05-يوليو-2016

عباس كياروستامي

أنانيٌ هذا اليوم الذي لم يحمل لي سوى أخبار الموت، كم كلف غاليًا موت الرجال السمر. أحدهم يخفي ابتسامته بشارب عريض وأخر يخفي عينيه بنظارات سوداء طوال الليل والنهار. كلا السوادين يغطي أجمل ما فيهما من ملامح. 

لا أذكر من أبي اسكندر إلاّ ابتسامة اهتز معها شاربه العريض وطلب مني المصافحة رغم أنه لايصافح النساء. طلبٌ بحجم تلك القبلة التي طُبعت على خد عباس كيارستمي وكادت أن تقتله بعد عودته إلى إيران. 

لا تُقبّل النساء ولا تصافحهنّ، على كلا الأمرين أجبر بطلاي لهذا اليوم للنجاة من عالمٍ يكره ويحب بأحكام، وكلاهما كانا يحبان الهواء، هواء كياروستامي القادر على تحريك القلوب البعيدة، يضخ الحياة والسأم معًا مرات عديدة، كطعم الكرز الذي لم يذقه أبو اسكندر قبل الموت. 

ليسكن مخيلتنا غير المكتملة رجلٌ يبحث عن شخص ما يتبرع لدفنه بعد انتحاره، كما أن هناك من يبحث عن من يربت على كتف أهل الفقيد. لم يلتق أبو اسكندر بعباس كيارستمي الذي زار مخيم اليرموك في دمشق مرةً في حياته، وتوقف عند صورة جورج حبش وأبو علي مصطفى، والكثير من الصور التي تعجّ بها شوارع المخيم. وقد جاءت اللقطة المقربة هنا كحاجة أخلاقية لتلمس شغف الاثنين في محاولتهما الأخيرة، فالفقير حسين صاحب الزهور المضيئة الذي انتحل شخصية المخرج محسن مخملباف، جاء من ينتحل شخصيته مرةً أخرى كرجل ضد في مكان أفقر وبدون زهور، اعتيادي الطموح والرغبات يبحث عن مخرجٍ كريمٍ لحياته، فدارت عليه اللعنة وأوقعت السماء على رأسه.

لربما كان موت أبو اسكندر يشبه صورًا كثيرة كان يلتقطها كيارستمي بقيت دون أسماء، لكن انتشاله من تحت الأنقاض ليس بالمهمة السهلة. كما لم يكن أيّ فيلم طويل بالمهملة السهلة، كلاهما يملأ القلب اتساعًا وحزنًا. كما لم تكن رحلة كتاب الأشعار الذي لم أتذكر غيره كضروريات السفر والاحتفاظ. حين طلبتُ من أمي أن تُرسله إلى فرنسا مع غرباء، فلوّنته أمي بطعم القهوة الدمشقية والكعك الشامي ووصلني بطعم مرارة السجائر والقهوة الباردة.
  
ربما كانت تلك الثلاثمائة صورة شعرية مُعنونة "ذئب متربص" مدخلًا شعريًا رحبًا في قلبي لحمل ثقل لون السينما، كما أفصحت ضحكة أبي اسكندر التي اهتز لها وجهه عن ارتياحٍ عميق لوجود أحد ما يصافح يدي هناك فسررت بلقائه. 

لم أره من وقتها إلاّ قبل يومين، لم أعرف السبب ولكني كنت أفكر به وعلى طريقة كيارستمي، هناك قرب بيت صديقٍ يبحث عنه أو عن شيء ما، يرصد الحركات ويراقب. 

لم تنته رحلة الكتاب بمجرد وصوله إلى اليد الأمينة الغريبة التي حملته من دمشق إلى بيروت، حين قررت هناك رميه فترددت. شكرت حظي وأمي التي أخبرت تلك اليد المترددة بأن هذا كتاب علم. أمي التي لا تعرف ماذا درست وماهي كتبي الخاصة بالدراسة. "كل الكتب" غالبًا ما أُجيبها. فقبلت اليد الطيبة أن تبدل بين كتاب الأشعار والكعك بحليب فترمي الأخير وتتفضل عليّ بالأول. 

أما في فرنسا فكان طريق الكتاب أكثر صعوبة، وربما وعلى القدر الذي يسعفني به خيالي عن ما تبقى من خان الشيح والمنزل الذي لم أزوره من قبل، كانت رحلة أبي اسكندر أصعب في حفرته الجديدة، وعلى القدر الذي يسعفني به خيالي من صور أراه هناك قرب البيت، أو أمام أية شجرة منتصبة بوحدتها على مساحة رسمها كيارستمي بريشة عينيه. 

لم يكن موت أبي اسكندر كموت كيارستمي، لكن الأول كان بطلًا للأخير. وعندي كان الأول صورة ثابتة لمرة واحدة فقط، أمّا الآخر فبقيّ مجموعة صور متحركة بين الأبيض والأسود تتجاور حينًا مع الألوان وتلغيها حينًا آخر.

أخذ كتاب الأشعار حيزًا كبيرًا من الفراغ، تقريبًا كوزنه وخفته. وحيزًا كبيرًا من مخيلة صور يحتويها تفوق ثلاثمئة كما يقول ويزيد عليها، صورٌ من رحلة اضطرارية إلى هناك، تكلّفه مشقة ذهاب وإياب القلب كل يوم.  

اقرأ/ي أيضًا:

عباس كيارستمي.. انطفاء شاعر الكاميرا

نجوم مثقوبة