05-ديسمبر-2023
كاريكاتير

كاريكاتير لـ أغوس ويدودو/ إندونيسيا

بعد مرور 60 يومًا على العدوان، أصبحنا نعرف جميعًا أن غزة قلبت العديد من الموازين. إذ سقطت الكثير من الأقنعة، وفقد كثير من مدّعي حقوق الإنسان والنشطاء مصداقيتهم، ولم يعد هناك أمام المجزرة الحاصلة أية قيمة للمواثيق الشكلية والكلام الإنشائي الذي نظّر به الغرب لعقود طويلة ولفظَ مصداقيّته على مدى الشهرين الماضيين. 

وعلى الرغم من تدنّي مستوى التوقعات وتفاوته من شخص إلى آخر، فالعديد من شعوب المنطقة لا تعوّل على قادة مفوّهين، أو منظمات إنسانية، أو جهات دولية أممية بعد كل المآسي والخيبات التي شهدناها في السنوات والعقود الماضية؛ لاسيّما وأنّ "أدوات السيّد لن تهدم منزله" كما يذكّرنا الدكتور الفلسطيني غسّان أبو ستّة، إلا أن هناك مستويات من الفجاجة الصارخة غير المسبوقة في ازدواجية المعايير لا تزال تنجح في مفاجأتنا.

تدّعي الهيئات الإنسانية الدولية أنها حيادية ومستقلة، لكنها في الواقع غالبًا ما تكون متواطئة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع الطرف الأقوى على حساب المدنيين

ولعل آخر إخفاق رأيناه على منصات التواصل ووسائل الإعلام كان لـ"منظمة الصليب الأحمر". ففي 9 تشرين الثاني/نوفمبر، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية "مستشفى النصر" في مدينة غزة، ما تسبب بقطع إمدادات الأوكسجين عن وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة. ووفقًا لمنظمة "أطباء بلا حدود"، فإن الهجوم أجبر الموظفين على إخلاء المستشفى في اليوم التالي تاركين الأطفال الرضّع بمفردهم بسبب صعوبة نقلهم من العناية المركزة.

ووجّه حينها مدير المستشفى الطبيب مصطفى الكحلوت، في مقطع مصور، نداءً للمنظمات الدولية بما فيها "الصليب الأحمر" لإنقاذ الأطفال الخمسة، لكنه لم يتلق أي رد. وفي 28 تشرين الثاني/نوفمبر، أثناء وقف إطلاق النار، تمكّن الأطباء من العودة إلى المستشفى، ووجدوا  الأطفال الرضّع الخمسة ميتين.

هاجت حينها الدعوات لمحاسبة "الصليب الأحمر" لتقصيره في الاستجابة لنداءات إنقاذ أرواح الأطفال، وتزامن ذلك مع انتشار مقاطع مصورة خلال الأسبوع الماضي أظهرت التباين الشاسع في معاملة طواقم "الصليب الأحمر" للأسرى الفلسطينيين مقارنةً بالمحتجزين الإسرائليين.

يقول الصحفي معاذ حامد في تغريدة نشرها تعليقًا على مشهد عناق موظفي "الصليب الأحمر" للمتجزين الإسرائيليين: "اعتقلتني إسرائيل عندما كنت طفلًا عدة مرات (...) دومًا زارني (الصليب الأحمر) على انفراد. في حياتي كلها لم يقم أحد منهم بمعانقتي. لم تتجاوز تحياتهم المصافحة. هنا نشاهد أحضانًا جماعية من الصليب للإسرائيليات المفرج عنهن من غزة".

من يعمل في ما يسمى بـ"قطاع العمل الإنساني" يعلم ضخامة ميزانيات هيئات كـ"الصليب الأحمر" ووكالات الأمم المتحدة وقدراتها التنظيمية والتنسيقية. والمشكلة هنا تكمن في تصدّرها الدائم للمشهد على أنها "غير حكومية" و"مستقلة" و"حيادية"، وأن هدفها الأول الإغاثة وتخفيف المعاناة الإنسانية في زمن الحروب والصراعات، في الوقت الذي غالبًا ما نرى فيه انحيازها لطرف دون آخر.

يؤكد ذلك المؤرخ بيرنارد تايت، مدير قسم الاستجابة الإنسانية في الصراعات في "جامعة مانشستر"، حيث يقول:"لطالما وجدت بعثات (الصليب الأحمر الدولية) نفسها في مواقع (غير مريحة) في كل مرة تعمل فيها في سياق الحروب الأهلية أو عند وجود جماعات مسلحة أو سلطات الأمر الواقع. في بلدان كسوريا واليمن، تميل استجابة (الصليب الأحمر) للتنسيق مع الحكومات أولًا وأجهزة الدولة النظامية، وهذا بحد ذاته يعد إشكالًا".

وقد واجهت جهات مثل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) و"الصليب الأحمر" انتقادات لاذعة في عام 2016 لبطء استجابتها في إغاثة المحاصرين في بلدة مضايا في ريف دمشق، وكان ردهم حينها أنهم لا يريدون دعم مناطق مُعارِضة ضد النظام السوري، وأن الجزء الأكبر من استجاباتهم تكمن في المفاوضات حول إدخال المساعدات للمناطق المحاصرة.

لذلك، في الوقت الذي تتدعي فيه هذه الهيئات الدولية الحياد والاستقلالية، نرى أنها متواطئة بشكل مباشر أو غير مباشر مع الطرف الأقوى على حساب المدنيين لأنها لا تريد أن تشكّل أي تهديد أو خرق لـ"سيادة الدولة".

وما تُخاطب به في تصريحاتها الداخلية لموظفيها، والخارجية للعموم، نرى أنه يتمركز حول حرصها على عدم المخاطرة بسلامة الموظفين والمستفيدين أثناء تقديم المساعدات. بدليل ما حصل مع الرضّع في "مستشفى النصر". إذ كان بإمكان "الصليب الأحمر" التنسيق مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لتوفير غطاء إنساني يحفظ سلامة طواقمهم وإنقاذ الأطفال، لكن الأولويات وتفاوت طريقة التعاطي مع الفلسطينيين مقارنةً بـ"الإسرائيليين"، واضح وضوح الشمس.

الجيّد أن المساءلة التي لطالما طالب بها الحقوقيون والشعوب المتضررة في النزاعات، أصبحت الآن ممكنة بعد أن اتخذت من منصات التواصل الاجتماعي ساحة لها. فبخلاف ما كان يجري سابقًا، حين كان الإعلام مُحتكرًا من قِبل جهات حكومية ورسمية لها أجنداتها المعدة مسبقًا، أصبحنا نرى الآن حراكًا إلكترونيًا تحرّكه الضمائر الحية للأفراد والجماعات التي تقف كـ"سلطة رابعة" على مقربة من الصحافة لمواجهة التقصير وكشف زيف المواد الإعلامية الواهية.

قد يقول البعض إن المنشورات والوسوم لن تُرجع الأطفال لأهاليهم، أو تمحي بشاعة المجازر المرتكبة، لكنها في الواقع تؤثر حتمًا في مآلاتها الممكنة، بدليل التصريحات والبيانات التوضيحية التي تصدرها العديد من تلك الهيئات. إذ إن استعراضًا سريعًا للتعليقات، وكيفية التفاعل معها، يضع على الطاولة أصواتًا تغافلت عن سماعها تلك الهيئات في الماضي ولم تعر لها بالًا، لكنها الآن صاحبة قول ومحرك للرأي العام.

 ولن تمر تلك المنشورات والتعليقات الغاضبة مرور الكرام، بل ستصل إلى أكبر المناصب الإدارية التي أعتقد أنها ستكون، تدريجيًا، أكثر حرصًا في مخاطبتنا واستخدام لغة تحترم عقولنا بعد عقود من الاستخفاف والتهميش.

في النهاية، سيُحسب لأصواتنا حساب. فبعد العدوان الأخير، ومع كل قصف وانتهاك واستمرار في إبادة أهلنا في غزة، نجدد العهد أننا لن ننسى ولن نغفر هذا التقاعس، وسنرد على اختلاف الأدوات، سواء كانت مقاطعة على اختلاف أشكالها تؤدي إلى تطوير أدواتنا وهيئاتنا وإنعاش فعاليتها، أو جهود حشد ومناصرة، أو غيرها من أشكال المقاومة.

أسقطت غزة الكثير من الأقنعة، وأفقدت مدّعي حقوق الإنسان مصداقيتهم، ولم يعد بعد العدوان عليها أي معنى للكلام الإنشائي الذي نظّر به الغرب علينا 

وللمفارقة، عندما بحثت عن "أخطاء الصليب الأحمر التاريخية"- والتي أعرف أنها ليست قليلة كدوره السلبي في الإبادة الجماعية في رواندا، والحرب الأهلية في نيجيريا وتقاعسه الذي ليس ببعيد في مجاعة مضايا في ريف دمشق في سوريا- لم أجد إلا اعترافًا واحدًا على موقعه الرسمي يقر بأن: "أوشفيتز تُمثّل أكبر فشل في تاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي تفاقمت لعدم حزمها في اتخاذ خطوات لمساعدة ضحايا الاضطهاد النازي".

يقول البيان الذي يشير تاريخ صدوه إلى عام 2005: "سيظل هذا الفشل جزءًا من ذاكرة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكن أفضل الطريقة لتكريم الضحايا والناجين من محرقة الهولوكوست هي النضال لتحقيق الكرامة الإنسانية لكل رجل وامرأة وطفل في هذا العالم".

مع حراكنا ووقوفنا مع إخوتنا في غزة، سنحرص على إضافة المزيد من الفشل لذاكرة كل من تقاعس من موقعه المؤثّر عن اتخاذ موقف كان يمكن أن يوقف هذا العدوان ويضع حدًا لهذه المحرقة الجديدة.