27-مايو-2016

عنابة(إسماعيل مالكي)

"عندي زوج خواتات/ خواتاتي من بابا/ وحدة في سوق أهراس/ ووحدة في عنابة"، مقطع من أغنية أثثت أعراس الشرق الجزائري خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، فيها ذكر لمدينتين متجاورتين ولد في الأولى، سوق أهراس، القديس أوغستين عام 354، وعاش ومات في الثانية، عنابة 600 كيلومتر شرقًا على البحر الأبيض المتوسط، عام 430، بعد أن ترك آثارًا منها "مدينة الله" و"الاعترافات" جعلته ثاني أهم آباء الكنيسة بعد الأب بطرس.

تعتبر كنيسة القديس أغسطين في عنابة واحدة من التحف المعمارية في المتوسط التي تمثل قيم الحوار والانفتاح بين ضفتيه

ما إن تدخل عنابة من جهة قسنطينة التي تبعد عنها 130 كيلومترًا، حتى تواجهك "كنيسة القديس أغسطين" على هضبة "بوخضرة"، والتي أعيد ترميمها عام 2013 بميزانية بلغت نصف مليار دولار ساهم فيها بابا الفاتيكان نفسه، لتصبح واحدة من التحف المعمارية في المتوسط التي تمثل قيم الحوار والانفتاح بين ضفتيه، ذلك ألا تأثير دينيًا لها على الإنسان العنابي، بما في ذلك المسنون المسلمون الذين تأويهم.

اقرأ/ي أيضًا: "البليدة" الجزائرية.. مدينة الورود الساحرة

من التحف المعمارية الدينية في المدينة "جامع أبي مروان الشريف"، الذي بني في القرن الرابع الهجري من قبل أبي الليث البوني، ونسبته إلى عبد الملك بن مروان بن علي الإشبيلي الذي جعل من المسجد جامعة دينية وعسكرية في الوقت نفسه. المبنى اليوم يواجه عوامل الانهيار رغم ترميمه عام 2007.

 

العلاقة التاريخية لعنابة بالدين، لم تؤل بها إلى الانغلاق والتطرف، بل باتت من أكثر المدن الجزائرية انفتاحًا على مظاهر الحياة وممارسة طقوس البهجة والفرح، حتى إنها تنافس وهران في هذا المنحى، بل إنها تنافس المشهد التونسي الذي يبعد عنها 80 كيلومترًا فقط. يقول الشاعر المغربي عادل لطفي لـ"الترا صوت" بعد أن زار عنابة: "ما يلفت الانتباه في عنابة هذا العناق الحميم بين الإنسان والمكان والجبل والبحر والأرض والسماء والقديم والحديث، وهذا لا يحدث إلا في المدينة المتجذرة في التاريخ والجغرافيا".

تنسب المدينة إلى فاكهة العنّاب التي تشكّل هويتها، مدينة تنسب إلى الفاكهة، ويمكن لزائرها أن يجد لمسات باقية من الحضارات التي ساهمت في تشكيل ملامحها، انطلاقًا من الفترة البونيقية في القرن الـ12 قبل الميلاد، حيث كانت تسمى "هيبون"، فالفترة الرومانية التي باتت فيها عنابة أو "هيبو ريجيوس" أغنى مدينة أفريقية وحمل ميناؤها اسم "الأفروديسيوم" نسبة للآلهة أفروديت، أما الحضور الفرنسي فقد بدأ فيها عام 1832، ليتجلى كاملًا في شكل مدينة جديدة عام 1870.

اقرأ/ي أيضًا: قصر الرومية بالجزائر.. قصة حب ملك أمازيغي

إذا كان من الممكن لمدينة ما إن تُختزل في مكان معين منها، فإن عنابة تُختزل في "ساحة الثورة" المعروفة شعبيًا بساحة الكور

إذا كان من الممكن لمدينة ما أن تُختزل في مكان معين منها، فإن عنابة تُختزل في "ساحة الثورة" المعروفة شعبيًا بساحة الكور. يقول الكاتب ربيع خروف أحد الشباب المبدعين في المدينة: "كلّما طرحنا السؤال على زائر من زوار المدينة، أي مكان هو الأقرب إلى قلبك بمدينة عنابة؟ فستكون الإجابة شاطئًا من شواطئها بالواجهة البحرية، إيدوغها/أشهر جبال المنطقة، جوامعها وكنيستها.... وكورها الذي يحقق الإجماع". هذا الإجماع على "ساحة الكور" يتأتى من نبضها الدائم ليلًا ونهارًا، حيث تلتقي الأجيال والطبقات كلها لتشرب الشاي وتتناول المثلجات وتلتقط الصور وتشتري التحف الصغيرة.

تعد الساحة من الفضاءات الجزائرية النادرة التي تحتضن الميولات والرغبات والأفكار والاتجاهات المتناقضة، حتى إنك تستطيع أن تجد عائلة سلفية بالجلباب ونصف الساق ونخبة من المثليين في طاولتين متجاورتين، أو في الطريق إلى "شاطئ ريزي عمر" أو "شابوي" سابقًا، حيث تبدأ أسطورة البحر العنابي الذي يبدو كأنه احتسى السماء وصولًا إلى "منارة رأس الحمراء" التي شيدت عام 1850 وتتصل بـ"عين بنت السلطان" المنبع الذي يتبرك به العنابيون.

في هذه البقعة تنتابك الحيرة: هل أنت متصل بالأرض المسكونة باخضرار صارخ أم بالسماء المسكونة بزرقة كأنها صفاء الروح؟ ومنها يمكنك الولوج إلى جنة "سرايدي" التي تمنحك فيها عناصر الغابة والنهر والينبوع والشلال الإحساسَ بأنك أصبحتَ شطرًا من الطبيعة. التقينا مجموعة من الشباب القادمين من الصحراء، كانوا مخيمين بين الأشجار قرب نهر، قال لنا أحدهم متحسرًا: "حين نشرت صوري في عنابة، علق كثير من الأصدقاء بعبارة "كأنك في أستراليا أو سويسرا أو تركيا"، مما يشي بأن الجزائري لم يتفطن بعد إلى جماليات مكانه، فهو يعتقد أن الجمال حكر على الجغرافيات البعيدة".

تعد عنابة، التي يبلغ عدد سكانها ثلاثمائة ألف نسمة من الحواضر التي تنتج الفنون وتستهلكها بتميز كبير، فهي إحدى بؤر فن "المالوف" ذي الأصول الأندلسية، وإحدى أكبر المدن الجزائرية إنجابًا واستقبالًا للتشكليين والمسرحيين والشعراء والموسيقيين. لقد استطاعت أن تدخل إلى النصوص مثلما دخلت النفوس، منها رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" الصادرة عام 1983.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شلالات "إيموزار إداوتنان" المغربية.. سحر الطبيعة

بضع بتلات سمراء تصنع رمزًا وطنيًا لفلسطين