22-أبريل-2016

عماد بزي

بيروت المدينة الصغيرة بحجمها، والكبيرة باسمها، هي الصفة التي لا يمكن محوها من ذاكرة من زارها، أو عاش فيها نيفًا من الزمن، تبقى المدينة الأهم في تاريخ العديد ممن عاصرها، منذ خمسينيات القرن المنصرم، ذاكرة زواريبها، مقاهيها، وساحاتها العامة، مدينة لا تزال حتى اللحظة محفوظة بذاكرة الحرب، والعلاقات الصاخبة، ما يجعل منها إرثًا ذاتيًا في أذهان جميع من عرج إليها في يومٍ من الأيام.

يروي عماد بزّي قصصًا مختلفة عن بيروت، تعود إلى أيام الاحتلال العثماني لبلاد الشام

في كتابه "خلف أسوار بيروت"، الصادر عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر"، يروي لنا المدون اللبناني عماد بزّي، قصصًا مختلفة عن بيروت التي نعرفها، تعود في حقبتها إلى أيام الاحتلال العثماني لبلاد الشام، يوم كان اسمها ولاية بيروت، وصولًا إلى أيام حربها الأهلية.

اقرأ/ي أيضًا: عماد أبو صالح.. الشعر في المزبلة

يمتد الزمن في كتاب بزّي الأول، ضمن رحلة قصيرة، لكنها غنية بالقصص والحكايات، المتخفية خلف أحجارها القديمة، يمتزج فيها السردي الفكاهي والسردي المؤلم، لتبدو كما لو أنها احتفاء من نوع آخر، أراد أن يدون من خلاله بطولات أشخاصها الذين عاشوا فيها، في مرحلة تعيد إليها لذة "الخيم لا القصور، البيوت المتواضعة المتراصة على حافة المدينة، لا القلاع والحصون المنيعة".

يقول بزّي في مقدمة الكتاب إنه أراد تاريخًا يصنعه أبطال يشبهونه "لا إقطاعيون يشبهون ساسة هذا الزمان"، لذلك لن نقرأ سردياتٍ عن قصصٍ معاصرة، إنما سنقرأ قصصًا عن بيروت عندما دخلها الترامواي لأول مرة، وعندما كان ينصت سكانها في المقاهي إلى الفونوغراف، وعن صناعة أول فيلم صامت "مغامرات إلياس مبروك"، للمهاجر الإيطالي جوردانو بيدوتي سنة 1929.

هكذا يتنقل القارئ مع صاحب الكتاب، الذين يتأرجح دوره بين الراوي والقاص، في معظم القصص المحكية، والمنقولة عن لسان المعمرين البيروتيين الذين التقاهم لإكمال مشروعه، والذي استغرق إعداده 10 سنوات، صحيح أن المدة تبدو طويلة، قياسًا بحجم الكتاب الذي يضم سبعة وعشرين قصة، كتبت داخل مائة وستون صفحة، لكنها استطاعت أن تأخذنا في رحلة تمتد فترتها لما يقارب قرنًا كاملًا.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا سيبقي من أعراس قسنطينة؟

رحلة البحث عن المصادر التي تؤكد ما سمع البزّي من قصصٍ، ألزمته السفر إلى تركيا للبحث في أرشيف وثائق وزارة الثقافة التركية، ما وضعه في معظم أوقات الكتابة موضع الباحث، ففي القصص المروية شيءٌ من التاريخ المخفي خلف زواريب بيروت، المدينة التي ما زالت صامدة رغم جميع الطعنات التي تعرضت لها على مر التاريخ.

يرسم "خلف أسوار بيروت"، في كامل قصصه، سيّر أناس عاديين عاشوا على هامش المدينة

يطغي على معظم قصص الكتاب، نوعٌ من الحزن في نهاياتها، كما حدث مع رفيق الذي قتله انهيار سقف "مقهى كوكب الشرق"، أو في قصة "فاطمة المحمصاني" التي أعدم شقيقاها، عندما لاحق جمال باشا السفاح أعضاء الكتلة الوطنية في سوريا ولبنان، ليخلد ذكرى جميع أعضاء الكتلة في عيد الشهداء الذي يصادف السادس من أيار/مايو. وفي مطارح ثانية نذهب إلى الفكاهة العفوية، كما في قصة "قبقاب فوّاز وفؤاد"، ما أضفى على الكتاب أنماطًا مختلفة في طريقة السرد، يجمعها اللغة السهلة غير المعقدة.

وعلى نفس الوتيرة ينقلنا البزّي، ليخبرنا عن أسباب تسمية الأماكن بالأسماء المتعارف عليها حاليًا، ويعيدنا بالتاريخ إلى وقائع حدثت، لكنها بقيت مخفية، لتطغي عليها وقائع حديثة، مثل تسمية "السبت الأسود"، والذي أطلقه البيروتيون أول مرة سنة 1903، أي قبل سبعة وستين عامًا من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.

يرسم الكتاب في كامل قصصه سيّر أناس عاديين عاشوا على هامش المدينة، وهو ما أراد عماد بزّي أن يوصله للقارئ، محاولًا إلقاء الضوء على سير أشخاصٍ لم تعنِ لهم الشهرة شيئًا، بقدر ما كان يعني لهم العيش في بيروت. ففي النهاية نحن نقرأ عن "بيروت الصغيرة الكبيرة، بحكاياها التي لا تنتهي"، أي تلك المدينة التي تشبه عشاقها، وروادها الذين يتلاشون مع زواريبها الضيقة، لا بيروت التي يسيطر عليها إقطاعيها الجدد الذين لن يجدوا من يكتب عنهم بعد زمن ليس بالبعيد.

اقرأ/ي أيضًا:

جبران خليل جبران.. حادي الأرواح المتمردة

بودلير.. روائح أزهار الشرّ