01-ديسمبر-2023
المقاومة في قطاع غزة

تتصدى المقاومة لمحاولات اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم والقضاء على حقهم في تقرير المصير (Getty)

في كل مواجهة بين إسرائيل وقوى المقاومة في فلسطين، وخاصة المواجهات العسكرية الممتدة خلال الأعوام العشرين الماضية في قطاع غزة الذي بات سجنًا كبيرًا بسبب حصار الاحتلال الإسرائيلي، ينقسم أكاديميون وكتاب وصحفيون في توصيف تلك المواجهة وسرد جدواها وتحليل أهميتها. فنجد فريقًا يؤيدها ويدعمها ويرى فيها فصلًا من فصول النضال الفلسطيني في مواجهة مشروع إسرائيل الاستيطاني الإحلالي في فلسطين، على اعتبارها آخر قضية استعمارية في المنطقة، وفريقًا آخر يجلس متأملًا المواجهة العسكرية فيتعاطى معها بمنطق حسابي " إنساني"، فيخرج آلته الحاسبة باحثًا عن برهان على عدم جدوى أية مواجهة عسكرية، سواء أكان الاحتلال هو الذي بدأ عدوانه أو المقاومة هي التي هاجمت وباغتت، كما حدث في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

لا يلام السجين المظلوم في اختيار التوقيت والأدوات التي يمارس فيها إضرابه عن هذا الشكل من الحياة الناقصة

 يستعرض أنصار هذا الفريق الثاني على عجل أعداد الشهداء الذين سقطوا جراء العدوان ويحسبون حجم الدمار الهائل الذي حل بمنازل المدنيين في قطاع غزة وبالبنى التحتية فيه، وكل ذلك من أجل بناء محاكمة عقلية ومنطقية وبلغة الأرقام والمعاناة الإنسانية، ترى عدم جدوى المواجهة، وأن محصلتها تسير باتجاه واحد وهو تراكم الهزائم التي تلاحق الفلسطينيين وتلازمهم. وقد يتسرب إلى النفس حين تقرأ مقالاتهم القصيرة والطويلة أو تدويناتهم على منصات التواصل الاجتماعي التي تغص بها انطباعٌ بعدم جدوى المقاومة أو كارثيّة نتائجها.

يسارع أنصار هذا الطرح إلى التمترس خلف قلعة " العرضة للتخوين"، بمعنى أن كل من سيخالف رأيهم القائم على تلك الحسابات سينعتهم بالخيانة والتخاذل والعمالة. وهم محقون نسبيًا، أقصد أنصار التيار النقدي، حيث ينطلقون من افتراض مسبق بأن رصاصات التخوين ستنطلق وتصيب رأيهم النقدي للحرب ومساراتها في مقتل، وهو ما يجدر النأي عنه عمومًا في النقاش المتحضّر العام. مع ذلك، من الحريّ الإشارة إلى أن أنصار هذا التيار يغفلون في موقفهم الطاعن في جدوى العمل المقاوم بأشكاله المختلفة، عن حقائق التاريخ والجغرافيا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ويقعون في فخ المرحلية في محاكمة الحدث الذي نحن بإزائه، والواقع المنبثق عنه، والمتمثل في حالتنا بالاحتلال الإسرائيلي السابق على مقاومة الشعب الفلسطيني له عبر محطات تاريخية مختلفة.

فلا بد في سياق هذا التعريض الانطباعي الذي يتعجّل التشكيك بجدوى العمل المقاوم، من تأكيد المؤكد وإثبات المثبت في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كي لا يقع أنصار التيارين- المؤيّد والناقد لهجوم المقاومة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر- في فخ السردية الإسرائيلية التي تأثرت بها دول ومؤسسات إعلامية شرقًا وغربًا، وباتت تضع محددات لأي حوار أو نقاش حول القضية الفلسطينية تقوم على إدانة هجوم المقاومة الفلسطينية وحق إسرائيل- المحتلّة- في الدفاع عن النفس والمضيّ قدمًا في الإجهاز على "الضحية" الرازحة طويلًا تحت الاحتلال.

يعاني قطاع غزة من حصار بري وبحري وجوي من قبل الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من سبعة عشر عامًا، وليس يخفى على أحدٍ حقيقة أن القطاع سجنٌ كبير يضم مليونين ويزيد من الفلسطينيين المحرومين من مختلف مقومات الحياة الأساسية، بفعل سياسات السجان الإسرائيلي. فلا شيء في هذا السجن الكبير طبيعي في حياة الغزي بكل تفاصيلها الدقيقة، والذي اضطر في هذه الحالة السجنيّة المديدة إلى تطوير أدوات عسكرية متواضعة لا يمكن مقارنتها بالقوة العسكرية للسجان. ولم يكن في وسع السجين بحكم المتوفّر لديه من أدوات المقاومة إلا أن يحاول فرض شروطٍ تحسّن ظروفه الحياتيّة، ضمن السجن نفسه والحصار ذاته، علمًا أنه قد كان في مراحل من الصدام معه مرنًا ولم يكن رافضًا للانخراط في التفاوض من أجل تحقيق ذلك.

إلّا أن تعنّت السجّان/المحتلّ ظل رافضًا حتى تلك التحسينات على محدوديتها في ظروف السجن القسري، وهو ما دفع السجين في نهاية المطاف إلى الدخول في إضراب شامل كلفته دون شك كبيرة، ولكنها قد تدفع السجان عند نقطة ما إلى الجلوس على طاولة المفاوضات والإذعان لحقّ سكّان القطاع المحاصر وإنهاء ضروب المعاناة الإنسانية التي يقاسونها، وليس ذاك وحسب، بل والدفع من أجل حقوقه السياسية التي فشل مسار المفاوضات منذ اتفاق أوسلو عام 1993 من تحقيق أي منها.

لا يلام السجين المقهور في اختيار التوقيت والأدوات التي يمارس فيها إضرابه عن هذا الشكل من الحياة الناقصة، فهو قد وصل إلى قرار بهذه المواجهة بعد أن قرأ جيدًا الميدان وقدر ظروفه وإمكانياته، كما أن السجان نفسه قد يقع في سوء تقدير لقوته أو لمدى ضعف السجين، وهو ما يجعل الكلف عليه كبيرة وتفوق حساباته. وقد لا يكون من باب المصادفة أن من يوجه دفة المقاومة على المستويين السياسي والعسكري هم من الأسرى المحررين (السنوار والعاروري وسواهم) وهم الذين خبروا طرق التعامل مع السجان الإسرائيلي.

لم تهاجم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة إسرائيل بدافع الانتقام أو الرغبة في القتل، وقد يجادل كثيرون موضوعيًا بأن أخطاء وقعت أثناء عملية الهجوم ودخول المدنيين إلى البلدات في غلاف قطاع غزة انتهت إلى احتجاز رهائن مدنيين، كما قد تكون المقاومة قد وقعت في سوء تقدير لحجم عمليتها العسكرية وخاصة مع انهيار فرقة غزة في جيش الاحتلال، ولكن ما يجدر النأي عنه هو التعامل مع الحرب على أنها حالة ثابتة والتعاطي معها وكأنها وضع مستمر لا نهاية له، فالحرب لا بدّ أن تكون استمرارًا للسياسة ولكن بوسائل أخرى، وهو ما عكسه إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بوضوح  في أحد خطاباته المبكرة أثناء الحرب  الجارية على غزة، حين كشف عن تقديم الحركة تصورًا سياسيًا شاملًا لحل الأزمة، يبدأ بوقف العدوان، وفتح المعابر، مروراً بصفقة لتبادل الأسرى، وانتهاء بفتح المسار السياسي لقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وحق تقرير المصير.