06-سبتمبر-2022
سامي مهدي

الشاعر سامي مهدي

أُثيرَ جدلٌ في الفيسبوك عقب وفاة سامي مهدي، الشّاعر الّذي رحلَ عن 82 عامًا. من المعروف جدًا أنّ سامي مهدي بعثيٌّ لا يخفي بعثيّته ولا يتنصّلُ منها. معنى ذلك أنه شاعر مُؤدلج، ومن تلك الأيديولوجيا الضيّقة تنطلقُ رؤيته لقصيدة النثر التي يعترف أنّها شكلٌ من أشكال الكتابة الشّعرية.

يقف خلف سامي مهدي، الشاعر والناقد "البعثي"، سامي مهدي الموظف الذي استلم مهامًا حساسة وقريبة من النظام

 

لكنه سرعان ما يعتبرها أشبه بالخطيئة فيفترض هكذا أنّ كتّابها غالبًا يكتبونها كمحاولة منهم للاختلاف، خالف تعرف، فحسب. أو بمعنى آخر هم قد كتبوها بعد فشلهم التام أو نصف التام في إتقان الكتابة وفق البحور والإيقاعات في الشّعر والأوزان. بهذا الكلام الاعتباطي واللامتوازن يلغي مهدي أيّ أثر للتطوّرات الاجتماعية والسياسية الكبرى في العالم أجمع التي أفرزت ولادة هذه الكتابة الإبداعية، معتقدًا أنّ الفشل في معرفة الوزن هو ما صنع قصيدة النثر فهو يقول في أحد كتبه أنّ الشعر دون إيقاع موسيقي شعرٌ ناقص.

مما لا شكّ فيه أنّ تلك الرؤية فيها ضرب كبير من السّذاجة والخفّة، لكنها أي مع ذلك تُضمرُ داخل دلالاتها نزوعًا قوميًا بعثيًا ضد القصيدة الحديثة، هذا النزوع يستند إلى مقولة تكفير القصيدة واعتبارها خطرًا استعماريًا دخيلًا على التراث العربي، وهذا شأنٌ بعثيٌّ أيضًا.

شخصيًا قرأتُ سامي مهدي، ولم يعجبني ناقدًا. بكلام آخر أعني أنني لم أقرأ له رؤية نقدية تنبع من معايير مغايرة للسائد، أضف إلى ذلك حواراته الاستعراضية الدائمة والماثلة دومًا إلى إحداث ضجّة أو تفجير شيء. أمّا شعره فلم يستهوني على الإطلاق، وما أقوله بالطبع لا يتعدّى كونه رأيًا شخصيًا بحتًا، لا يقلّل من قيمة شعره، ولا يصادرُ أيّ ذوق من أذواق محبّيه.

حسنًا، يقف خلف سامي مهدي، الشاعر والناقد "البعثي"، ويمكن التشديد هنا على كلمة بعثيّ، سامي مهدي الموظف الذي استلم مهامًا حساسة وقريبة من النظام. صنعت له تلك المسؤوليات في ظل نظام شمولي ومركزي أعداءً مطاردين ومحبّين متزلّفين. يحاولُ كلّ واحدٍ منهم الآن، مع الأسف الشديد، الدّفاع عن البعد الواحد للحقيقة نفسها، كل ذلك يحدث بعد وفاته. الجميع يدرك سعة الذّاكرة العراقية الّتي سرعان ما تنسى جلّاديها ومرافقي جلّاديها، فالثقافة المُداهِنة لسلطة قمعيّة لا يُمكن أن تكون إلا أسوأ منها.

هناك الكثير من المشاهدات والوقائع التي يوردها الباحثون في الشعر العراقي عن مواقفه وقربه من سلطة البعث مثل ما يذكره الشّاعر عبد الكريم كاصد في كتابه "رهان الستينات" الذي أتيحت لي قراءته منذ فترة ليست بالبعيدة إذ يورد لنا كاصد هذه الحادثة: "جاءنا ممدوح عدوان وعلي الجندي ومعهما ثالث، ولكنه ثالث نعرفه حق المعرفة، كما نعرف أصابعنا، فمثلما للسلطة قادتها السياسيون، لها أيضًا قادتها الثقافيون، وهذا رأس ثقافتها الأصلع، فلم يتعب ممدوح ولا عليّ بالتعريف به، وما أن افتتحنا جلستنا حتى بدأت الجوقة حفلتها بالضحك الضاج والمرح المعلن بقدوم صديقين عزيزين ألفهما أصدقائي الآخرون، غير أن هذا الرأس الأصلع الشاعر "الحداثي" أيضًا المدعو: سامي مهدي أغاظه ما رآه من فسحة فرح منحتها لنا سلطته الجادة الدموية المتجهمة، لأن مكاننا الحقيقي هو السجن، أو المنفى، وليس موائد الفرح: فجأة بحركة همجية شرسة مباغتة قطع ضحكنا بعرض ساعته ليرينا إياها معلنًا إنها ساعة سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل الذي عُذب تعذيبًا وحشيًا لا سابقة له. قال له الصديق الراحل جعفر موسى: هذا يعني أنّك كنتَ تمارس دور الجلّاد معه. أجابه: كنت حاضرًا التعذيب ولم أمارسه. ردّ عليه جعفر: بل مارسته".

نعودُ هنا لنسأل: ما الذي يجعل شاعرًا يحضر حفلة تعذيب لأسوأ الأجهزة البوليسية التابعة لأسوأ نظام دكتاتوريٍ في العالم؟ وما الذي يجعلنا نصفح عنه ونطوي الصفحة كأنّ ما حدث لم يكن إلا مشهدًا من فيلم خيال علمي فحسب.

وحتى مع غضّ البصر عن كل تلك المشاهدات، فإنّ كون سامي مهدي قريبًا من سلطة قمعية دنيئة كانت تجزّر وتُفلِّعُ مخالفيها في الماكينة سبب كافٍ لإدانته حيًا أو ميتًا.

بالعودة إلى الجانب الشخصي، كان سامي مهدي صديقًا لي في جداري الفيسبوكي، المنبر الذي فتحه وبدأ ينشر فيه آراءه وقصائده، ولم أكن أعرف عنه سوى أنّه شاعر ستّيني رائد، وكان قد باشر الحديث معي مصوّبًا لي بعض الأخطاء اللغوية في نصوصي، وكنت أشكره على ذلك ثم نشرَ عني بضعة أسطر على صفحته دون الإشارة لاسمي يبشرُّ فيها بشعري، ثمّ يطالبني بالاهتمام بالوحدة الموضوعية للمقاطع التي كنت وما زلت أنشرها وأنا أعرف تمامًا أنّ لا رابط بينها سوى لحظة النشر.

لكن المفاجأة حدثت بعد قراءتي لمواقفه من النظام البعثي الإجرامي، ومن الشعراء الذين نكّلَ النظام ببعضهم، وطارد وهمّشَ البعض الآخر، ما جعلني أسارع بحذف صداقته ليذهب بعد ذلك غير مأسوف عليه مثل أيّ بوق لأي نظام قمعي فاسد، سواء كان النظام البعثي أو النظام القبلي القائم الآن.

تشتهر مقولة للروائي الجزائري أمين الزاوي مفادُها أنّ السّلطة مثل النّار إن ابتعدت عنها تبرد وإن اقتربت منها تحترق

 

ببساطة إنّ موقفي تجاه سامي مهدي هو موقفي تجاه أيّ مثقف يداهن السلطة، يتملّق لها ويصنع الأعذار لزلّاتها بل لجرائمها الكارثية. معنى ذلك أنّه لا يمكن لشاعر أن يقيم علاقة بأي سلطة خارج وجوده كمواطن ذي حقوق وواجبات.

ليس على المثقف أن يغامر بحياته في مواجهة السلطة المخيفة بالطبع، فهو ليس سبايدرمان، لكنْ لا ينبغي عليه أن يسخّر نفسه كصباغ أحذية أو مدافع شرس عن ماكينة تستأجره وتضحك من سذاجته سرًا إذ تعتبره في النهاية مجرد بوقٍ عابر.

لا يمكننا أن نأخذ على محمل الجد موقف الذين يتناولون تجربة سامي مهدي بقسوة ثم يغضون النظر عن علاقاتهم بالسلطة الآن. بالطبع لا نريد المقارنة بين السلطتين. لكن أضعف ما يمكن قوله إنّ السلطة الفاسدة الآن لا تقل إجرامًا عن السلطة البعثية. هذا لو تحدثنا عن الإجرام وكتم الحريات فما بالكم بصفقات الفساد الإداري والسياسي والثقافي أيضًا.

تشتهر مقولة للروائي الجزائري أمين الزاوي مفادُها أنّ السّلطة مثل النّار إن ابتعدت عنها تبرد وإن اقتربت منها تحترق. يمكن القول إنّ بإمكان المرء أن يتجمد نصف قرن، ذلك أهون بآلاف المرات من أن يحترق لحظة واحدةً، لا سيما في صيف مثل الصّيف العراقيّ الرهيب، صيف المهانة والخوف والمداهنة وتصفية الحسابات بين سيئ وأسوأ.