09-فبراير-2021

لوحة لـ محمد بن لامين/ ليبيا

فوق سماء المدينة الزجاجية الأضواء تتوهج وأنا أطوف في أرجائها. شعرت أنني قادم من عصر سحيق إلى المستقبل.

البشر هنا لا يشبهون قومي، المكان هنا محشور بإنارة عالية وأمواج من البشر حاملين صورهم ويتلاطمون للوصول إلى الساحة الزجاجية، حيث النساء المغطاة وجوههن بالألوان الغامقة وملابسهن الشفافة وإنارة الأضوية لتفسح مساحة من أجسادهن، يلامسهن النور فضج المكان بمهرجان من الألوان، وتدافع الشباب وهم ممسكون بصورهم الدبقة بعد أن احتل عرق أجسادهم قطعة كبيرة من صورهم اخذوا يمسحونها.

كانت الساحة هي المنفذ الوحيد لأنفسهم التي كساها الزمن بالغبار والدخان، جلست على رصيف ضوئي حامل صورتي، أسير الأمكنة التي خذلتني، ونساني العالم، تجمدت في مكاني، الأسير لا يحلم إلا بمساحة يمدد نفسه فيها، أو قطعة ضوئية تحرر فيها العين من الظلام الذي لفها، أو يد تتحرك في اتجاهات بعيدة.

توسلت لقدمي أن تغوص وسط الحشد الملون، رفض جسدي الأسير المحتجز منذ سنوات، تسمرت في مكاني أراقب الناس والقباب الزجاجية، والحشد الذي تغير لون وجوههم من صفراء إلى زرقاء، كانت المرايا التي تغلف أركان المكان كطيف لا تظهر ملامح الناس بل صورهم المؤطرة، جاءتني امرأة خضراء كأنما هاربة من علبة ألوان، وهي تتلمس شعرها الرمادي، ظننت أنني رأيت اخضرارًا ربما هو ارتباك في التداخل الضوئي لشبكية عيني، قالت لماذا تحدق بنا في خمول، لكل الناس ألوان وصور، ووجهك الآن أصبح أحمر، قلت منذ متى وأنا هنا، قالت منذ قررت أن تصبح مرئيًا، باتت رسوم ملامحك حمراء وكنت عديم اللون. قلت اشتاق لوجهي المكتظ بقبلات الآخرين، وكف عمي الذي طالما طبع راحة يده على خدي. قالت ربما أثر الصفعات حول وجهك احمر وليس اشتباك في الضوء، وأردفت ربما عليك تنظيم هذا الاشتياقات الجزئية، أنت تتحطم هكذا، حين اشتقت إلى أنفي قبل يومين كنت مصابة بالأنفلونزا، وقبلها اشتقت إلى لساني حين طمرت أذني، ماذا يحدث فجأة حين تشتاق إلى نفسك؟ قلت بخفوت لا أعرف.

حدقت إلى سقف القباب قلت لها، القباب لها هندسة وجمال، انظري إلى هذا القبة خالية من عش للطيور، وخط عربي، وتصميم أنيق ورائحة ماضي عتيق، قالت لماذا روائح الاشياء الطبيعة تشكل لك هذا الهاجس المرضي، خلق البشر هذا الاستهلاك للهروب من طبيعة الأشياء المادية، نحن أسرى البدايات الطبيعية، قاطعتها قلت، الحياة لحظة تغتال لحظة فنتوهم أن للوجود زمن يمكن القبض عليه واستيعابه، نحن نزداد صراعًا للبقاء أو إلى الازل، بينما تكمن الابدية في ما نخزنه من لحظات نخبئها معنا من طريق مشينا به يومًا أو من طعام استطعمناه، من يد رحمية بنا، نحمل رائحة نطمرها في جوف قلوبنا، نطلق عنانها كلما رن جرس باب ذاكرتنا، أنا أحب خبز أمي، وأي خبز أحن اليه، ذلك المختوم بأصابع أمي، رائحة الخبز الموجعة تولد في داخلي جوع اللهفة والذاكرة قبل جوع المعدة، الذاكرة تستعيدنا لا نستعيدها، بأجواء من حرارة الخشب وظهيرة الشمس، نظرت الي بسخرية وهي تتفرس فطيرة، وقالت لا تشكل لي القطعة أي معنى طالما صورتي وإطارها اكتست بالحلي واللمعان، ونهضت ودعتني، بقيت متسمرًا في مكاني شاحب الوجه كشحوب حياتي.

تقدم قبالتي رجلان وطلبا مني الرحيل، الحشد يخشى وجودك كمراقب متطفل على زمانهم، تم سحب صورتي مني من قبل امن الاستعلامات، غذيت خطواتي خارج المدينة الزجاجية وأطلقت تنهيدة آه آه، وتلاها نحيب متلاطم صعد إلى السماء حالما لمحت في الفناء جدار مهدد بالسقوط ونوافذ مسح عليها الزمان ألوانه غذيت قدماي السير وأنا أنظر إلى الشارع الشاهد على أقدام الراحلين وما تبقى من القادمين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وجوه ضائعة

تشارلز سيميك: أحببتُ جحري الصّغير