06-سبتمبر-2018

يفجيني جورديتس/ أوكرانيا

عزيزتي مون..

"تمضي بنا الحياة كريح تصرّ على عنادها"، يقول أراغون في قصيدة لا تخلو من شحتفة كنت قد قرأتها اليوم ولست أعرف لم بدأت بها هذا الخطاب. المهم أنني أكتب إليك بعد عودتي من حفل زفاف أماني، شقيقة أحد زملاء الدراسة، التي أكملت عامها التاسع عشر لتوّها، ولا أريد الحديث عن تلك الزيجات التي يلقون فيها بفتيات لم يختمرن بعد إلى رجال غرباء ينتظرون فرصة التحقق على سرير الزوجية. فقط أردت التأكيد على أن فيلمًا سيئًا يمكن إنقاذه بمشهد حلو.

كانت هناك بنات يرقصن في أزهار مبكّر وعذب على أنغام موسيقى هائجة لا تعرف شواطئ قريبة. من مكاني أتابعهم كمن يتابع غيمة يعرف أنها لن تحط على أرضه قانعًا بالظلّ الرهيف الذي تمنحه. كنّ يرقصن بدلع وخِفّة ريفية تجبرني على التواطؤ في لعبة الاستجابة المبطَّنة. تلك اللحظات المكثّفة أنقذتني من القدر المعدني الصلب الذي يتربّص بحفلات الزفاف التي أحضرها عادة. أعرف أنك لا تغارين حين أقول هذا الكلام، وأستطيع تخمين ردّ فعلك لو كنتِ أمامي الآن، لكنني رأيتكِ، بالأمس، هناك، ترقصين بين البنات، بطريقتك العبيطة المعتادة، تحركين يديك حركات مقتصدة وموزونة لا يطرّز توفيقها فشلك الذريع في السيطرة على خصرك العشوائي، تغمغمين في الأثناء بكلمات أغنية أخرى غير التي يسمعها الناس، وتتبادلين النظر بين الأضواء المحيطة وحزامٍ وهمي مشدود على خصرك. آه، خصرك الصغير المجنون الرطب.

*

 

 عزيزتي مون..

مؤخرًا نويت تعلّم قيادة السيارات لأجلك بالذات، فالحقيقة يا عزيزتي أنكِ سائقة متهوّرة ومستهترة ولم أخطط بعد لتكون نهايتي على إحدى الطرق السريعة. ألبير كامي كان يقول إن حوادث الطرق هي أكثر الميتات عبثية، وسبحان الله لقي مصرعه في إحدى تلك الحوادث. لا أريد أن أكون بطلًا لأمثولة عن القيادة على الطرق السريعة في أحد أفلام السينما الإسلامية النظيفة التي يبدو أننا على أعتابها بإذن الله، فلا يزال هناك الكثير لنكتشفه على الطريق، وليست السرعة بالشرط اللازم للاستكشاف. دعينا نمضي ساعات بلا ضفاف في طرقٍ جانبية تأخذنا لتجارب تزيد من شساعة العالم. وتذكّري أن سعادة الوصول لا تضاهي متعة الطريق، أو كما قال أحدهم: "أهمّ م الشغل.. ظبط الشغل".

 برحيلك سأتخفّف من هذا العبء وأفسح المجال لأعباء أخرى سيخلقها غيابك.

 *

 

عزيزتي مون..

 شبين الكوم لا تشبه فرانكفورت. على الأقل حين تستيقظين كلّ صباح، لن تكون هناك "صباح الفُلّ" التي تبدئين بها يومك.

شبين مدينة صغيرة تحايلت على قرويتها فأصبحت عاصمة أكبر محافظة طاردة للسكان في مصر. خرج أبناء المنوفية للقاهرة (المحروسة) منذ الأربعينيات، بعد الحرب العالمية الثانية وازدهار الصناعة المصرية، واستمرّ الخروج بعد انقلاب الضباط في يوليو 1952، ولكن بمعدلات كبيرة. كانت المصانع في ضواحٍ على أطراف القاهرة، فاستوطنها الوافدون الجدد، وتمدّدت المدينة بسرعة مذهلة. أفكّر الآن: هل كانت توسعة القاهرة من جانب العسكر (هكذا قُدّر لنا في رؤسائنا الثلاث الأطول مدّة، ورابعهم الذي سيحطم الرقم القياسي بإذن الله) ترجع لرغبتهم في الإتيان ببلدياتهم (لاحظي أن الأربعة رؤساء من أصول ريفية) للقاهرة، للمركز، للحلم؟

ترهّلت القاهرة كثيرًا حتى صرخ جمال حمدان منذ ثلاثين عامًا بضرورة إعلانها مدينة مغلقة على ذاتها، كان ذلك قبل التمدد العاصف الأخير الذي بدأه السادات وخلفه فيه مبارك. بالنظر لصرخة حمدان؛ يمكن اعتبار مدن مثل العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر والعبور والسلام أحلام يقظة شيطان عابث. وها نحن على أعتاب مشاهدة الخازوق الأكبر بعد أصياف قليلة: العاصمة الإدارية الجديدة.

شبين تغيّرت كثيرًا عزيزتي، كغيرها من المدن التي اخترقتها الأبراج السكنية والإدارية لتملأ الفضاء، ليستيقظ أهلها ذات يوم فلا يستطيعون رؤية السماء. مرّة حدّثتني صديقة قاهرية عن الصعوبة التي تواجهها في رؤية السماء حين تكون في العمل أو في الشَقّة. (من الأدقّ أن أقول "شَقّة" وليس "بيت"، فالبيوت لأهل القرى والمدن الصغيرة، أما المدن الكبيرة، مثل القاهرة، فأغلب أهلها يسكنون شققًا يستأجرونها أو إذا حالفهم الحظّ يتملكونها). أشفقت على صديقتي لحظتها وشعرت بامتنانٍ يمنحه ذلك الإدراك بامتلاك أشياء صغيرة تحمل بهجات بلهاء لا يطفئ مرحها الطفولي الساذج تراكم الخيبات بمرور الزمن. كأن أصعد في الشتاء إلى سطح بيتنا لاستقبال المطر: أفرد يديّ، وأدندن أي أغنية تحضرني أو أفتح فاهي كالمهبول ناحية السماء، ويتنزّل عليّ المطر، وأحيانًا أرى قوس قزح في الأيام المشمسة. البهجة التي نلقاها في أشياء صغيرة كهذه هي ما تنقذنا من رتابة أيام متشابهة وحياة طافية فوق نهرٍ راكد. لكن الحق أقول لكِ، إن تكرار الحديث عن مثل هذه الأشياء، بنفس النبرة ولمعة العيون، هو بضان خالص.

تبدو لي -الآن- شبين الكوم كمدينة مملّة وعاطلة عن إثارة الدهشة، وليس سبب ذلك انتقالي –لظروف الدراسة- إلى مدن أكثر حيوية تتأخر في الذهاب إلى النوم، فالعاشر من رمضان مدينة موتى؛ هواؤها راكد وفضاؤها كئيب وصحراؤها ليست أليفة على الإطلاق، سكنتها خمس سنوات إلى الآن وتبدو لي تلك المدة كافية لتأكيد انطباعي الأول عنها بأنها ليست مدينتي. حتى الآن لم أجد "مدينتي" التي على الأرجح ستكون إحدى نزوات الخيال المعطّل عن التفعيل. ومن يدري، فربما يكون هذا النقصان في تمام أمنياتنا ورغباتنا في هذا العالم، هو ما يجعلنا أكثر رغبة في البقاء والعيش واستكمال الحياة. ربما.

 *

 

عزيزتي مون..

 أُحبُّ الشوارع الجانبية. وأحبّ أن أرى الذاكرة كالمدينة بشوارع جانبية تعد بالكثير مما لا نعرفه.

 في جولاتنا الطويلة معًا، كنّا ندخل وسط زحام مدينة تتصنّع البهجة وتثقل وجهها بمكياج فاقع. نمشي، وبنا رغبة دائمة في الابتعاد عن الشوارع الرئيسية والمباني الضخمة التي تعلن عن نفسها بفظاظة وتكتم على أنفاس الشوارع الجانبية، ببيوتها القديمة التي تختزن حكايات سقطت من ذاكرة المدينة العجوز. ربما وُجدت الرواية –وهي فنّ مديني بامتياز- لترمّم ذاكرة المدينة، ذاكرتنا. أقول ذاكرتـ(نا) بإدراك منّي لما أودعته للمدينة من أحلام وما خلّفته المدينة على ذاكرتي من شظايا؛ أنا الريفي الذي يكره أسفلت الشوارع الساخن والصناديق الإسمنتية التي استألفها أهل المدن. نكتب بغريزتنا النوستالجية مدينتنا، وجودنا في خلقٍ مستعاد نستعين فيه بذاكرتنا التي اختلطت فيها الأحلام بالوقائع وآثار الجينترفيكيشن.

في مقالة له عن كتاب "السرائر" لمنتصر القفاش، يقول شكري عيّاد: "إن ما ينتهي إلى الذاكرة لا يصير يقينًا، فما كان، صائر إلى كون آخر متجدّد غير مُنته، وعبر الزمن. قلق الأوراق القديمة باصفرارها المدهش والقادر على الاحتفاظ في قلب هشاشتها بأسباب الآن، هي الباعث للوجد الدافئ وتساؤلات لا تفرغ من النفس الجوّالة في الحروف المخطوطة على هوامش مواقيت ولّت تواريخها وبقيت خوافيها ترتجف بالحياة الكامنة في متونها، ماضية إلى "الآن" الحاضر النافذ في الزمن العابر، يحمل أسرارها الحيّة وفيض حصولها في قلبه."

 *

 

عزيزتي مون..

 الذكريات ستقتلنا.

تشاكسني تلك العبارة في الأيام الأخيرة. لا تسيئي الظن بي عزيزتي، فأنا أجدها بديهية جدًا ولا تحتاج لسياق يبرّر إلحاحها الأخير. نحن منفيون في هذا العالم عن عالمنا الحقيقي (؟)، منفيون عن ذواتنا الأصيلة، والذكرى تقوم بدورها كجسر يربطنا بالمعنى الذي كان. لكن الحنين لم يعد مشبعًا في زمن تتضاعف أحداثه المكرّرة بوتيرة مرهقة، ورغم ذلك نداوم عليه كأغنية يابسة. فلا تخافي ولا تحزني، فإنّا لذكرياتنا لحافظون، وإنّا منها لمفشوخون. 

أنتِ، مثلًا، لا زلتِ وفيّة لذكرى شتيفي التي تركت العالم مبكّرًا، تلبسين سلسلتها التي تنتهي بصليب، رغم استنكار ورفض الكثيرين. السلسلة اختصرت حياة شتيفي السابقة وحمّلها موتها بدلالات أكبر منها، لذلك إذا افترضنا ضياعها لاحقًا، لأي سبب من الأسباب، سيكون ذلك ضياعًا لشتيفي بمعنى ما. نحن نرنو السلوى في الحياة، ولا نجدها، وهنا قيمة الذكرى، من حيث هي سلوى سلبية، إذا جاز التعبير. فثمة شيء ما يبقى، يجعلنا أكثر واقعية (؟)، أكثر فهمًا لطبيعتنا المؤقتة، زمكان محتمل لا ينفصل عنّا، يسهل استدعاؤه ويوسّع مجال وجودنا العابر، زمن سرّي ينفسح عنه الوقت ليخصّب آننا الخالي من الشغف. هل تذكرين كلامنا عن فيتشية المحبة الكفيلة بإدخالنا في آتون ذكريات لا ترحم؟. إننا مرضى بالحياة، نكره الحياة ونحاول أن نحبّها، نهرب منها وبنا رغبة العودة إليها.

*

 

 عزيزتي مون..

 في طريقنا نحو السعادة يجب أن نُسقط من حساباتنا كمًّا هائلًا من الأوهام المتعلّقة بطرق وردية ممهّدة وجاهزة لنزهة رائعة، فالسعادة في تلك الحالة تصبح لعنة تلغي حساسيتنا للحياة وتُدخلنا في احتضارات يومية صغيرة. بماذا ستفيدنا السعادة إذا كان الطريق إليها سعيدًا؟ سذاجة خرائية مدهشة يستأثر بها فقط من أوقفوا حياتهم في انتظار سعادة دائمة تجعلهم يضجّون بالصراخ كلما اعترض طريقهم ما يمنعهم مؤقتًا من مواصلة رحلتهم المقدسة نحوها.

 يجب أن نوطّن أنفسنا على الندرة النسبية لأسباب البهجة في حياتنا، ونتدبّر أمرنا بما هو موجود، فالخيال مُرهِق ومُستهلِك. يمرُّ الوقت ونحن لا نزال في محاولاتنا البائسة في تحصيل سعادة مؤقتة. يجب أن نمضي ولا نضيّع أعمارنا القصيرة في البحث عن السعادة؛ التي غالبًا ما تكون مجاورة للهراء، كما يقول الحكيم العجوز ماريو بينديتي.

علينا تعلُّم عدم انتظار التحقّق، والخروج من مسار الوعود المؤجلة لغدٍ أفضل لن يأت. فكلّ فرحة ناقصة وكلّ بهجة مؤقتة، والجودة بالموجودة يا عزيزتي.

 *

 

عزيزتي مون..

حلمت بكِ ليلة الإثنين. كنتِ في طريقٍ واسعة جدًا، تبدين تائهة تحت رذاذ أضواء كافة المركبات المتحركة التي أعرفها، تخترقين أضواء مهتزّة ويصبح من الصعب عليّ تتبُّعك. ثمّة شريط صوت وموسيقى مرافقة مثل المصاحب للقطات التي على تخوم الواقع المحلوم، فيما تعلو في خلفية المشهد جبال راسيات كأنهن التجسيد الامثل على التعبير القرآني البديع، طويلة كأنها ترقد منذ الأزل وستظلّ كذلك إلى الأبد. تعبرين أخيرًا إلى الجانب الذي أقف فيه. "شارع صغير لقدمي هو كلّ ما أريد"، تقولين، وتخطفين علبة سجائري الدانهيل الحمراء، تلتقطين سيجارة وتخرجين ولاعة أنيقة (رغم أنك ترتدين فستانًا؟) تنفخين دخّان أوّل نَفَس تجاهي مبتسمةً. تبدو السيجارة قيّمة بين أصابعك. "هل ستأتي معي نبحث عن الكنز؟".

 *

 

عزيزتي مون..

منذ بدء إجازتي الدراسية وعودتي للمنوفية، وإيقاعٌ رتيب للحياة يشتدّ فيّ، تقطعه نادرًا طلعات قصيرة للمنصورة أو الإسكندرية.  لقد اكتشفت أن التعوّد يولّد الألفة، فقد صرت أرتاح لرتابة الأيام المتشابهة التي لا تطالبني بشيء، أنام كثيرًا على غير عادتي وأضيّع ساعات طويلة على الإنترنت. منذ 16 يومًا غيّرتُ نظام يومي: أنام في الصباح ما بين الثامنة والعاشرة، وأستيقظ في المساء بين السادسة والثامنة. داومت على فعل ذلك منذ اليوم الرمضاني الأخير، ولكنني مللتُ ذلك الآن، فكما يولّد التعوّد الألفة، يصبح اعتياد الألفة مملًّا، وهكذا هي الحياة يا عزيزتي.

 نظام الصحو والنوم هذا نبّهني إلى صباحات تبدو فيها الحياة نضرة وطازجة، كأنها تدعو الواحد ليستعيد فيها حساسيته للعالم. تكتسب الأشياء بُعدًا ميتافيزيقيًا يجعلها مثيرة للدهشة، أو ربما نحن مَن يكتسب بصيرة ميتافيزيقية تتغيّر معها الأشياء.

المهم، أنني ذات صباح قريب، خرجتُ إلى فراندة بيتنا وأخذت نَفَسًا عميقًا وزفرته ببطء مريح.

 كنتُ أتنفّس العالم في السادسة صباحًا.

 أسمع زقزقات عصافير، كما في طفولتي البعيدة. نباح كلاب قريبة. خطوات صباحية. أصوات قريتي التي تنهض من نومها. كنت أتنفس العالم في السادسة صباحًا مُنحّيًا –قدر ما أستطيع- دبيب نمل في رأسي يذكّرني بضرورة النوم، لكن الدبيب يتزايد، وتبدأ غيمة في إكساب ما أراه ظلًّا غريبًا، كأنني أرى العالم من وراء أحد فلاتر كاميرات التصوير أو أن نافذة لا أراها تشرع فجأة، نافذة بداخلي ربما.

ستكونين في سفرك نافذة غائبة عن كلّ صباحاتي الجميلة القادمة التي أسمع فيها أصوات كائنات الصباح وأشارك الأشجار ذكرياتها التي يطلقها نسيم عابر يذكّرني دومًا بالحدائق البعيدة التي نتنسّمها عبر رسائل طويلة نتحايل فيها على الجغرافيا.

 *

 

عزيزتي مون..

البهجة تنقذ البهجة، وغرف الصيف في انتظار دائم لمساءات واعدة

 فالسلام على أوراق رسم لم تجفّ ألوانها بعد

وغرف صيف كأرحام آمنة

وأمسيات رائقة تمتد حتى الصباح

ووقت نرعى فيه بهجاتنا الصغيرة.

 

حتى نلتقي

محبّات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خسارات للاحتفاء

لم تتجاوز أعمارنا

دلالات: