04-ديسمبر-2023
طفل فلسطيني يحمل راية فلسطين وحماس

قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان العجزُ قد أكلَنا، بعد سنوات قاهرة من انهيار مديد وعميق في حياتنا السياسية العربيّة، بدت معه مجتمعاتنا مضطرة لمتابعة العيش برُبع عَيش، في انتظار لحظة خلاص قادمة بعد مرحلة وأكثر من الربيع المُجهض. في تلك السنين، نجحت إسرائيل، ومعها محور عربي انقسم على طريقة التسابق نحو التطبيع لا عليه نفسه، في خلق وضع تكون فلسطين فيه قضيّة للفلسطينيين وحدهم.  ثم استطالت هذه الحال وتشظّت، حتى صارت غزّة قضيّة للغزّيين وحدهم، في بقعة من الأرض لا ينطبق على من فيها أي اعتبار لقانون دولي أو شرعة إنسانيّة. 

بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ابتلعَنا العجز بالكامل. حاول بعضنا الصراخ في عدد من الشوارع العربيّة التي باتت ضيّقة وخانقة، لكنّ أثرَ حدّة القمع المستطيل قد غارت إلى عمق مرعب. بدا جليًا أيضًا، أمام هول المجزرة وأعداد الشهداء ومناظر الأطفال القتلى، وصرخات الأمهات، والفتيات، وكبار السنّ، هو أن شعورنا الشديد بالعار قد تغلّب على بقيّة تلك القدرة على الاحتجاج على الظلم أو الرغبة في فعل ما يمكن لتغييره. بدا الشارع لنا بعيدًا بعدَ غزّة وأكثر، واكتشفنا كما لم نكتشف من قبل قطّ، أنّنا في حالة من خراب عام في السياسة والقدرة على الاجتماع، وأننا مجرّدون تمامًا من كلّ سبيل للتغيير المدنيّ والاتفاق عليه. (يبدو أن حتى فكرة المقاطعة الشعبية للشركات الداعمة بشكل مباشر للاحتلال ليست محل اتفاق، وأن بعض الأنظمة حرّكت مجمعات الذباب الإلكتروني فيها، بعد استشعارها ضرورة تقويض أي حراك مجتمعي عفوي، حتى لو كان سلبيًا، كالمقاطعة).

بدا جليًا أيضًا، أمام هول المجزرة وأعداد الشهداء ومناظر الأطفال القتلى، وصرخات الأمهات، والفتيات، وكبار السنّ، هو أن شعورنا الشديد بالعار قد تغلّب على بقيّة تلك القدرة على الاحتجاج على الظلم أو الرغبة في فعل ما يمكن لتغييره

في الأثناء، رحنا نجرّب طريقة أخرى، لنعود في غمرة الحرب التي يسقط بها مئات الضحايا يوميًا منذ حوالي ستين يومًا إلى بسط أسس الصراع، واستعراض تاريخ قطاع غزّة في مسيرة النضال الفلسطيني منذ النكبة، ورحنا نفحص المسار الذي أدّى إلى 7 أكتوبر، وواقع الحصار، والحق في المقاومة، والقذارة المفرطة في الحديث عن الأخلاق في السياسة كما يحبّ أن تمارسها الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة للاحتلال. ومنذ الأيام الأولى للحرب الشاملة على غزة بعد الإغلاق عليها بالكامل، ومطالعة التصريحات الرسمية الإسرائيلية التي تشيطن كينونة الفلسطينيين جميعًا وتتوعّد بإبادتهم والانتقام منهم أينما كانوا، أخذنا نعدّد مراحل الإبادة العشرة الموصوفة كما جمعها غريغوري ستانتون، وتعريفاتها الأولى كما وضعها رافائيل ليمكين، ثم راقبنا تحققها العملي على الشاشات والهواتف، مع انتقال الجيش الإسرائيلي على عجلٍ بين المراحل، التي حرقها سريعًا وصولًا إلى مرحلة التنفيذ، المتواصلة بوضاعة حتّى اليوم.

في هذه المرحلة، تصاعد زخم العدوان الذي لم يترك حرمة إلا انتهكها، ورأى العالم ما لا ينبغي حصوله عدا عن رؤيته وشهوده من صنوف الإبادة والتقتيل، والتي بلغت ذروتها مع قصف المدارس والمستشفيات في شمال القطاع والمجازر المروّعة التي نجمت عنها، بالمئات في كل مجزرة. يحصل ذلك في قطاعٍ محاصر منذ حوالي عقدين، يعدّ محض حصاره انتهاكًا للقوانين الدولية وكل حسّ سليم، فكيف باجتياحه وقصفه بأثقل القنابل (الأمريكية) وأشدّها فتكًا، وفي جولة يريدها الاحتلال حاسمة لتجفيف منابع الحياة في عموم القطاع، والقضاء عليها تمامًا في شماله ووسطه.

الترا فلسطين

لم يوفّر الاحتلال أي هدف يختلف عمّا استهدفه في حروب سابقة، الفرق في نطاق العدوان والغايات التي يهدف إليها، والإمعان غير المسبوق في استعجال القتل العامّ، والذي اضطر تحقيق في نيويورك تايمز للاعتراف بأنه يقع على "وتيرة تاريخية"، وهو ما جعل استمرار الحديث عن الأضرار المادّية في البنى التحتيّة الأساسية مجرد ممارسة حسابيّة إحصائيّة، يزيد من فزع استعراضها أنّها جميعًا تقع بلا أمل قريب في المساءلة والحساب، أو حتى التحرّك العربيّ والعالمي لوضع حدّ له. فكلّ ما تبقّى تحت الحصار ونجا من دمار الحروب الإسرائيلية السابقة، ناله التدمير القاصم بعد السابع من أكتوبر، ويشمل ذلك الجامعات، التي دمّرت جزئيًا في السابق، وسوّيت بالأرض تمامًا اليوم، ومنها جامعة الأزهر، والجامعة الإسلامية في غزة، التي استشهد رئيسها، البروفيسور سفيان تايه، وبتر الاحتلال أسرته جميعًا، وكأن الاحتلال يعلن مع كلّ عملية استهداف للحياة الفلسطينية، أنّه فوق القتل العميم، والقضاء على الحياة الحاضرة، سيقضي على أي إمكان لحياة قادمة، وهو ما يعني أن سقفًا ما لعدد القتلى أو فئتهم غير موجود في اعتباره أصلًا، وأن القصد الأساسي لهذه الحرب هي الإبادة، وحلّ أي شكل لحياة الفلسطينيين في القطاع كجماعة إنسانية ووطنيّة.

تصاعد إزاء ذلك حراك مئات الآلاف من الناس في شوارع وميادين كبرى حول العالم (غير العربي) ممّن شاركوا في تظاهرات وحركات احتجاجية وتضامنيّة تعددت أشكالها، اشتملت على التقريع بالمسؤولين في الميادين العامة ومقاطعة فعالياتهم، آخرون أضربوا عن الطعام، ووصل الأمر بآخرين إلى إضرام النار في أنفسهم أمام قنصليّة الكيان، طلبًا لتوقّف هذه الحرب، ورفض أيّة حجّة كانت على استمرارها.

ثم وفي 22 تشرين الثاني/نوفمبر، وبعد 46 يومًا من العدوان والإبادة المعلنة، تمّ إعلان التوصّل إلى "هدنة" مؤقتة. الشهداء عند تلك النقطة تحوّلوا إلى مجرّد أرقام فعلًا، بدلالة أنّنا ووسائل الإعلام  بتنا نأتي عليها سريعًا بعد تجاوز الآلاف العشرة الأولى. وعلى الرغم من تزايد الضغط الدولي لوقف الحرب، وتزايد الخسائر الإسرائيلية المادية والبشرية بعد خسارتها السمعويّة وتكشّف أكاذيب دعايتها الحربيّة المكثّفة والرديئة حول المشافي، بل وحول ما جرى في يوم السابع من أكتوبر نفسه، ظلّ الهاجس قائمًا بأن هذه الحرب لم تتوقّف إلا لتبدأ مجددًا، "بقوّة وسرعة وقسوة" مضاعفة، كما نصح كيسنجر وبلينكن من بعده الإسرائيليين غير مرّة.

ظلت تتّضح مع استمرار الحرب هذه القصديّة في إبادة أسس الحياة الجوهرية وإمكانها في قطاع غزّة على نحو يمتنع معه تأطيرها بشكل خطّي رجعي يقف عن حدّ السابع من أكتوبر، من أجل ادعاء الاحتلال الحقّ في دفعه ومنع تكراره. يعود ذلك أساسًا-وبصرف النظر عن الرأي في الهجوم ذاته- لامتناع انطباق مبدأ الدفاع عن النفس على الاحتلال الإسرائيلي، لحقيقة كونه احتلالًا، وذلك بموجب القانون الدولي واتفاقية لاهاي لعام 1907، الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحروب، والتي حظرت على الدولة القائمة بالاحتلال التذرّع بأفعال المقاومة لتبرير العقوبة الجماعية على الشعب المحتلّ، وهو ما أكّده الدكتور عزمي بشارة في محاضرته في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والتي قارب فيها الحرب على غزة من منظور السياسة والأخلاق والقانون الدولي. فقد رفض بشارة في المحاضرة ذاتها استحواذ إسرائيل على هذه الحجّة، وأعاد التذكير في هذا السياق بأن الحقّ الأصلي في المقاومة مكفول بموجب مبادئ الأمم المتحدة، وهو رغم ذلك غير مطلق، أي ينبغي تقيّده بالقوانين الدولية والعرف الإنساني.

رغم ذلك، يتواصل إصرار إعلاميين وكتّاب صحفيين ومثقفين ومؤسسات بحثيّة على التقيّد بإملاءات الدعاية الإسرائيلية والأمريكية والحرص على مسايرتها والاتساق معها، حيث يتفشّى منطق تبرير الحرب من باب استشعار إسرائيل "التهديد الوجوديّ" أمام "إرهاب" الفلسطينيين، وشرعنة هذه الحرب الهمجيّة المتفلّته من جميع الضوابط، بدعوى الدفاع عن النفس دون ذلك، مع استدعاء لهجوم السابع من أكتوبر، وجبِّ كل ما سبقه أو تبعه من جرائم الاحتلال. وضمن هذا المنطق المختلّ، يغدو جميع الفلسطينيين هدفًا مشروعًا لآلة القتل الإسرائيلية، لأنهم إما "أضرار جانبيّة"، أو "دروع بشريّة" باستخدام المقاومة لهم كذلك أو عبر رفضهم التخلّي عنها والإصرار على تأييدها ودعمها.

وهكذا، ينطلق هؤلاء من مقدّمات خطيرة بينة الاضطراب وذات حمولة دعائية مضللة، تؤكّد ضرورة الفصل بين معظم الفلسطينيين في غزّة والمقاومة، عبر محاولة البرهنة على أنّهم (أي الفلسطينيين) لا يؤيّدونها ويرفضون نهجها في الحكم والإدارة، وأنهم قاب قوسين من الانقلاب شعبيًا عليها، وبذلك فإنهم كجماعة من البشر يستحقّون توفير حياتهم، ويجدر عدم اعتبارهم أهدافًا مشروعة للحرب، إلا إذا ثبت خلاف ذلك.

وفي حين ترددت هذه المحاججة في بعض وسائل الإعلام الليبرالية الغربيّة، من قبل مهدي حسن وسواه، ممّن وجدوا فسحة أخلاقيّة محدودة ضمن مؤسساتهم للتعبير عن رفض الاستهداف الشامل للمدنيين في غزّة، قبل أن تتبرأ منهم تلك المؤسسات وتوقف برامجهم كما حصل مع حسن نفسه مؤخرًا، توسّلت مؤسسات بحثيّة عربيّة بذات المنطق، الذي ربما يستبطن تقبّلًا للموقف الإسرائيلي الأوليّ بشأن أصول الصراع، والنظرة إلى حياة الفلسطينيين، وشروط قيمتها المرتهنة بالقبول بالاحتلال والرضوخ له، وإعلان التخلّي عن الحق في المقاومة وتقرير المصير.

ففي مقالٌ أعدّه كل من الدكتورة أماني جمال والأستاذ مايكل روبينز من شبكة "الباروميتر العربي"، وهي شبكة بحثية عريقة مستقلّة (بتمويل أساسي من الوكالة الأمريكية للتنمية، ومبادرة الشراكة الأمريكية الشرق الأوسطية وغيرها)، يستعرض نتائج استطلاع رأي جديد للمؤسسة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، أجري إبّان السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي. يسعى هذا الاستطلاع إلى تعرّف آراء وتوجهات عينة من الفلسطينيين بشأن جملة من القضايا السياسية والمعيشية، من بينها تقييم شعبية عدد من القيادات السياسية، وقياس الثقة بإدارة حركة حماس لقطاع غزة، والموقف من النضال المسلّح والتطبيع والسلام وحل الدولتين والعلاقات مع الولايات المتحدة. 

شارك في الاستطلاع الذي أجري بين 28 أيلول/سبتمبر و8 تشرين الأول/أكتوبر 790 فلسطينيًا من الضفة الغربية، و399 من قطاع غزّة، ونشرت نتائجه مع التعليق عليها في موقع مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، كما نشرت ترجمة المقال ذاته بالعربية على موقع المؤسسة الإلكتروني.

يبين المقال بالاعتماد على الآراء المستخلصة من الاستطلاع، أن غالبية السكّان في قطاع غزّة لا يثقون بالحكومة فيها، وذلك بنسبة 67 بالمئة (لا يثقون بالمطلق ولا يثقون كثيرًا)، وهذه آراء العينة التي استخلصت من المستطلعة آراؤهم عشيّة عملية "طوفان الأقصى" (جرى الحصول على الإجابات جميعًا من المشاركين في القطاع في السادس من أكتوبر). كما يرى المقال أنه وبالنظر إلى "الرأي غير المحبّذ الذي يكنّه معظم سكان غزّة لحكومتهم، فليس من المستغرب أن يمتدّ رفضهم إلى حماس كحزب سياسي"، وهو ما تدلّ عليه النسبة الضئيلة من المبحوثين الذين أفادوا بأن حماس هو حزبهم المفضل، بواقع 27% فقط، من بين 399 فردًا هم عينة الاستطلاع، في حين بلغت نسبة تفضيل حركة فتح 30% بين نفس المجموعة.

هذه النسب والآراء هامّة ودالّة، ويحسن استفادة الباحثين والصحفيين والمهتمين بالشأن الفلسطيني منها في محاولة فهم التحوّلات التي يشهدها قطاع غزّة في ظل الحصار التجويعي الخانق الذي يستهدف تجفيف منابع الحياة فيه ضمن مخطّطات تصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على حركات المقاومة المسلحة (وغير المسلحة)، وفي مقدمتها حركة حماس. فهذه الأخيرة استفردت بحكم القطاع بعد مسار ديمقراطي مُعثَّر ومُعاق، انتهى بالإطاحة بحكومتها التي انتخبها الفلسطينيون، عبر التدخل الإسرائيلي-الأمريكي والمحور العربي المتواطئ معه بكل السبل السياسية والاقتصادية والعسكرية لمنع التمكين السياسي لها. كما فرض حصار مبكّر على سلطة حماس، عبر منع أي اتصال اقتصادي وماليّ ودبلوماسي مع الحكومة التي شكّلتها ديمقراطيًا، بل والانقلاب عليها عسكريًا (بدعم أمريكي)، بحسب ما يلخصه الباحث الفلسطيني عماد الصوص، في ورقة بحثيّة نشرت في العدد 45 من مجلة "سياسات عربية" لعام 2020، تناول فيها بالتفصيل مجريات إجهاض التجربة الديمقراطية في فلسطين بين عامي 2006 و2007.

يتحدث مقال الباروميتر بلغة بدت مضطرة إلى القفز عن بعض الحقائق السياقية الأساسية، عن "حدود دعم سكان غزّة لحركة حماس"، خاصة بين أولئك "الذين يتذكرون الحياة قبل حكم حماس"، وهم الأكثر ميلًا إلى رفض الحزب، بحسب التقرير. ورغم أهمّية هذه الملاحظة، إلا أن المقال يسقط السياق الأساسي المتعلّق بالمسار الذي أدّى إلى هذا الاستعصاء الوجودي في قطاع غزّة- والذي لا يتحمّل المسؤوليّة عنه بشكل أساسي إلا الاحتلال وأدواته والحصار غير القانوني المفروض عليه، والحروب الوحشية المتلاحقة التي شهدها وما يتخلل كل ذلك من إرادة واضحة للإبادة. ومع هذه التعمية عن هذا السياق، في مقال صدر بالأصل بالإنجليزية ويخاطب الجمهور الغربيّ، تبدو حماس للقارئ وكأنها هي الوحش الكاسر الذي حلّ على القطاع هكذا من العدم، وتحكّم بمصير من فيه رغمًا عن سكّانه، حتى يكاد القارئ يشعر أن ثمّة تاريخين في هذا القطاع وحسب، ما قبل 15 حزيران/يونيو 2007، وما بعد 7 تشرين أول/أكتوبر الماضي (والحرب التي يكاد يوحي المقال بأنها حتى في هذا النطاق الوحشي التي وصلت إليه هي ردّ على استفزاز "مروّع" من حماس)

تتضّح هذه المفارقة أكثر في تأكيد كاتبي المقال، أن المستطلعة آراؤهم من القطاع يرون أن المعضلات المعيشية التي يعانونها وما هو مترتب عليها من نقص الغذاء والاحتياجات الأساسية، ليست إلا نتاج مشاكل داخلية بشكل أساسي، أكثر منها العقوبات المفروضة على القطاع والحرب المستمرّة عليه. ورغم أنّ المادّة تذكر بشكل عابر حقيقة أن حصارًا مفروضًا على القطاع منذ العام 2007، إلا أنها تتخلّى عن التنويه إلى آثاره المدمّرة في غزّة، والتي خلقت "أزمة إنسانية دائمة" بحسب تقرير حالة حقوق الإنسان في فلسطين، الصادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي أقرت معظم المنظمات الحقوقية، ومن بينها هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، بأنه "عقاب جماعي" واقع من قوّة احتلال، هي المسؤولة بشكل أساسيّ عن مصير السكّان فيه.

وهكذا، تتضخّم أمامنا استنتاجات ترى أن "عددًا كبيرًا من الغزيين يرون أن "المتسبب الرئيسي لانعدام الأمن الغذائي في غزة هو سوء الإدارة الحكومية". وقد وجدَ معدّو التقرير أنّ في رأي هذه العيّنة من المبحوثين، ما يكفي للتأكيد على أن الغزيين كانوا "أكثر ميلًا لوضع اللوم بشأن مأساتهم الداخلية على قيادة حماس، لا على الحصار الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل"، قبل أن يستدرك الباحثان بالقول: "وربما يكون هذا الرأي قد تغيّر منذ إجراء الاستطلاع"، بمعنى أن الحرب قد تؤدي إلى تصلّب مواقف الغزيين بشأن دعم المقاومة ورفض التعايش مع إسرائيل، واعتبار ذلك نتيجة تستدعي أشدّ القلق.

لا يتجاوز مقال الباروميتر العربي، وهي المؤسسة الرائدة في البحوث الكمّية عالية الجودة عربيًا، وجهة النظر المبتسرة التي تختزل مشكلة الفلسطينيين في وجود حماس- والتي لا أهدف هنا بطبيعة الحال إلى تنزيهها عن أي خطأ أو خلل أو سوء تقدير، أو ادعاء أنها وغزّة واحدٌ لا ينفصلان. فالمقال يتحدث عن حركة المقاومة الإسلامية، رغم تأكيد استطلاعات رأي سابقة على تصاعد شعبيتها في القطاع والضفة الغربية معًا، وكأنها كيان منفصل عن الفلسطينيين ولا يعبّر عنهم، كما يجري تقديم ذلك وفق مقولة "إنسانيّة" تتوسّل إسرائيل لتوفير حياة عموم الفلسطينيين في القطاع، ليس لأنهم بشر لحياتهم قيمة في ذاتها، بل لأنهم، وبدلالة استطلاع رأي 399 شخصًا، ليسوا حمساويين، ولا يؤيدون المقاومة، وهي مقولة تحتمل الالتفاف عليها وعكسها، لتكون مبررًا للجريمة الإسرائيلية. 

يجنح المقال عبر إسقاط السياق التاريخي بالغ الحساسيّة والذي تخلّقت فيه هذه الظروف المهلكة في القطاع وتفاقمت عبر العقود الماضية إلى التماهي مع رواية الاحتلال ومفرداته التي يصرّ على تأطير كل حوار بشأن حروبه ضمنها وضمنها فقط

يدعو الكاتبان أخيرًا الحكومة الإسرائيلية إلى "ممارسة ضبط النفس"، وتجنّب اتّهام جميع سكّان غزّة بأنّهم في خندق واحد مع حماس "غير المهتمّة بالسلام" على حد وصف المقال أيضًا، لأن ذلك سيؤدي في المحصلة إلى "دفع سكان غزّة إلى أحضان حماس، ويؤدي إلى عنف متجدد لسنوات قادمة". وهكذا يخفق المقال في تسمية الأمور بمسمّياتها، ويجنح عبر إسقاط السياق التاريخي بالغ الحساسيّة والذي تخلّقت فيه هذه الظروف المهلكة في القطاع وتفاقمت عبر العقود الماضية إلى التماهي مع رواية الاحتلال ومفرداته التي يصرّ على تأطير كل حوار بشأن حروبه ضمنها وضمنها فقط. فالإسرائيليون "ليسوا ضد الشعب الفلسطيني، بل ضدّ حماس" كما قال أولمرت في حرب عام 2009. ولا يعود مطلوبًا من الفلسطينيين وفق هذا المنطق الإسرائيلي إلا التخلّي عن حقّهم في الوجود ونبذ المقاومة (التي نشأت بين ظهرانيهم ومن نسلهم) والرضوخ للاحتلال. حينها فقط تنتفي هذه الضدّية القاتلة، وعندها وحسب يبرهن الفلسطينيون على استحقاقهم لهذا الوجود وفق المقاسات التي يرسمها الاحتلال، والذي يبدو على المقلب الآخر ووفق هذه اللغة مجرّد ضحية "مهتمّة بالسلام"، مضطرة وحسب لصدّ "الإرهاب" الذي يبدو فلسطينيًا فقط في أصوله ومصادره، وهو المسبّب الدائم لـ"عنف" إسرائيلي مقابل، رغم أنّ العكس هو الصحيح حدّ البداهة في ظل حصار مطبِق وعدوان متواصل.