويلة بمواء قاتل، بعد أن استقرّ جسده في قعر الحفرة المهيأة مسبقًا، بدا التراب ينهمر بفعل الرفوش تغرف من هشاشة المحيط ترابًا وحجرًا وهواء، انتهزت بدوري فرصةً لبذل جهد يبعث شيئًا من الحرارة في جوفي، نادى صوت عبر كثافة الأجساد الذكور بأن لا شيء يدوم وثمّت موت فانبعاث فموت فانبعاث... قالها بحصافة الدعاء ومهارة المحترف، ذاكرًا في كل مرة اسم المتوفى واسم أمه.

4

بوضعية القرفصاء، عددنا يناهز الألفين، بعد تهديد بمصادرة الأغراض الممنوعة، ونصيحة من هنا وأخرى من هناك تفيد في تسليم كل ما سيورد اسمه عبر الصوت الجهوري للجندي ذي اللهجة البدوية، تم تفتيشنا بسرعة، وترتيبنا في طوابير متناسقة، أُرسلنا بمجموعات متقاربة العدد نحو مهاجع معتمة، داعبنا المجند القديم المتأفف، بأن طلب إلينا أن ننزع ثيابنا بطريقة ذائعة الصيت في أعراف الجيش بالشورت، أسرع البعض، استنكر البعض الآخر، أنهينا المشكلة المتعاظمة بين سيادة المجند والإخوة القبضايات، جمعنا ثيابنا وأغراضنا وبدأنا الولوج إلى سديم المهجع، مهتدين إلى الأسرَّة المرصوفة بمساعدة شرر الولّاعات، كل ثلاثة إلى سريرين، مع أحلامٍ قصيرة متداخلة وقلقٍ عذب.

5

يردد المؤدي الكردي للمرة العشرين بإيعاز مني وانصياع مطلق من الحاسوب أغنية تقول: فليكن القلب الشقي متيَّمًا.. حينها، ليكن المرء حاملًا صرَّة الشحاذ على ظهره، يتسوَّل بعيدًا في الغربة، بين اثني عشر بلد أجنبي روسي، قاصدًا منازل يملكها أناسٌ قُساة، وبصرَّةٍ بالية حيث تتبعثر الغلّة، وليكن الملجأ حائط منازل العبيد، والفراش جلد القنافذ، والغطاء نباتًا شائكًا، والوسادة من الحجر، في تلك القرى الروسية البعيدة.. فقط ليكن القلب الشقي متيَّمًا، أيا أيها القلب.. أيها القلب..

6

خالي ينام في غرفتي، في صباح باكر لمحته يبتسم في نومه، نظارته تترك أثرًا أحمرَ على بشرته الدهنية البيضاء عند أعلى أنفه حيث يتوضَّع المسندان المطاطيان، ينهي كتابًا كاملًا قبل أن ينام، لقد سقط مؤخرًا من حرب عالقة في رأس المكان، في الجهة المقابلة لغيوم قامشلي الافتراضية، يعتني بمدفأة الحطب في غرفتي، ويجري مكالمات صامتة عبر الهاتف اللاسلكي، ينصت فيها إلى صوت فتيات يافعات، أخبرته بأنني لم أكن أعلم في البداية بأن مدرس الرياضيات المتوفّى هو نفسه الذي اقتلع بضع شعيرات من صدغي لأني سهوت عن ترقيم سؤال كنت الوحيد الذي أجاد حلّه من بين تلاميذ الصف السادس قبل ثمانية عشر سنة خلت.

7

في فراشين متقاربين، المدفأة الكهربائية عند أقدامنا، خلفنا مصطبة من الكتب المبعثرة بلغات عديدة ما عدا العربية، يبدأ هو بترجمة فورية من الإنجليزية إلى العربية لإحدى كتب هنري ميلر (وسط مدينة كبيرة وعبر أنفاق عديدة وجسور مرتفعة يسرد ميلر مستويات عديدة من الرؤية المتخيلة والحقيقية مانحًا كلماته روحًا واهنة تتبدد رويدًا رويدًا لتفضي بالنهاية إلى حزنه الغامض) لم أتجرأ في طلب التدخين، ولا حتى أن يتوقف عن سخائه في الترجمة، بينما الثلج يتكدس في الخارج، وعليّ أن أمضي يومًا جميلًا آخر مجبرًا، برفقة أحاديثه المفصّلة عن السينما، يتوقف فجأة طالبًا مني أن أتوقف عن مناداته بلقبه اعتبارًا من الغد، تظاهرت بالنوم، لم تفلح خدعتي، اقترحت عليه رغبتي برفقته لزيارة قبر والدته، شهق بفزع، نعتني بالوحش، شدّ اللحاف وأدار ظهره ممتعضًا، متمتمًا بأسماء حيوانات عديدة.

8

كمية كبيرة من الكحول، أجبرتني للنوم في الغرفة الوحيدة لأحدهم، بعد اتفاق متساهل بين جميع المغادرين وصاحب الغرفة وصديقته، أستيقظ فجرًا على لهاث ماجن، وطقطقة السرير، وابتسامة ماكرة من المضيف، والساقين الناصعتين لفتاته الأجنبية، أتسلل خارجًا نحو الشوارع شبه الخالية قاصدًا البوفيه السوداني، حجرتان صغيرتان بينهما كوّة للتواصل مع النادل عباس، رجل ضخم وابتسامة سهلة، كان المكان هادئًا وشبه مقفل، متسللًا أيضًا، وعبر الكوّة، عباس مديرًا ظهره، سرواله يتدلى أسفل فخذيه، مؤخرة سوداء قوية مشدودة، حاملًا امرأة، يداه تلفان خصرها، وظهرها مسند إلى حافة المجلى، انتظرته خارجًا، كوب من الشاي وبعض الزبدة ومربى المشمش، التهمتها كلها، خرجت خليلته الفرنسية، ودّعته بقبلة، أنا أيضًا ودعته بنقود في يديه، لبستني ابتسامة عباس كل اليوم، حتى داخل قلعة دمشق حيث أدرس.

9

ترجمانو، أول من أشهر مثليته في القامشلي، في بداية التسعينيات، كان يتصرف كمتسكع، بمؤخرة كبيرة، وبشرةٍ ملساء، ووجه سوّي فيه الحاجبان والأهداب، وشفتان مكتنزتان لامعتان، في إحدى الباصات الصغيرة المائلة، والتي كانت تعمل سيرفيس في حلقة شبه دائرية وسط المدينة، خط الكورنيش، يتلقط ترجمانو النقود من أيدي الركاب الحائرين، موبخًا النساء بأن لا فائدة ترجى منهن سوى بسط مؤخراتهن العارمات، امتزج كلامه الأخير مع ولولة مصطنعة، وأيدي تكمّ الأفواه والأنوف ذهولًا، وشتائم فاضحة، وضحكات تجرّ أحاديث جنسية لا نهاية لها، أردف ترجمانو مستغلًا عدم تدخل السائق في إسكاته: ليلة واحدة لي مع أزواجكن كافية ليهجروكن كل العمر (ضاربًا طرف مؤخرته ثلاث مرات بإيقاع سريع) حتى زوج الشقراء الصغيرة، مشيرًا إلى امرأة جالسة في الزاوية مع زوجها، أفرغ النقود في علبة السائق بقفزات قصيرة سريعة، غادر الباص، غادر القامشلي، غادر سوريا.. إلى أوروبا حيث النقود مرمية في الطرقات.

10

الريحان نبات عطري، له رائحة فوّاحة، قريبة من النعناع، حتى إن شكل أوراقه أيضًا يشبه أوراق النعناع، يتواجد بكثرة على أطراف الأنهار الصغيرة والبطيئة، الشكل الكامل للنبتة مكوَّر تقريبًا، فروعه الصغيرة متداخلة ومتقاربة، أزهاره دقيقة الحجم بيضاء، لها بتلتان أو ثلاث، وهي على شكل عناقيد صغيرة، تحيط بساق ذي مقطع مربع في كل ضلع من أضلاعه تجويف صغير يمتدّ على طول الساق، في آخر عمره تكثر الأزهار أعلى النبات، ويفتقد هذا الجزء الأوراق الكبيرة، فقط وريقات صغيرة متصلة بتويج يحتوي البذور البيضاء التي تتركها الزهور المتساقطة، يقترن اسمه بالقدّ الميّاس بابتذال مفرط في معظم الأغاني الشعبية رغم وجود أمثلة أوضح مثل السرو و(السبي دار) والحور والقصب والزل.. إلخ.

11

مكان عملي يتوسَّط سوق المدينة الكبير، تستغلّ الموظّفات ساعات الفراغ المديدة لينبشن الرفوف الراكدة ببضائع منسية لمحلات مجاورة، يحدد رئيسي في العمل إحداثيات النوافذ التي تطل منها فتيات لا يدرك جمالهن عن بعد، يصف تأخري المعتاد في الصباح بالمشين، وحياتي بالتافهة، وأنا بدوري، أبالغ في ترتيب مكان جلوسي بإحاطته بفنجان من القهوة، منفضة سجائر نظيفة، وكتب لا يرغب من هم حولي سوى بتهجئة عناوينها، واسم الكاتب بصوتٍ عالٍ، حفنة من بذر اليقطين التركي في كيس من الورق فوق طاولة الرئيس، وتحشد نسائي برتل متدرج في الصالون، ابتسامات مترددة، يوعز المعلم إليهنّ بانصراف مبكر، نتقاسم نحن الموظفون (الرجال) الصامدون حفنة البذر الأبيض، المستورد من بلد يبعد شمالًا بأمتار عديدة خلف الأسلاك الشائكة للحدود، بإيقاع موحّد، متسارع، تتحرك الأيدي بين مواضع اللبّ فالأفواه فالمنافض، مع صمتٍ تام سوى ما يسمع من صوت انفلاق القشور بين الأسنان الأمامية لستة رجال، تراجعت إلى الوراء لأهيئ نفسي لضحكة مسرحية أربكت زملائي، أشار السائق الشبه أمّي بيديه، مرددًا كما لو أنه يقدّم مشهدًا: البطالة المقنعة/زعق الجميع ضحكات حادّة وسعال رافق انتفاضة أجسادنا العليلة.

12

بركة دائرية تتوسط باحة المقصف في الملعب البلدي، تحيط بالبركة أربعة تماثيل جصيّة لآلهة الينبوع، امرأة متجهّمة، بثديين ناتئين، تحمل جرة يُسكب منها ماء قادم عبر أنابيب داخل الكتلة الهشة للصنم البني، أصرّ الفتى الأصهب عبد الباسط ذو السنين الأربعة عشر، أن يتلمس أثداء المرأة التي كانت ربة قبل ثلاثة آلاف عام تقريبًا، صعد الحافة المعدنية للبركة، تلمّس الجصّ، عانقه، اغتصب الثوب الكتيم بحركاتٍ سريعة من حوضه باتجاه التمثال الصنبور، اهتاج الجصّ مندفعا نحوه، غاص الفتى عميقًا تاركًا عشيقته تطوف فوق الماء الخضراء، قاع البركة بيضوي، لم ينجح رفيقاه في إنقاذه بخرطوم يستخدم لسقاية عشب الملعب، هرعوا لطلب المساعدة، تأخر أحد المتبرعين في إخراجه، أفرغت مياه البركة، بينما جثة الفتى الممتلئة بالمياه الدبقة ممددة وسط حشد من الرياضيين، خطوط طويلة تركتها أظافره أثرًا على طبقة الطحالب السميكة التي تغطّي جدران البركة، أُفرغت البركة من المياه، أُفرغت من الجراذين النافقة، من صحون المقصف المكسورة، من الربة الأرملة، من لهاث طفولي ماجن، من صرخات نجدة كتمها الماء، من فزعٍ دام ثوانٍ بطيئة... بتر اليوم الثاني من العيد بخيمة تتوسط الساحة الفارهة لحيّنا.

اقرأ/ي أيضًا:

كائناتٌ مجهريّةٌ

أضغـاث