حين تم النداء على الرحلة المغربية من مطار هواري بومدين من الجزائر العاصمة، واصطف المسافرون أمام البوابة رقم 13، نهاية الأسبوع الفائت، كان صعبًا علي معرفة من هو مغربي ومن هو جزائري، فالملامح وردود الأفعال واحدة، كان علي انتظار أن يتكلم الشخص حتى أعرف هويته، مع وجوب التحفظ في هذا أيضًا، لأن الحدود اللغوية والثقافية بين البلدين، لا تخضع للحدود السياسية. ما أشبه الحدود الثقافية بالأنهار والعصافير، حين تنطلق، لا تراعي في طريقها حدود السياسة.
ما أشبه الحدود الثقافية بالأنهار والعصافير، حين تنطلق ولا تراعي في طريقها حدود السياسة
من اللحظات الداعية إلى الانتباه والفرح، أنني سمعت في آخر مقهى دخلته في الجزائر، قبل أن أغادر إلى المغرب، الفنان المغربي عبد الهادي بلخياط وهو يغني الإنسانَ "يا ذاك الإنسان"، وكان أول ما سمعت، مباشرة بعد وصولي إلى المغرب الفنان الجزائري الشاب حسني وهو يغني الحب "حشامة".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا شجّع السودانيون الجزائر؟
نقلت هذا لشاب مغربي كان يشاركني الطاولة، فمدّ يده إلى نقاله، وراح يكشف لي ملفات الموسيقى الجزائرية التي خزنها ليقتات عليها في لحظاته الخاصة كما قال: "لكل إنسان لحظة عميقة يعود فيها إلى ذاته، ويسمع فيها موسيقاه التي يجد فيها تلك الذات، أنا أسمع الموسيقى المغربية والجزائرية لحظة عودتي إلى ذاتي".
قبلها بسنة، كنت مع الكاتب فيصل الأحمر في مدينة سكيكدة الجزائرية، دخلنا محلًا لشراء غرض، فمثّلنا كونَنا مغربيين، باتت ملامح التاجر أكثر ابتسامًا، ورفض أن يقبض نقودًا منا، قال إنه من أسرة ربته على ألا يتقاضى نقودًا من شقيقه، حين يقدّم له خدمات، وقد لمست مثل هذه الروح في المغرب خلال زياراتي الخمس.
اقرأ/ي أيضًا: الأمازيغية في الجزائر.. من السجن إلى الدستور
لا شك أن السياسيين في البلدين سوّقوا داخل الشعبين صورة معينة عن الطرف الآخر، انطلاقًا من الحسابات السياسية التي عُرفا بها منذ السبعينيات، حتى يضمن كل طرف ولاء شعبه، وهو يتعاطى مع ملف الصحراء التي تصر الجزائر على أنها غربية ومكان تناولها طبيعيًا هو هيئة الأمم المتحدة، في إطار تصفية الاستعمار، ويتمسك المغرب بكونها مغربية، وأقصى ما يمكن أن يذهب إليه هو الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، غير أن هذا النزاع لم يتجاوز القشرة السياسية، وبقي بعيدًا عن مجالس الشعبين ونخبتيهما المثقفتين، فلا المنابر الثقافية والفنية والرياضية والإعلامية في المغرب أغلقت في أوجه الجزائريين، ولا المنابر الجزائرية أغلقت في أوجه المغاربة، ونادرًا ما يُحرج المغاربة ضيوفهم الجزائريين بسؤال عن الموقف الجزائري من الصحراء الغربية، والعكس صحيح تمامًا، انطلاقًا من قناعة مثمرة: ما تفرقه السياسة تجمعه الثقافة.
على المواقف السياسية بين المغرب والجزائر أن تظهر في نشرات الأخبار، لا في الفن والأدب والثقافة
كنت أقدم برنامجًا إذاعيًا ليليًا قبل سبع سنوات، وكنت أميل إلى تمرير الأغاني المغربية، وسجل أحدهم هذه الملاحظة في المجلس الأسبوعي للتقييم، فما كان من مدير القناة، وهي حكومية، إلا أن قال: "على المواقف السياسية أن تظهر في نشرات الأخبار، لا في الفن والأدب والثقافة، فنانونا مسموعون في المغرب، وفنانوه مسمعون عندنا، والإذاعة مرآة هذا التداخل الشعبي".
من هنا، على النخبتين المثقفتين في البلدين، مباشرة التفكير في آليات جديدة لتجاوز واقع مؤسف في مجال التبادل الثقافي، فهل يُعقل مثلًا أن تخلو المكتبة الجزائرية من الكتاب المغربي، وتخلو المكتبة المغربية من الكتاب الجزائري؟ وتقل نسبة حضور المبدعين في ملتقيات البلدين؟ أو تكون جرعة التنسيق الجامعي، دون المستوى الذي يعكس الحاجة المغاربية في هذا الباب؟
لقد لاحظت في السنوات الأخيرة، لاعتبارات وأسباب موضوعية كثيرة، أن الباحث الجزائري، شرع يتخلى تدريجيًا عن هواه المشرقي، في مجال المرجعيات الفكرية، ويلتفت إلى المشهد المغربي، بالنظر إلى العمق الذي لمسه فيه، في مقابل مسعى واضح لدى المثقفين المغاربة، يهدف إلى الإلمام بالملامح الجديدة للمشهد الجزائري، في المجالات الإبداعية المختلفة، وهي لحظة جميلة، علينا أن نبني عليها إيجابيًا، في إحياء مشروع المغرب العربي الكبير.
اقرأ/ي أيضًا: