26-سبتمبر-2015

لعبةٌ سردية يتقاطع فيها الابتكار والجنون (تصوير: يحيى بن عمار)

الخيالُ عند الجزائري عبد الرزاق بوكبة كائنٌ مستقل، لا امتداد له معه، لذلك لا أصدّق أنه يكتب، هو فقط ينقل إلينا أوراق خياله المكتظ بالحكايات. ولا يستغربُ متتبع أعماله السردية من هذا الانفصال المُوغلِ في الاتصال، وكذلك لم أفعل منذُ "نُدبة الهلالي"، روايته التي قرأتها قبل سنتين.

في "كفن للموت"، يحكي البطلان قصصًا متوالية لموتهما، أو لموت أحدهما

يتكلم الكاتب في بداية مجموعته القصصية "كفن للموت" (دار العين 2015) عن قصة مكسورة، قصة متألمة وغَيورة من الرواية التي شغلته عنها، وكيفَ أشعلَ فيهِ كسرُها لَهبَ الشفقةِ فحملها إلى مستشفى الكلمات، وحملنا معَه.

خلالَ الرحلةِ نرافقُ الزبير بن نجمة، وسارة الأشهب، الشخصيتين الرئيسيتين في كل القصص- المحطات، يموتانِ معًا أو يموت أحدهما في كل محطة، و ينخلِقانِ في التي تليها: الموتُ داخلَ الحكاية ولادة في الأخرى، إنه التناسخُ السردي، السرمديّ. لذلكَ كنتُ أرى في كلّ كفنٍ قماطًا. و لعل هذا هو فكّ رموز الإهداءِ الذي دبَّجَ بهِ الكتابُ نفسَه: إلى الأشياء وهي تتحول، لتصير أرواحًا تُسيل لعابَ الموت.

من داخل اللغةِ المكتظة بالصراخ، ومن داخل الخيال المزدحم، تختارُ القصص أن تقدم نفسها في الكلامِ المُقتصَدِ، والصورِ المُبرِقة، إننا بصددِ كتاب زاهدٍ في القارئ الكسولِ الذي اعتاد اللباس الجاهز، والأكل الجاهز، والحكايات الجاهزة. وقد كُتبَ على بابِ الأكاديمية قديمًا: لا يدخلُ علينا من لم يكنْ مُهندسًا.

خِلالَ الكتاب، يحكي البطلان، سارة والزبير، قصصًا متوالية لموتهما، أو لموت أحدهما، ولا يتوانى شهودٌ على الأحداثِ عن التدخّل لتوضيح الملتبس، أو لإكمال الصورة، وبوكبة أحد هؤلاء الشهود. ليعترفا في الأخير برغبتها في إقامةٍ جنازة جمالية لأوراقهما، عبر دفنها تحت شجرة في أعلى ربوةٍ متاحة. لولا تدخل الكاتب الذي سطا على النص ونشره باسمه، تقولُ سارة في نص "الرسالة": "إنها أوراقٌ كتبناها معًا، فنحن فيها كما الشهقة في الهواء، وكتبتنا معًا، فهي فينا كما النبض في القلب، وقلب الموضوع أننا كتبنا علاقتنا بالموت، هل يمكن أن يصير الموتُ ظلًا لإنسانين، حتى يتعودا عليه فيبحثا عنه إذا افتقداه؟" (ص 121).

إنها لعبةٌ سردية يتقاطع فيها الابتكار والجنون ولا تصبّ إلا في بحيرة واحدة: الدهشة. إنه التجريبُ المُوجَّهُ لخدمة العمل السردي فنيًّا، التجريبُ المفيد جماليًا دون أن يسقط في التخريب.

في نص "الرصاصة"، يختزل الكاتب في أربعة مشاهد ألم عشر سنوات من الإرهاب عاشتها الجزائر، عبر قصة الزبير وصديقه سعيد، وتتحول سارة عن طريق لعبة الترميز إلى وطن يتخاطفهُ النور والظلام:
في المشهد "الألِف": يهدي سعيد لصديقه الزبير رصاصة ويأخذ منه وعدًا بأن يردها إليه إن لم يستطع المحافظة عليها؛ 
في المشهد "الباء": يلتحق الزبير بالخدمة العسكرية؛
في المشهد "الجيم": ينظمّ سعيد لجماعة متطرّفة ويهجم على القرية ثمّ يختطف سارة؛
في المشهد "الدال": لكي ينقذ الزبير سارة، يضع الرصاصة في مسدسه ويعيدها إلى صديقه القديم كما وعده.

إن لعبة التكثيف هذه لا يجيدها إلا من امتلأ بالألم، (لابدّ أن هناكَ علاقة بين عمق الجرح وقوة الاختزال). فمن خلال قصة كهذه، يتوسل الكاتب بتقنيات القصة القصيرة جدًا، ليرسم لنا أربعة مشاهد تختزل ألمًا شاهقًا: ألم وطن. والأجمل من هذا، هو رفع هذا الألم إلى مقام الإنسانية العالي بالجرح، ولعلَّ هذه أنبلُ وظيفة يقوم بها كاتب.