16-مارس-2022
لوحة لـ أليسكج فون جاولنسكي/ روسيا - ألمانيا

لوحة لـ أليسكج فون جاولنسكي/ روسيا - ألمانيا

1- على الشاطئ

أنا رجلٌ مشّاء. من عاداتي اليوميّة السّير على شاطئ البحر. أغرسُ أقدامي في الرّمال على حافة الموج واليابسة، وأذرع الشّاطئ المُمتدّ كلّ يوم، مرّات عدّة.

وحين أسيرُ هكذا، على هذا السّمْت الطويل، لا أرى ولا أسمع غير امتداد المياه الزرقاء المتموجة، وملامسة السّماء للمياه على الطّرف البحريّ من النّظر. أمّا الطرف البريّ فغالبًا ما يدورُ بينَ ما يُلامس المَوج من أقدامي، والرّمل من خطوات سريعة الامّحاء. وينتابُني الإحساسُ بأنّني جسدٌ يتحرّكُ مثلَ ما تتحرك مركبة في الفضاء، أمّا ما يدور في الرأس فأمر آخر. تموجُ في الرأس الحياة، تفاصيل اليوم، هموم ومسرّات كثيرة، خطط واحتمالات، تنعقد في الرّأس مثل غيوم، ثم ما تلبثُ أن تنحلّ كقطراتٍ مِن ماء. وهكذا، وأنا أمشي على هذا الشّاطئ الغربيّ لمدينة بيروت، ينفرط العمر وتتساقط أيّامي تحت أقدامي كخطوات، كأنّني لا أريد شيئًا ولا ألوي على شيء. وغالبًا ما يكون على الشّاطئ رجال ونساء وأطفال. يسبحون ويلعبون، لكنّني أمشي. أضع يديّ في جيبي وأمشي. لا يقطعني عن المشي تعاقُب الفصول. في الصيف الهادئ أمشي. في الخريف المعتدل، وفي الربيع... أمشي. في الشتاء أيضًا، حين يهطل المطر وتعصف الرياح وتضطرب الأمواج... أمشي. ومن يراني في أيام الشتاء على هذه الصورة من بعيد، يحسب أني شارد أو مشرّد. تخفق الرياح في ثوبي، والمطر على رأسي ووجهي يهطل، والأمواج تهجم بمخالبها، ثم تنكفئ، وأنا أمشي. هي أيامي هكذا تجري، وأنا نادرًا ما أبصر الناس.

أمس على الشاطئ استوقفني رجل وقال:

-أستاذ... هل تسمح بأن تشعل لي هذه السيجارة؟

-قلت له: ليس معي نار.

-قال: أستاذ... اعذرني إذا تطفّلت عليك. إنك تشبه كثيرًا شخصًا اعرفه اسمه محمد علي شمس الدين. أعرفه وأحبه.

قلت له: أنا لا أعرفه. وأضفتُ في صدري ولا أحبّه. مضى الرجل في حال سبيله. واللفافة في فمه مطفأة. أما أنا، ففكرت لحظتئذ بأمرين: هل باستطاعتي عدّ خطواتي التي سرتُها على هذا الشاطئ لأربعين عامًا خلت، وما الطريقة الموصلة لذلك؟ ووجدتُ أن الطريقة حسابية وسهلة: يكفي أن أعدّ خطوات شوط واحد في الذهاب أو الإياب، وأضربه بعدد الأشواط، وأضرب الناتج بعدد الأيام، وأضرب الناتج بعدد الأعوام فتكون حصيلة العمر... خطوات، مثلما تناول إليوت حياته بملاعق القهوة. حسنًا... هكذا سيكون. وبدأت أعدّ خطواتي. لكن الأمر الآخر الذي فكرت فيه، في تلك اللحظة، هو التالي: لماذا يتكرر عدد الناس الذين أصادفهم، ويسألونني: هل تعرف فلانًا، فأنت تشبهه؟

وبدأت أفكّر في ذلك، أثناء عدّي لخطواتي على الشاطئ.

من أنا؟ ومن شبيهي يا الله؟

 

2- لست نوتيَّ هذا المركب

 

من خلال تجوالي الدائم على شواطئ هذا البحر، تبيّن لي أن لهذه الذات حياة، وأن للكلمات حياة... وقد تلتقيان وقد تفترقان. والأمر شبيه بالغوص على الأجسام الضخمة لسفن غارقة في المحيط، ولا يطفو على سطح الماء منها سوى بقع من زيت، أو أخشاب قليلة، وفي غالب الأحيان، لا شيء منها على السطح ليطفو أو ليشير إلى وجودها في القاع.

أنظر إلى البحر من بعيد. الناس تنتقل على اليابسة، والمركب تتحرك في البحر. النجوم في السماء والطيور على الأفق. وهكذا هي الحياة.

سيكون من الصعب الوقوف على محطات راسخة في ظاهر حياة سردية لا يفصل الليل عن النهار فيها سوى حجاب. فالأيام من البعيد، تتشابه كموج البحر، ومع ذلك، فثمة مركب ما، مائل، ويتقدم، وفي مقدمته رجل يمسك بمجذافين، ويحمل معه عائلة وعلمًا واسمًا ودواوين وأوراقًا يلوّح بها من بعيد... والذي يراه يقول انه يتقدم، والحقيقة ان الماء يتقدم به، واتجاهات الرياح أيضًا. / وهذا النوتيّ هو أنا.

ولعلني لست نوتيّ هذه الرحلة.

ولعله لم تكن لي رحلة ولا بحر ولا مركب يميل على الجانبين... فمن يضمن ماذا في هذا العماء الذي يدور؟

 

3- البحر الأبيض المتطرف

 

هذا البحر الأبيض المتوسط... لماذا هو متوسط هكذا؟ لماذا لا ينسجم مع بيت جدّنا الشاعر القائل:

"ونحن أناس لا توسُّط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر".

لماذا لا يتخذ لنفسه اسمًا جديدًا؟ البحر الأبيض المتطرّف.

هذا البحر الشيخ العتيق، آن له اليوم أن يعود شابًا، آن له أن يثور ويتطرّف ويكون نزقًا. آن للبحر أن يغضب ويفيض ويغسل أدراننا، نحن العائشين على شواطئه وموائده من ملايين الأعوام... فمن أيام نوح حتى اليوم، لم يفِض البحر ولم يحصل طوفان... لماذا لا يحصل الطوفان؟ الآن.

 

3- البحر والبحر

 

أفكّر أحيانًا في الشعر وأكون أفكّر في البحر. ففي العربية أوزان الشعر الستة عشر هي بحور الشعر الستة عشر... الطويل والمديد والوافر والبسيط والكامل والسريع والخفيف... وهلمجرًّا الى آخر الأسماء. وأسأل نفسي: لماذا سمّى الخليل الفراهيدي أوزان الشعر بحورًا؟ ألأنها واسعة كالبحار؟ ولكن هل البحار كالبحور؟ وهل بحر الشعر يستوعب السماوات والأرضين كبحر الوجود؟ وهل التسمية عائدة الى ايقاع البحر وموسيقاه، وعطف ايقاع الشعر وموسيقاه عليه؟

ثم إن العرب صحراويون. وبيت الشعر معطوف على بيت الشعر. والأسباب هنا وهناك واحدة، والأوتاد واحدة، والصدر والعجز أيضًا، فكيف جمع العرب في تسميتهم للشعر أسباب البر وأسباب البحر معًا؟

 

هذه الأسئلة وسواها تراودني فيما أسير على الشواطئ الطويلة وحدي... الشواطئ الطويلة التي هي أطول من لسان العرب. وماذا يقول ابن منظور في المسألة؟ "يجمع البحر على أبحر وبحور وبحار. والبحور كالبحار أما الأبحر فجمع قلّة".

ـ ولماذا سمي بحر الشعر بهذا الاسم؟

ـ لأنه أشبه بالبحر الذي لا يتناهى بما يغترف منه، في كونه يوزن به ما لا يتناهى من الشعر.

انتهى، لا ينتهي الكلام

انتهى لا ينتهي الشعر ولا ينتهي البحر.

 

5- رجل الماء

 

لو قسّمنا الرجال على العناصر، لكان لنا ما ألِفناه من تسميات... ومنها رجل الثلج Bonhomme ورجل الثلج كما تدل عليه التسمية بالفرنسية، أبيض مصنوع من ثلج، يصنعه الأطفال في أثناء لهوهم، ويصنعون له وجهًا وأذنين وعينين وفمًا وساعدين وساقين، وربما وضعوا على رأسه قبعة حمراء... يلعبون حوله، ومعه، وربما هدموه بأيديهم أو بكرة يتقاذفونها في ما بينهم... ورجل الثلج رجل أبيض وطيب وآيل للسقوط والذوبان.

أما رجل الحجر فرجل منحوت من الصخر أو الحجارة... وهو التمثال أو النصب ويكون للرأس أو الصدر والرأس، أو لكامل قامة الرجل. رجل الثلج ذائب وسريع، أما رجل الحجر فصلب ودائم... ولكن إلى متى؟

رجل الماء هو الأكثر ذوبانًا وتهافتًا. فرجل من ماء، هو رجل من انهيار كما ينهار الماء... هل يستقيم رجل من ماء؟

رجل الهواء هو الهباء. يقول الشاعر مخاطبًا قيس بن الملوح، العاشق المجنون بالعشق، المشتت العقل والجسد: "يا قيس/ يا قيس/ يا رجلًا من هواء".

فأي الرجال أنا؟/ وأي الرجال تريد أن تكون يا أخي؟/ ثمة رجل قديم فلسفي هو الرجل المعلق في الهواء، الذي وصفه الفيلسوف ابن سينا.

وثمة رجل أخير هو الرجل الآلة. الروبوت.. فأي الرجال تريد أن تكون؟