24-نوفمبر-2015

(Getty)

سمعتهم يقولون: أكثروا من الدعاء له لترتاح روحه، فإن الروح لا تنسى من تحب، وتبقى على اتصال دائم بالأحبة، تهيم في أرجاء المنزل مطمئنة على حال أهل الدار. لذلك كنت في كل ليلة أنسل تحت اللحاف وأقرأ الفاتحة على روح والدي بصمت، ربما لأنني كنت أخجل من إظهار مشاعري. كنت أظن أن روحه ستأتي في المساء لتعانقني وتقبلني على خدي، تمسح شعري بأصابع من أثير، وتستر المكشوف من جسدي بالأغطية في ليالي الشتاء البارد. كثيرًا ما كنت أتخيله يقفز على جدران الغرفة بخفة قل نظيرها، ويمشي على رأسه تارة وعلى يديه تارة أخرى وينقلب رأسًا على عقب بلمح البصر، ويلف أرجاء البيت الصغير دون أن يعترضه أي عائق، ليعود ويخرج من نافذة الباب المغلق مع آخر إغماضة جفن.

لطالما تعجبت، لماذا لا يخرج من الأبواب المحطمة النوافذ! كنت أشرد وأبتسم وأقنع نفسي بأن الروح، لا حدود لها ولا دستور. حينها فقط أدركت معنى الروح. فأصبحت في كل مساء أتخيل روح والدي تعبث في زوايا بيتنا وممراته الضيقة تأكل معنا وتشرب، تشاركنا الأحاديث والأفراح والأتراح. حضوره كان ولا يزال حضورًا كاملًا في كل التفاصيل وفي كل الأوقات.

الوهم وهم أن الروح ما هي إلا اعتصار القلب في حنينه، حنين إلى المادة

لم يتح لي يا حبيبتي أن أخبرك سابقًا عن الحلم الذي ما انفك يراودني منذ ذلك الحين. كنت أحلم بأنني تحررت من قوانين الجاذبية والطبيعة. هذا التحرر أكسبني قدرة التحليق عاليًا، فكنت أطير بعد منتصف الليل فوق البحار وألامس الغيوم، كنت أقفز ببراعة مذهلة فوق أسطح الأبنية. ما بين الحلم والواقع كان قلبي يرتجف كعصفور في شبك خشية أن أصحو فأقع من شاهق ولكنني سرعان ما كنت أضبط أعصابي لأبقى في الحلم وأطير مجددًا. لا أعلم تحديدًا، عمَّن كانت تبحث روحي! المؤلم يا صغيرتي أنني لم أستطع يومًا ما أن أتجنب عناء الوقوع من السماء والارتطام بالأرض، لأكتشف بعدها أنني وقعت عن الكنبة، ولا شيء في يدي، سوى حفنة من خيال.

الروح الروح الروح، بعض من مشاعر أحسست بها تهزمني عندما لففت رأسي بستائر البلكون وبكيت دمعتين بعد أن لفظت الروح جسد أبي وابتعدت. حينها مشيت في الطرقات وحيدًا، أرسم الذكريات بدخان السيجارة، وعلى نوافذ السيارات المبللة بالندى. أمد يدي لألتقط بعضًا من الهواء، أعانق الهواء، أركل الهواء وأشمه، أطارد قوس قزح لا ينفك يبتعد كلما اقتربت، أفتش عن صوت ما لأعتقله، عن قطرة مياه لا تنشف، عن زهرة لا تيبس وعن واحة لا تنضب. الروح كالصحراء يا عزيزتي، قاحلة وعميقة تسبح في المدى.
الوقت يمسخ الوجوه يا صغيرتي ويجعل العمر يتآكل رويدًا رويدًا. الصور الثابتة تتجعد بفعل الزمن، والأحداث الماضية تمحى. حتى الأمكنة نشتاقها، نخاف عليها من التكسر والتغير لأنها تهدم ذكرياتنا. تقاوم الذاكرة كل هذا، تعاند الحقيقة، تناضل وتمانع، تحجز لك فضاءً خاصًا بك في الجمجمة، بضع مليمترات، كطفل يخبىء بضع نقود معدنية في صرة صغيرة بانتظار العيد. إنه الأمل بعودة الروح يا دميتي. لكن الوقت وحده كفيل بكشف ذلك الوهم، وهم أن الروح ما هي إلا اعتصار القلب في حنينه، حنين إلى المادة، المادة التي تتحدر من العناق والقبلة، اللذين هما، بدورهما غذاء الروح.

أنى لي إذن بقليل من مادتك! بكمشة من أنفاسك، بعناق طويل، برائحة يديك وحرارة بطنك. أريدك مادة سرمدية لا تذهب كما تذهب الروح مع الرياح. أتراك لا زلت تتساءلين عن الرابط بين الأرواح وبينك!؟ إنها المسافة والغياب والحنين ونقمة النسيان. ذلك إنه من الصعب علينا أن ننزل إلى النهر مرتين لأنه في تغير مستمر، وهكذا هما الوقت والحياة، جارفان.
يبقى عزائي الوحيد أنني ملحد. ذاك أن ديمقريطس في نظريته للمادة يقول: الذرات أبدية، تتجمع وتتفكك، فإنها غير قابلة للتلف والزوال أو التجزئة. وعندما يموت جسد ما، شجرة أو حيوان مثلًا، فإن الذرات تتفكك من جديد وتتبعثر ويمكن أن تعود فتتجمع لتشكل أجسادًا جديدة. الذرات تطوف في الفضاء، وكذلك الروح تتبعثر وتتشكل من جديد. وربما تكون ذرة الهيدروجين، الموجودة في طرف أنفي الآن، قد شكلت جزءًا من خرطوم فيل ما، في يوم من الأيام. ومن يدري إذا كانت ذرة كربون موجودة اليوم، في عضلة قلبي قد كانت يومًا على ذيل ديناصور.

ديمقريطس في نظريته للمادة يقول: الذرات أبدية، تتجمع وتتفكك، فإنها غير قابلة للتلف والزوال أو التجزئة

لربما في يوم ما سأشرب كأسًا من النبيذ الذي يحتوي على ذرة من جسدك، لربما تتجمع ذراتك في فلتر السيجارة بين شفتي، لربما تدخلين في تكوين معطفي القطني أو تمتزجين بخشبة المسرح حيث أستلقي. وربما تدخلين في صناعة رصاصة ما تفجر رأسي الفارغ. إنه عزائي الوحيد أن أفكر بوجودك في تفاصيل التفاصيل الصغيرة في حياتي اليومية، ولأجعل منك سببًا كافيًا للحياة. لا يلزم الأمر سوى أن تموتي، أو أن يحصل العكس، أن أتفكك وآتي إليك من ألف طريق وطريق.
ساعة ويبزغ الفجر وتصيح الديكة. إلى جانبي سيجارة واحدة فقط، لقد أنهيت العلبة كلها وأنا أكتب إليك هذا النص الموحش والسخيف والموغل في الرداءة والانحطاط، كصاحبه تمامًا. أجلس وأمامي لوحة تكعيبية -على ما أظن- لرسام مجهول، اشتريتها من السوق العتيق بثمن بخس. لقد شدني إليها لامعقوليتها وعدم وضوحها. لا أعرف لماذا يجب أن أكتب إليك عنها، لقد قلت لك أنني قمة في السخف لذلك شعرت أنها تعبر عن حالي. لوحة بنصف رأس، والنصف الآخر عبارة عن رأس حمار. القلب استبدل بساعة حائط والعينان فارغتان وأما الفم ففيه دائرة حلزونية لا تنتهي، متاهة. الأنف بدل السرَة. يد وقدم من الأعلى وقدم ويد من الأسفل. اللوحة بكل ما فيها مكعب، مثلث ومستطيل، وذات أبعاد عدة، قشرة تغطي قشرة وتخفي قشرة. اللوحة عميقة. كأنها امتزاج شخصين في جسد واحد. ربما ما لفتني إليها قدرتها الهائلة على التعبير عن النظرية السابقة، أقصد نظرية ديمقريطس.

الحب والجنون ربما يجتمعان في البداية ولكن لمَ الفلسفة في النهايات

يا إلهي، لماذا لا يمكنني أن أحبك حبًا عاديًا؟! لماذا كل هذا الهراء؟! بسيطة، الحب والجنون ربما يجتمعان في البداية، ولكن لمَ الفلسفة في النهايات؟! ليس باستطاعتي أن أقول لك "مغروم فيكي وغيابك يقتلني" ولكن بإمكاني كتابة جملة على النسق الآتي: أنت وأنا خطان متوازيان لن يلتقيا إلا في العالم الآخر، في اللانهاية. لذلك حبي لك لم يكن وليد فراغ، بل لأنني أعلم أنك ستفهمين، ربما ستفهمين! لن أطيل أكثر، ولكن، أعدك يومًا ما بأن أخلق منك بطلة لرواية رديئة جدًا، تحكي قصة رجل مأزوم نفسيًا وحضاريًا. فهذا ما أجيده وأبرع به، الرداءة.
إنها الليلة الخمسون لغياب الروح. السيجارة المائة بعد الألف الأول، فنجان الشاي الثلاثون بعد المائة، وشهر رمضان قد حلَّ ضيفًا ثقيلًا في غير موعده. الموسيقى باتت بشعة، ضيقة، مقلقة وثقيلة، لم تعد تشعرني بتلك الفضاءات الفسيحة والآفاق الرحبة. لقد توقفت عن ترديد الأغاني أثناء تنظيف المنزل ومرَ وقت طويل لم أرقص خلاله في البيت. لم أعد أقفز على التخت كبهلوان وأتدحرج على الكنبة كطفل يلهو ويعبث. سابقًا، لم يكن بمقدوري أن أستحم دون سماع ألحان موسيقية تتداخل وتمتزج مع الصابون المعطر وعيناي مغمضتان. كنت أحس بنشوة لذيذة في فمي، فكل حواسي كانت متأهبة. كنت أعرج إلى السماء بثوانٍ معدودات.

أما اليوم، فقد أصبحت مطاردًا من الألحان الموسيقية. أهرب من الراديو ومن التلفاز، أنزع جرس المنزل، أتجنب رنين الهاتف، أختار سيارة أجرة لا موسيقى تعلو منها، أدخل حانة لا ألحان تضج فيها، أنفر من كل المطربين وأشمئز من شدو العصافير.

بت أركض كالمجنون هربًا من الأصوات العذبة. الموسيقى كالسكاكين تطعن قلبي، كالبرد القارس تنخر عظمي، كالثلج يقرقع تحت قدمي وتصيبني بحالة هستيرية تتحول معها حنجرتي إلى عنكبوت يريد الانفصال عن خيوطه. أريد أن أبقى وحيدًا، بعيدًا، عن كل ما يرد إليَ تلك الروح. صمت صمت صمت.
أصبحت الألوان ملاذي الأخير. أمسك قطعة خشبية، أصبغها بألوان مزركشة وفق مساحات مختلفة ومتعرجة. أرسم أشكالًا غريبة كغرابة هذا الوجود، ولا أفارق القطعة الخشبية إلا بعد مضي ساعة أو ساعتين. أنا رسام فاشل، رسوماتي لا تصلح سوى للتحليل النفسي المختص بالأطفال. ولكنني رجل عجوز اهتدى إلى مهنة جميلة لتنقذه من يأس أيامه الأخيرة ومرارة الوقت، فما بارحها أبدًا. عجوز يضع قلنسوة كبيرة تغطي كل رأسه ويختبئ داخلها كالقنفذ، فلا يخرج منها إلا اضطراريًا. كجنين، هذا العجوز الأبله، تثور ثائرته عند قطع حبل السرة الذي يصله بألف ذكرى وذكرى. يود لو يتكور، ويضع رأسه في الحضن وينسل إلى داخل الأحشاء مجددًا، عاكسًا قوانين الطبيعة، عائدًا إلى مثواه الأول، حيت الحياة الأولى، الماضية. يبكي، يبكي لشدة دهشته، ويتساءل: أين كان كل هذا الحقد مستترًا؟! الحياة تلبس الأقنعة بلا شك. لو لم تلد الأم عبر التاريخ توأمًا، لما كنا سمعنا بتعبير "توأم روحي"، إنه تعبير مذهل عن الوحدة التي يعيشها الإنسان!
على الهامش: هل تعرفين ما هي المأساة يا روحي: إنها أنا.

اقرأ/ي أيضًا:
أنا الريحُ التي زَفَرتِها
أفتح صدري وأخرج محتوياته
نحو تلك الثقوب السوداء