03-ديسمبر-2022
مشجع تونسي يدخل ملعب المدينة التعليمية خلال مباراة تونس وفرنسا (Getty)

يوتوبيا العروبة ليست مجرد صورة مقلوبة لبشاعة الواقع (Getty)

تبرق العروبة فجأة بين جماهير المونديال، وكأنها صلة قرابة منسية تستدعى في المناسبات، أو رثاء متخف لآخر ما ربط العرب سياسيًا في انتفاضات ربيعهم الفائت، أو كأنها حمل ثقيل من التواريخ يتم صرف بعض ميراثها فرحًا مؤقتًا وعابرًا، تكون بوصلته الانتماء لمعان أكبر وجغرافيات أوسع.

تبرق العروبة فجأة بين جماهير المونديال، وكأنها صلة قرابة منسية تستدعى في المناسبات، أو رثاء متخف لآخر ما ربط العرب سياسيًا في انتفاضات ربيعهم الفائت

ولدت العروبة، مثلها مثل قوميات القرن العشرين من قلب الأزمة، انفضاض الرابطة العثمانية في المشرق وكابوس الاستعمار الطويل في المغرب، وكذا جاءت مشاربها مثل غيرها من القوميات، هجينًا من عناصر متشابكة ومتنافرة ومن وقائع وأساطير، لكن ما تسلمته أجيالنا ممن سبقونا لم تكن سوى سيرة للفشل والرعب. فالعروبة في نسختها الأكثر اكتمالًا كمشروع سياسي لازمت تاريخًا مشوهًا للناصرية وانتكاساتها العديدة. هذا بشأن الماضي القريب نسبيًا، أما الحاضر الأقرب فلم تكن القومية العربية في بلاد مثل العراق وسوريا سوى مرادفات لحزب البعث وسجونه ومذابحه وإباداته السابقة والمستمرة إلى اليوم.

أي حظ لقومية عابرة للحدود في أزمنة الهويات الصغيرة؟ لا يقتصر الأمر على اثنيات ولغات وأديان المنطقة التي نفتها العروبة باسم الدين الواحد واللغة الواحدة، لكن تتشعب الانتماءات إلى هويات معاصرة أكثر دقة تتفرع محدداتها من الميل الجنسي والجندر إلى لون البشرة وغيرها. وليست الهويات الدقيقة وحدها ما يزاحم العروبة بل نقيضها أيضًا، أي الهويات الأوسع منها، فالانتماء الإسلامي الذي يتقاطع في بعض مناهله مع العروبي وكان منافسه منذ البداية، يتمدد في العقود الأخيرة وينحسر قليلًا، وفي الحالتين يبتلع ما بقي من دعوات قومية داخله. وكذا العولمي حين يوضع كمرادف للمعاصرة والتقدم، موجهًا نظره إلى الخارج بمساواة متصورة وتماه مع المركز العالمي، فإنه ينبذ العروبة بوصفها محددًا ضيقًا ينتمي إلى الماضي إن لم يكن رجعيًا أيضًا.

السؤال الأفدح، أي نصيب للعروبة في وقت يتهاوى فيه مشروع الدولة الوطنية في المنطقة؟ من العراق إلى ليبيا ومن سوريا إلى اليمن ولبنان يخيم شبح الحرب الأهلية القائمة أو الافتراضية، الماضية والموشكة على الوقوع، منتجة دول فاشلة بحسب المعايير السياسية والاقتصاد والهياكل المؤسسية، ومجتمعات -إن صح عليها صفة الاجتماع- تفتقد للحد الأدنى من اشتراطات التعايش الأهلي لا بحسابات المواطنة ولا حتى الجيرة، وفي أفضل الأحوال بقي لدينا دول لا يعني تماسكها الداخلي سوى تغول لأنظمة القمع والفساد معًا.

لكن على الضد من كل هذا أو على الأرجح بفضله، تتناسخ تلك العروبة صورًا من نفسها، لا كمشروع سياسي بل كيتوبيا. ذلك النموذج المثالي بالتعريف، والذي في مثاليته المطلقة يظل مستحيلًا على التحقق، هو ليس مجرد صورة مقلوبة لبشاعة الواقع، بل الحاجة الملحة والطارئة للخروج منه، حيث لا يكون هناك بدائل أخرى ممكنة أو واقعية. إلا أن ذلك لا يعني أن اليوتوبيا مجرد مناقضة للواقع، بل هو خيال يتحين اللحظات النادرة لتجاوز الواقع حتى يتجلى في شروخ سريانه المفاجئة. هكذا كانت العروبة كلمة السر غير المنطوق بها، لانتقال شعلة الانتفاضات العربية من بلد إلى آخر، بعفوية سحرية دون ترتيب أو تنظيم سابق أو لحظي حينها، وعلى القياس نفسه كان سريان هزائم الربيع العربي عبر الحدود صورة أخرى للمدينة الفاضلة في صورة مقلوبة، فالديستوبيا هي توأم اليوتوبيا والدليل عليها.

يبرز الاستاد الرياضي ومدرجاته كمكان ذي طبيعة خاصة، واحد من"الأمكنة الأخرى" الأليق بتجليات اليوتوبيا، كونه مساحة لا هي هنا ولا هناك

مرة أخرى يبرز الاستاد الرياضي ومدرجاته كمكان ذي طبيعة خاصة، واحد من"الأمكنة الأخرى" الأليق بتجليات اليوتوبيا، كونه مساحة لا هي هنا ولا هناك، جغرافيا تخضع بالطبع لكل السياقات والظروف من حولها، إلا أنها تعمل في الوقت ذاته خارج تلك الظروف وعلى الضد منها.

لا تغير حمى العروبة في المدرجات الواقع، لكنها تبقى وعدًا أو نبوءة بذلك.