14-مايو-2020

الذكرى 72 للنكبة

في حديثٍ للإعلامي السعودي عبد الحميد الغبين لبرنامج "نقطة حوار" الذي تبثه قناة بي بي سي، قال: "منذ سَنتيْن كان الصوتُ خافتًا، اليوم بدا الصوتُ عاليًا، ويظهر للعلن ويُعبِّر عن رأيهِ، القضية الفلسطينية لا تعني لنا شيئًا، ومصلحتُنا الاستراتيجية والاقتصادية يجب أن تكون مع اسرائيل". يُحيلنا هذا الاعتراف الذي يأتي في سياقِ مناخٍ عامٍّ يدعو للقلق، إلى الحديث عن موجةِ التَّطبيع التي استجدَّت مؤخرًا، مترافقةً مع موجة قويَّة ومتسارعة تتبَّناها جهاتٌ سياسيّةٌ وإعلاميّة وثقافيّة نافذة في الوطن العربي، وتحديدًا في بعض دول الخليج؛ لتُختزلَ القضيّةُ بكلِّ حمولاتِها ومصائِرها الشائكة، وتبدو عبارة عن وُجهات نظر يتمُّ التداول فيها كأيّ قضيةٍ مطروحة على الساحة للنقاش.

لا تُعطي صفقة القرن الحقَّ للفلسطينيين باستعادةِ أراضيهم أو إقامةِ دولتهم، بل تمنح "إسرائيل" السَّيطرةَ الكاملةَ على القدس مع تمثيلٍ رمزي للفلسطينيين

وسط هذه الأجواء تأتي الذكرى الثانية والسَّبعين للنكبةِ التي يُحييها الفلسطينيون وسطَ تساؤلاتٍ عن مآلات القضية، تلك التساؤلات تعيدُنا إلى المُربع الأول وتفرضُ علينا القيامَ بجردةِ حسابٍ لكلِّ هذا المسار الطويل. لذا نحن اليومَ أمام ضرورة عودة القضية الفلسطينية إلى مسارها الأصلي، بمعنى أننا نتحدَّث عن شعبٍ يرزح تحت وطأة الاحتلال، وهذا الاحتلال بدأ مع النكبة عام 1948، والذي صاحبه التهجير القسري لهذا الشعب. تلك الحقائق التاريخية الموثَّقة تُشكل حقيقةً واحدةً جليَّة، تُحاول أن تتجاوزها ما يُطلق عليها "صفقة القرن" والتي أبرز بنودُها تدفعُ لجعل القضية تخص الفلسطينيين وحدهم، وتقدِّم حلولًا تعسُّفيَّةً غير واضحة المعالم تستبعد اللاجئين وتُقيم دولةً منزوعة الصلاحية.

لا تُعطي الصفقة الحقَّ للفلسطينيين باستعادةِ أراضيهم أو إقامةِ دولتهم، بل تمنح "إسرائيل" السَّيطرةَ الكاملةَ على القدس مع تمثيلٍ رمزي للفلسطينيين، وسيادةً على مستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة. في خضمِّ ما يتمُّ التحضيرُ له يبدو الموقفُ العربي الرَّسمي في عمومه أقرب إلى القبول بخطَّةِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقضية الفلسطينية، بيد أنَّ هذا القبول يتراوح بين الشراكة المباشرة في الخطّة، والعجز الذي كشف عن نفسهِ إمّا بالصَّمت أو بالموقف شديدِ الحذر والموارب في عبارته.

أمام هذا الواقع المرّ لم يكن الفلسطينيون يومًا أشدَّ حاجة لرؤيةٍ تُحدِّدُ مصيرهُم ممَّا هم عليه اليوم، إفرازات المسار الكارثي في أوسلو أوصلتنا إلى حقيقةٍ مؤلمةٍ وصادمة، هي أنَّ القرار الفلسطيني بشكلٍ ما أصبح بيدِ الاحتلال، في ظلِّ تنسيقٍ أمنيٍّ وملاحقةِ الفدائيين والتَّضييقِ على المُناضلين ومحاصرةِ الأسرى المحرَّرين وقطع المساعدات عن الأسرى وأُسرهم وعوائل الشهداء، على الرُّغم من كلِّ ما يقوم به الاحتلال من اعتداءاتٍ وانتهاكاتٍ ومصادرةٍ للأراضي. هذه الحالة الكاريكاتورية القاسية اختزلت الحلمَ في شكلِ سلطةٍ أقصى طموحها أن تتماهى مع أنظمةِ المنطقة، رئيسًا وسلطةً قمعية بمعيَّةِ أجهزة أمنية، هذا الأمر ليس وليدَ فراغٍ بل نتيجةَ تراكمٍ في الممارسات وطبيعة التركيبة السياسية الفلسطينية التي تختصر كلَّ عملها في شخص.

حان الوقتُ لنُعلنَ أنَّنا أمام مأزقٍ حقيقيٍّ أفرزته تلك الخيارات الخاطئة، ونتوقَّف في هذه اللَّحظةِ الحرجة، لنقوم بعمليةِ قطعٍ شاملٍ مع الممارسات السَّابقة، ونعيد رسمَ المسارِ وفق تطلُّعاتِ شعبنا. هذا يُحتِّم على الفلسطينيين إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني ككلّ، والعودةِ إلى العمل السِّياسي بطريقةٍ تجعلنا نتخلَّص من كلِّ الإرثِ الثقيلِ الذي أفرزته الهزيمة، عبر تفعيل مؤسَّسات مُنظَّمةِ التَّحرير الفلسطينية، بصفتها المرجعية الأساسية لنضال شعبنا، أو بالتَّخلي عنها إذا تعثَّر مسارُ إصلاحِها، وبعث إطارٍ جديدٍ يكون جامعًا وقادرًا على تقديم رؤيةٍ شاملة تُمثِّل عمومَ الشعب الفلسطيني، وتضمن حقوقَهُ، والتي من ضمنها حقّ العودة، كحقٍّ أساسي غير خاضعٍ للمفاوضات أو التسوية.

هذا يُحيلنا إلى العودة للمعنى الحقيقيِّ للنكبة، هل هي ذكرى اقتلاعِ وتشريدِ شعبٍ من أرضه؟ أم هي منظومة لا زالت قائمة في ممارسات وأفكار وطروحات تمثل جوهرها دولة الاحتلال والحركة الصهيونية؟

المعركةُ قاسيةٌ، ونحن لا نملكُ ترفَ الوقت، الأحداثُ تتسارع، لا الحلفاء ولا العرب ولا المسلمون هم ما كانوا عليه من قبل، وهذه المعضلةُ إحدى نقاط الضعف التي تُعوِّل وترتكز عليها الجهات النافذة لتمرير صفقة القرن.