05-فبراير-2021

عزمي الصغير مع طفليه

في المنطقة العسكرية المغلقة بالمقبرة المجاورة لجسر بنات يعقوب، عند ملتقى حدود فلسطين المحتلة مع سوريا، أو في إحدى مقابر الأرقام السرية المنتشرة في ربوع الوطن المحتمل، هناك في مكان ما يرقد جثمان العقيد عزمي الصغير إلى جوار رفاقه الشهداء، الذين لم تنتصر إسرائيل عليهم فانتقمت منهم.

أصيب عزمي الصغير بجروح بليغة في وجهه وساقه جراء لغم أرضي زرعته قوات الاحتلال على الحدود، وكادت الإصابة تكلفه بتر ساقه

ولد عزمي الصغير في الخليل، تلقى تعليمه في مدرسة المحمدية في المدينة، مع اندلاع الثورة الفلسطينية التحق بحركة فتح سنة 1967 في الأردن. تسلّم مسؤولية جهاز الرصد جنوب غور الأردن، وكان الوجه الابرز والمسؤول عن تسهيل عبور دوريات الفدائيين من شرق النهر في الأغوار إلى داخل فلسطين المحتلة، على الرغم من أن مقر قيادته المركزية كان في جبال السلط، التي تعرضت لهجمات الطائرات الإسرائيلية ردًّا على عمليات العبور من شرق الأردن، وقد نجا بأعجوبة من عدة محاولات لاستهدافه.

اقرأ/ي أيضًا: زياد الحسيني.. الفدائي الذي حكم غزة ليلًا

لم يكن عزمي قائدًا عسكريًا مهتمًا بالتنظير وتوجيه المجموعات، بل كان المشرف الميداني على العديد من العمليات ومشاركًا في بعضها، إلى أن أصيب بجروح بليغة في وجهه وساقه جراء لغم أرضي زرعته قوات الاحتلال على الحدود، وكادت الإصابة تكلفه بتر ساقه، إلا أنها في النهاية الزمته باستخدام عصا تساعده على الحركة والتنقل.

في 1971، بعد معارك جرش وعجلون، كان قرار قيادة الثورة هو الخروج من الأردن، لكن عزمي الصغير المرابط في الأغوار أصر على خروج قواته من الأردن بكامل أسلحتها ومعداتها، وتم ذلك بعد مفاوضات شارك فيها الوفد السوري بالأردن. انتقل عزمي إلى لبنان واستلم هناك العديد من المسؤوليات العسكرية، إلى جانب عضويته في المجلس العسكري الأعلى لقوات العاصفة وعضوية المجلس الثوري لحركة فتح.

عمل مع الشهيد خليل الوزير أبو جهاد، فكُلف بمهمة الرصد في جنوب لبنان، بالإضافة لمسؤوليته كنائب لقيادة كتيبة أبو يوسف النجار التي استلم قيادتها فيما بعد، وكانت المسؤولة عن العمليات العسكرية الخاصة في الفترة الممتدة من 1974 إلى 1979، انطلاقًا من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل، فشارك مع أبو جهاد بالإشراف على تدريب المجموعات المنفذة لعمليتي فندق سافوي، التي كانت بالأساس تستهدف مبنى وزارة الدفاع الإسرائيلية، وعملية الشهيد كمال عدوان التي قادتها الشهيدة دلال المغربي وأدت الى مقتل العشرات من الإسرائيليين، وذلك عن طريق تدريب عناصرها في معسكراته على السباحة والقنص والاقتحام وعمليات التفخيخ ومقاومة الكلاب البوليسية، بالإضافة إلى العمليات الخاصة استمر في إرسال الدوريات للتسلل إلى عمق الأراضي المحتلة مع تكثيف عمليات قصف المستوطنات الإسرائيلية بصواريخ الكاتيوشا.

عين عزمي الصغير مسؤولًا للقطاع الغربي في راشيا والعرقوب، واستلم قيادة القوات المشتركة في صور حين اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978 إلى نهر الليطاني، فكان على رأس القوات التي تصدت لعملية الاجتياح وعمل خلف خطوط العدو.

عين عزمي الصغير مسؤولًا للقطاع الغربي في راشيا والعرقوب، واستلم قيادة القوات المشتركة في صور حين اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978

أمام دوره المتنامي في المقاومة وضعته إسرائيل عام 1980 على رأس قائمة المطلوبين لديها، فالعديد من العمليات التي ضربت العمق الإسرائيلي في تلك الفترة كان لاسم عزمي حضور لافت فيها.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي

في عام 1982 تزايدت التهديدات الإسرائيلية وأصبح احتمال حدوث عملية اجتياح واسع قاب قوسيين أو أدنى. القيادة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية أخذت تلك التهديدات على محمل الجد فقامت بتحصين مواقعها ووضعت السيناريوهات المحتملة للاجتياح، في السادس من حزيران/يونيو، أعلنت إسرائيل انطلاق حملتها العسكرية تحت مسمى سلامة الجليل بهدف إنهاء الوجود العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، بعد عملية استهداف السفير الإسرائيلي في لندن من قبل جماعة أبو نضال، كان العقيد عزمي الصغير على رأس قواته في منطقة صور، وكانت الخطة تشمل الدفاع عن مناطق داخل المدينة بشكل مترابط مع المخيمات، مما يساعد على إشراك العدد الأكبر من القوات للدفاع عنها بالتعاون مع الأهالي في المزارع المحيطة بالمنطقة.

تقدمت القوات الإسرائيلية بسرعة بعد انهيار الدفاعات وهروب العميد الحاج إسماعيل، قائد القوات المشتركة في الجنوب، وانسحاب القيادة العسكرية باتجاه بيروت، لكن العقيد عزمي الصغير ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والصمود والتضحية وحافظ على شرف العسكرية، وأبرق للقيادة في بيروت آخر رسائله وقال إنه "سيقاتل حتى آخر رجل ولن يسمح للقوات الإسرائيلية بالمرور إلا وهو شهيد".

قاتل القوات المتقدمة وأجبرها على التوقف ولم ينسحب، بل شن العديد من الهجومات المعاكسة، حيث كبّد مقاتلو عزمي قوات العدو خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، ولم تستطع القوات الإسرائيلية التقدم شبرًا واحدًا طيلة يومين، لكن العدو مهّد لاقتحام المدينة ومخيماتها بقصف جوي عنيف وكثيف شاركت فيه طائرات الفانتوم وإف 15 وإف 16، استمرت الهجمات لثلاثة أيام متواصلة، وكان نصيب مدينة صور من الطلعات الجوية الإسرائيلية 60 طلعة يوميًا، يُلقى عليها ما معدله 300 طن من القنابل يوميًا، وقُدرت القوة المشاركة للسيطرة على المدينة بسبع كتائب معززة بمجموعة مدفعية ميدان، بالإضافة إلى الدعم الجوي والبحري حيث شهدت أكبر عملية إنزال بحري وجوي على سواحلها بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وبمساعدة من قوات العملاء بقيادة العميل سعد حداد حيث تمكنوا من عزل مدينة صور ومخيمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي.

تم احتلال مدينة صور، ولضمان السيطرة عليها قام العدو بإخراج جميع سكانها إلى الشاطئ، وبعد عمليات التفتيش والتدقيق في الهويات قام باعتقال المئات، ولم يبق أمامه سوى القضاء على مجموعات الفدائيين المتبقية والمتحصنة داخل المخيمات الثلاثة.

وضعته إسرائيل عام 1980 على رأس قائمة المطلوبين لديها، فالعديد من العمليات التي ضربت العمق الإسرائيلي في تلك الفترة كان لاسم عزمي حضور لافت فيها

في الثامن من حزيران/يونيو، مع اشتداد القصف الجوي والمعارك التي رافقتها إنزالات بحريه على منطقة صور، توجه العقيد عزمي الصغير برفقة نائبه الشهيد زكي أبو عيشة ومجموعة من المقاتلين من كتيبة الشهيد أبو يوسف النجار إلى شمال مخيم البص، الذي كان يشهد تحركات عسكرية إسرائيلية كبيرة، مما اضطره ومرافقوه إلى الانسحاب إلى منطقة بساتين تحصنوا بفيلا قريبة من البحر، لكن قوات الاحتلال عرفت بمكان تواجدهم بحسب الروايات المتداولة عن طريق أحد العملاء، حيث كانت تطارد العقيد عزمي بعد توارد الأخبار عن احتجازه للعديد من جنود الاحتلال من بينهم ضابط برتبة كبيرة وتصفيتهم بعد تعذر محاولات نقلهم إلى بيروت، فقامت بتطويق المنطقة والاقتراب من المنزل لاعتقاله، لكنه بادر مع المقاتلين المتحصنين معه بالاشتباك مع القوة العسكرية الإسرائيلية التي تولّت تطويق المنزل ونشبت معركة غير متكافئة استمرت لعدة ساعات، حيث تحدث قائد العملية مع إرييل شارون وزير الدفاع وقتها عن وجود عزمي الصغير في البيت المحاصر فقال له: "لا أريده حيًّا. احرقوا البستان بمن فيه".

اقرأ/ي أيضًا: أبو صالح.. الحالم الذي أضاع الطريق

بعد عملية إنزال نفذتها قوات إسرائيلية خاصة على الفيلا، انتهت باستشهاد جميع من كان متحصن داخلها بعد نفاذ ذخيرتهم وإحراقها، تم نقل جثث من كانوا هناك إلى فلسطين المحتلة ودفنهم بإحدى مقابر الأرقام. وقد أذاع التلفزيون والصحف الاسرائيلية خبر استشهاده العقيد عزمي الصغير تحت عنوان "مقتل ملك صور".

يسرد روجر روزينبلات كبير محرري مجلة التايم الأمريكية تفاصيل رحلته في تقفي أثر عائلة الشهيد عزمي الصغير، وقت الاجتياح بعد الإعلان عن استشهاده، فقد التقاه في أيلول/سبتمبر من العام الذي سبق الاجتياح.

"قال لنا الضابط الاسرائيلي لن تجد الابن على الإطلاق. أولًا، لا أحد واثق بأن عزمي قد مات. فالجثة المحروقة التي عثر عليها يظن فقط أنها جثته، ولهذا فالزوجة سوف تكون في انتظاره ولا تريد أن تقابل أغرابًا. ثانيًا فإن زوجها قائد معروف فهي تخشى على حياته. ولعلك سوف تقضى بقية العمر وأنت تبحث عن الولد. ورغم ذلك كنت أنظر ببلاهة وأنا في صور في وجوه كل الأطفال الصغار الذين هم في الرابعة من أعمارهم".

ويستعيد وقائع ذلك اليوم الذي جمعه بعزمي وابنه سامر: "بقي هناك مكان واحد للزيارة الذي قابلت فيه العقيد عزمي وابنه سامر في أيلول/سبتمبر الماضي. في ذلك الوقت، هذا السقف كان غرفة ومكتبًا له حيطان من الخيزران، وسقف من الخيزران، وبعض الأثاث وبعض الناس. كان هناك العقيد عزمي يجلس وراء مكتبه الحديث الضخم وغير المتناسب مع الغرفة. حول المكتب عدد من المقاعد الحمراء على جانبي المكتب التي يجلس عليها رجال العقيد. لم يكن يهدأ لحظة. فإن أمريكا هي التي جلبت كل هذه المتاعب. إنها أمريكا التي تعطي الدعم للنازي مناحيم بيغن.. امريكا داعية الحرب... في حين أن منظمة التحرير لا تريد أكثر من استرجاع أرضها التي هي حقها، وهكذا. كان عزمي متكلما من الطراز الأول. وكان يستخدم قبضته وعينيه في كلامه ويندفع بكليته إلى الأمام كالمدفع وهو يؤكد وجهة نظره. حتى الآن تتردد في ذاكرتي أصداء كلماته. فقط في ذاكرتي. فالعقيد ليس هنا.. والمكتب ليس هنا.. الرجال ليسوا هنا.. السقف.. الحيطان.. أيضًا لست هنا.

حين عرف شارون أن عزمي الصغير محاصر في بيت حوله بستان، قال لمدير العمليات: "لا أريده حيًّا. احرقوا البستان بمن فيه"

لا يوجد شيء فوق الاستحكام بما في ذلك السقف الذي دحرته المدفعية الاسرائيلية. المكان الذي تكلم فيه العقيد تملأه شمس الظهيرة. لا يوجد شيء سوى الصمت وبعض القش المنتثر. لا أحد يمكنه أن يستدل من هذا القش المبعثر على أن هذا المكان كان قيادة مهمة يومًا ما. في ذلك اليوم من أيلول/سبتمبر الماضي والعقيد عزمي يتدفق في كلامه دخل علينا ابنه سامر، كان يلبس لباسًا مرقطًا وحذاء أسود ويبدو فتى وضيئًا وصبيحًا وبالغًا.

اقرأ/ي أيضًا: سهيلة أندراوس.. رابعة الأربعة

وقف بقامته التي تجاوز المتر إلى جانب المكتب وبدا العقيد يستجوب ابنه الصبي

عزمي: من هو السادات؟

الصبي: السادات باع فلسطين لإسرائيل

عزمي: من هو جيمي كارتر؟

سامر: جيمي كارتر ساعد اسرائيل

عزمي: من أنت؟

سامر (بصوت مرتفع وقوي) أنا من فلسطين من مدينة الخليل.

وبدوري سألت سامر ماذا يريد أن يعمل حين يكبر. أجاب سامر أنه يريد "أن يتزوج" حينذاك. ضج الجنود بالضحك. وتجمد الطفل في استغراب لهذه الموجة من الضحك دون أن يعرف أنه قال شيئًا مضحكًا. وأجابه على سؤال آخر قال سامر أنه يحب أن يعيش في عالم لا جنود فيه. قال ذلك هناك، حيث كان المكتب الحديث وحيث يكير القش هنا وهناك. بعد أن غادر الصبي مقر القيادة قال عزمي: إذا قتلت فإن ابني سوف يحمل بندقيتي".

ليختم المراسل روجر روزينبلات كلامه بـ: "سامر ابن العقيد عزمي، في الغالب يعيش في كنف أمه في ظروف آمنة، فمن المؤكد أن شعبها سوف يحتضن ويحمي زوجة مقاتل وبطل استشهد في سبيل شعبه".

بعد 30 عامًا، اعترفت إسرائيل رسميًا بقتلها العقيد عزمي الصغير، حيث اعترف موشي يعلون نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتها في تصريحات لإذاعة الجيش الاسرائيلي أن القوات الاسرائيلية في عملية "سلامة الجليل" قامت باغتيال أحد كبار القادة العسكريين الفلسطينيين وهو "عزمي الصغير" أحد المقربين من ياسر عرفات وخليل الوزير، وأحد القيادات التي كان يعتمد عليها اعتمادًا كاملًا في العمليات النوعية التي كانت تستهدف إسرائيل.

بعد 30 عامًا، اعترفت إسرائيل رسميًا بقتلها العقيد عزمي الصغير، على لسان موشي يعلون 

وقال يعلون أن عزمي الصغير هو أحد أهم القادة العسكريين لحركة فتح ومنظمة التحرير، وكشف يعلون: "ان إسرائيل وضعت عزمي الصغير على قائمة المطلوبين بعد عملية دلال المغربي والتي يعد الصغير أحد أبرز المخططين لها، كما يعتقد أنه مدرب المجموعة التي نفذت العملية".

اقرأ/ي أيضًا: حنا ميخائيل.. تاريخ لا يمضي

تاريخ ملئ بالمواقف الباسلة من خلال كل المواقع التي شغلها، مثال للالتزام العسكري المشرّف الذي يُراد أن يغيب، لكن الخيارات لا تمحى والوقائع تُسجل والذاكرة ستبقى متوهجة.

وكما كلّ حماة الكرامة، عزمي الصغير باقٍ في قلب فلسطين، باقٍ مع الحالمين بالحرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في السؤال عن الأرشيف الفلسطيني.. من هم الذين تُخيفهم هذه الذاكرة؟

النكبة في زمن صفقة القرن