13-مارس-2023
غاري لينيكر

غاري لينيكر (Getty)

يعرف غاري لينيكر، بحسب وصف نيويورك تايمز، بأنه المذيع الرياضي الأكثر شهرة في هيئة الإذاعة البريطانية، إن لم يكن وجه الشبكة الأكثر تأثيرًا على الإطلاق حاليًا، بعد مسيرة حافلة تجاوزت 16 عامًا، اشتبك فيها بحذر وذكاء مع الجميع، مسجلًا أهدافه الإعلامية، بلا بطاقات صفر ولا حمر، حتى اللحظة.

يعرف غاري لينيكر، بحسب وصف نيويورك تايمز، بأنه المذيع الرياضي الأكثر شهرة في هيئة الإذاعة البريطانية

إلا أن اشتباكًا أخيرًا دفع بي بي سي لأن تقلب له ظهر المجنّ، رغم أنّه تعليق شخصي على حسابه على تويتر حول مسألة تتعلق بالهجرة عبر قناة المانش وخطط الحكومة البريطانية لمواجهتها، والتي وصفها بالوحشية، وأنها تذكّر بألمانيا النازيّة في الثلاثينات. هذا التعليق الجريء صدم إدارة المؤسسة البريطانية العريقة، فلم تتمكّن من هضمه، فراحت وضربت بعرض الحائط مبادئ أساسية تتعلق بحرية التعبير والدور العام المنوط بالإعلاميين، وقررت تعليق عمل النجم السابق مؤقتًا، بدعوى خرقه لقواعد الحياد. 

There is no huge influx. We take far fewer refugees than other major European countries. This is just an immeasurably cruel policy directed at the most vulnerable people in language that is not dissimilar to that used by Germany in the 30s, and I’m out of order?

— Gary Lineker 💙💛 (@GaryLineker) March 7, 2023

بدت الخطوة مقامرة كبيرة وغير محسوبة العواقب من طرف البي بي سي. فهي خطوة أثارت هزّة وطنية على جميع المستويات، وأطلقت العنان لحالة من التضامن الواسع مع غاري لينيكر، كما دعّمت بشكل غير مباشر من الجبهة المعارضة لقوانين تقييد الهجرة غير النظامية إلى المملكة المتّحدة والتي تصرّ الحكومة الحالية بقيادة ريشي سوناك ووزيرة داخليته سويلا بريفرمان، التي تعتبر عرابة مشروع القانون وأشدّ المتحمسين لإنفاذه. 

ومن المرجح أن تتسع تداعيات ما حصل مع لينيكر، لتطال مستقبل إدارة المؤسسة الحالية، ومراجعة موقفها المتزمّت حيال "الحياد السياسي" الذي تزعم أنه أولويتها، ورغبتها بالسيطرة على المواقف العامة لمذيعيها وموظفيها، رغم علاقة هذه الإدارة الوثيقة وقربها من الحكومة المحافظة الحالية في بريطانيا، وهي ذات العلاقة التي جعلت حيادية المؤسسة وسمعتها موضع شكّ. 

غاري لينيكر

لكن الوقعة مع لينيكر عويصة، فهو ليس مذيعًا عاديًا، بل أشبه بأسطورة محلية كروية وإعلامية، فهو مسموع الكلمة وعظيم التأثير وكبير الحضور، ولعله كما ذكر مارك لاندلر في التايمز "أكبر اسم في هيئة الإذاعة البريطانية". فهو شخصية رياضية محبوبة، انتقلت ببراعة من الملعب إلى عالم التعليق والتحليل الرياضي. كما أنه الشخصية الإعلامية الأعلى أجرًا في بي بي سي، إذ جنى أكثر من 1.6 مليون دولار أمريكي العام الماضي. 

أما تعليق لينيكر حول الهجرة، فلم يكن مفاجئًا ولا مستغربًا منه. فالرجل يعود لأصول متواضعة من الطبقة العاملة، ولطالما عبر عن آرائه حول القضايا العامة، وجاء تعليقه إزاء الخطاب العدائي المتصاعد ضد اللاجئين والمهاجرين متسقًا مع مواقفه المعلنة السابقة في قضايا مماثلة. ففي تغريدته على تويتر، معلقًا على مقطع ترويجي من الوزيرة البريطانية تدعو فيه إلى "مواجهة قوارب المهاجرين"، قال لينيكر: "ليست هذه إلا سياسة وحشية غير عادلة موجّهة ضد فئة مستضعة، ومصاغة بلغة لا تختلف عن تلك التي استخدمتها ألمانيا في الثلاثينات.. ثم يقولون لي الزم حدودك!". 

إدارة البي بي سي وجدت ثغرة في تغريدة لينيكر، وألفت فيها فرصة سانحة للانقضاض ضدّه والتخلص من أي إحراج قد يسببه لها. وهذه الثغرة كالعادة تتعلق بالهولوكوست: كيف لك أن تقارن "مأساة" يهود أوروبا، بمجرد "مشكلة" هجرة. كيف لك أن تقارن مأساة، ارتبطت جوهريًا بقيام دولة "إسرائيل"، وهي دولة احتلال واستيطان غير شرعي، بقضيّة بضع مئات أو آلاف من المهاجرين غير المرغوب فيهم، والذي يهددون نقاء أوروبا البيضاء؟ هذا تحديدًا ما اتكّات عليه وزيرة الداخلية بريفرمان في نقدها لغاري لينيكر، حيث قالت إنّ تعليقه يمثّل "استخفافًا بمأساة الهولوكوست"، وهو ما تلقّفته آلة الدعاية المحافظة في بريطانيا منذ أيّام، والتي شنّت حملة بيغضة وغير مسبوقة على الرجل، رغبة منهم في إزاحته عن المشهد بضربة قاضية، وترويع الآخرين من الإعلاميين والصحفيين، وتهديدهم بمصير مشابه. 

إلا أن الحملة لم تؤت أكلها، والأزمة تصاعدت لصالح لينيكر، بعد أن انقلبت الأمور رأسًا على عقب أمام إدارة البي بي سي، والحكومة البريطانية نفسها، والتي خشيت من أن تظهر بموقف الداعم لقرار إيقافه المؤقّت عن العمل وما ينضوي عليه من تقييد لحريّة التعبير والرأي. وقد دفع ذلك رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، إلى وصف لينيكر بأنه "رياضي عظيم ومذيع ماهر"، كما قال إنه يأمل أن يحلّ الإشكال بين الهيئة وبين لينيكر سريعًا، وأن الأمر مرهون بهما وليس بالحكومة. 

فقد تصدى للدفاع عن لينيكر كثيرون من عالم الرياضة والإعلام والسياسة، منهم يورغن كلوب، مدرب ليفربول الإنجليزي، والذي دافع عن حق لينيكر في التعبير عن رأيه في قضايا تتعلق بحقوق الإنسان، وقال: "إنه عالم صعب، وكما فهمت الأمر، فإن تعليق لينيكر لا يمكن الحجر  عليه، ولا يستدعي أن يطلب منه التنحي من عمله بسببه". 

“I cannot see any reason why you’d ask anyone to step back for saying that.”#LFC manager Jurgen Klopp reacts to @BBCMOTD’s decision to remove @GaryLineker from hosting the show pic.twitter.com/zkV5zQconm

— talkSPORT (@talkSPORT) March 11, 2023

أمّا داخل البي بي سي، فتسبب قرار الإدارة بموجة من الاحتجاجات والتوقف الطوعي عن العمل، والانسحاب من بعض البرامج على الهواء، وهو سبب إحراجًا كبيرًا للشبكة، وأرغمها على عرض برامج مسجّلة بدلًا من البث المباشر لبعض أبرز برامجها وأكثر متابعة، ومن بينها عرض لينيكر نفسه، كما دفعها إلى مراجعة طلبها من لينيكر تقديم الاعتذار في حال رغب باستئناف العمل. 

إن تعنّت الإدارة العليا في بي بي سي هذه المرّة في التعامل مع غاري لينيكر، يكشف عن نيّة مبيّتة تسعى للنيل منه والتخلص من الصداع الذي يسببه لها كلما استدعى الأمر، ووضع حدً لتعليقاته العديدة التي تزايدت حدتها منذ العام 2016، وموقفه الرافض للخروج من الاتحاد الأوروبي، مرورًا باتهامه المحافظين بتلقي أموال من روسيا في العام 2018، وانتهاء مؤخرًا بموقفه المناهض للسياسات العنصرية ضد المهاجرين وإغلاق الأبواب دونهم. 

ففي العام الماضي، انتقد غاري لينيكر سياسة بي بي سي في تغطية الانتهاكات الروسية في شبه جزيرة القرم وسجلها فيما يخص حقوق الإنسان، وذلك إبان استضافة موسكو لنهائيات كأس العام في العام 2018، مشيرًا إلى أن ما حصل يرقى إلى عملية "غسيل رياضيّ" تم التغاضي عنه باستسهال غير مهني ومناف للقيم التي تقوم عليها الشبكة. في المقابل، انتقد لينيكر الحملة التي شنّتها قناته على قطر في مونديال 2022، مشيرًا إلى أنها لا تخلو من النفاق بالنظر إلى صمت الإعلام عن انتهاكات روسيا الأشدّ وضوحًا ضدّ سيادة دولة أخرى، وسجلها في انتهاكات حقوق الإنسان وتقييد حريات الناشطين والصحفيين. 

بصرف النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها هذه الأزمة في بريطانيا، والتي يرجّح أنّها ستكون في صالح لينيكر، فأثرها السلبي سيظل حاضرًا

لكن وبصرف النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها هذه الأزمة في بريطانيا، والتي يرجّح أنّها ستكون في صالح لينيكر، فأثرها السلبي سيظل حاضرًا على مستوى استشعار الصحفيين والإعلاميين للقيود على ما يمكن لهم قوله عبر حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام أغلوطة "الحياد المهني" لمنعهم من الانخراط في النقاشات العامّة والتأثير بها وحصرهم في مساحات محافظة، ومنعهم من الحقّ في الانحياز لما يرونه حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، وهو الحقّ في الوجود والكرامة.