07-أكتوبر-2016

لا يوجد على أرض الواقع ما يدفع عديد المواطنين العرب للشعور بالإنصاف في أدنى درجاته (باول تايلور)

الناس منهمكون، لا وقت للشعارات والإنشاءات الخطابية، ولا صوت يعلو، فقط صوت المعونة الانتخابية، أو عفوًا الهدية، لا. أقصد الرشوة الانتخابية، قماش من كل الأصناف والألوان، يرتمي بين أحضان النسوة وهن يتسارعن لاختيار أجود القطع، الرجال كذلك، يحبون الهدايا، هناك ممر خاص يؤدي إلى حضرة المال وهو يلبس أظرفة صفراء تنتظر المتلهفين، ولمن يعشق رياضة الأكل، هناك مرفق خاص للولائم، طواجين وصحون تزينها لحوم صفراء وحمراء غارقة في بحر المرق.

الكل يهتف بحياة "المعطي"، الكل يريد أن يتقرب منه، الكل يبحث عن عنوانه، عن رقم هاتفه، عن أثره، هو صاحب السعادة، ومحبوب الملايين في تلك المدينة المنسية، يا ترى من هو هذا "المعطي"؟ 

الرئيس هو رجل الأعمال الأول في المدينة، شركات ومصانع وضيعات تساهم في دعم الاقتصاد، طبعًا الأجنبي، وليس الوطني

لم تكن تجربة سي "المعطي" مع السياسة سوى ضربة حظ، مع قليل من ملح الشطارة والتملق، مع الإتقان المحكم لرياضة التسلق في كل المناسبات والفرص المتاحة، حكايته ابتدأت مع إحدى معامل التخزين، كان مجرد حَمَّال لمواد البناء، وللأكياس المنتفخة بالأسمنت، انضم وبشكل سري لإحدى النقابات ذات الميول اليسارية، على الرغم من أنه أميّ، إلا أنه تعلم أبجديات الخطابة على الطريقة الشعبوية، من هناك نافس المتعلمين ذوي المبادئ وذوي الميولات الحربائية على منصب رئاسة النقابة.

وبفضل جبهته العريضة (أقصد جبهة الوجه)، استطاع أن يستميل جمهورًا واسعًا من العمال، وينال ثقتهم في كسب المنصب، لم يأت "المناضل" الحَمَّال المتشبع بالميولات الاشتراكية ليغير الواقع، من أمر واقع إلى تغيير جذري وثوري لمطالب الطبقة البروليتارية، بل الرفيق "المعطي" ناضل وكافح في سبيل القضية الأولى، قضية الجيب أولًا وأخيرًا، وفعلًا تحالف "المناضل" ابن الطبقة العاملة مع قوى رأس المال، مع من كان يصفهم ب"المتعفنين" و"مصاصي دماء الفقراء"، الرجل حتمًا يحتاج للمزيد. المزيد من المال و"الجبهة" حتى يعطي لهذا الوطن ما يستحقه من تضحيات.

اقرأ/ي أيضًا: قل لي من أين تؤكل الكتف؟

ازدادت أصفار "الحَمَّال" (المطحون في أمره سابقًا)، طبعًا أصفار الألوف، لتتحول إلى ملايين الدراهم، استغل الفرص و"الهمزات" والحفلات والولائم، من هناك ابتدأت الصفقات والتحالفات والولاءات، حتى صار بقدرة قادر صاحب أملاك وعقارات، بل واشترى معمل التخزين الذي كان يعمل فيه، وحتى يحافظ على نقاء صورته أمام "رفاق" دربه، عيّن منهم فقط المقربين والمرضي عنهم في أعلى المناصب الإدارية في المعمل، أما "المشاكسين" والمتمردين، فلا مكان لهم في معمل "الباطرون سي المعطي".

بعد كل هذه النعم الوفيرة، هناك شيء ما ينقصه؟

الرجل يحتاج لمنصب سياسي. بفضل ميولاته "اليسارية" المشوهة والممسوخة، فَضَّلَ ابن الطبقة العاملة، أن ينضم لحزب اشتراكي وهو في عز نجاحاته على المستوى المحلي والوطني، قرر أن يدخل هذا البيت السياسي بعد أن مرت على الحزب سنوات المنع والإقصاء والتعسف، قرر في هذا الوقت بالذات أن ينضم للرفاق الجدد، أصحاب "الفيلات" والسيارات الفارهة، بعد أن أنهكهم كابوس المتابعات والاعتقالات، والتعذيب في السجون، تعبوا من كل شيء حتى من تلك العبارات الماركسية، لكن الآن. حان الوقت لكي نعيش ونأكل حصتنا من الكعكة، هذا هو شعار المرحلة، وهذا هو مربط فرس "المعطي"، من هنا دخل معترك الانتخابات المحلية، فنال ثقة الجماهير ورضاء السلطة والحزب والمدينة، فكان له ما يريد، مستشار "منتخب" في بلدية مدينته المنسية.

بعد كل هذه النعم والفرص والصفقات والانتماء الحزبي، لا يزال شيء ما ينقصه؟ اليسار لم يعد يلبي طموحاته التوسعية، إذًا. لا حل إلا في تغيير اللون السياسي. بعد مرور كل تلك السنوات، حان دور اللحية الخفيفة، والابتسامة المصطنعة، والموعظة السياسية الحسنة، منذ دخول "سي المعطي" لأحد الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، إلا وتراه فاعلًا للخير والحسنات، مصليًا خاشعًا مطمئنًا في حضرة البيت الجديد.

وعلى الرغم من أن بعض أعضاء الحزب لا يكلفون أنفسهم عناء كل تلك المظاهر، اِلا أنَّ الرجل "الطاهر" أحب أن تلازمه دومًا تلك المسبحة، عسى الله تعالى أنْ يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر من ذنوب سياسية، الرجل قبل أن يرشح نفسه لانتخابات محلية أخرى، كثف من جهوده لينال منصب رئيس البلدية، تحركاته لا تنقطع في سبيل إرشاء ناخبيه عفوًا. أستغفر الله. أقصد "صدقاته" في سبيل النهوض بشباب ورجال ونساء الأمة.

اقرأ/ي أيضًا: كهف آل حاتم.. العالم السفلي لأمناء الشرطة في مصر

الرجل لا ينفك عن حضور خطبة الجمعة، وهو يلبس ثوبًا ناصع البياض، مدعيًا الورع والتقوى والخشوع، ويا سلام. لو كانت الخطبة حول التواضع والقناعة والرضا، هنا تراه جالسًا تحت ظل منبر الإمام الخطيب، منحنيًا، منكسرًا، متواضعًا، ومتأملًا في محيط السجادة، وكأنه اكتشف لتوه أنه كان من المتكبرين، والطامعين، والمغرمين بكراسي الدنيا، هنا، السيد المغرم بكنوز الدنيا، لا يجد غضاضة في أن يمثل دور العبد الفقير لله أمام البسطاء والحيارى من العباد، حتى يصدقوا الوهم، وينال صوتهم الانتخابي.

بعد إتقانه المحكم للدور السينمائي، السيد "العبد" الفقير" لله، ينجح ويصبح أول رئيس حَمَّال مدني و"منتخب" لبلدية مدينته المنسية. لكن وبعد كل هذه النعم والفرص والصفقات والترحال الإيديولوجي والسياسي، هل لا يزال شيء ما ينقصه؟

شرعية الرئيس "المنتخب"، في إنجازاته "العظيمة"، مع إمكانية سرقة ما يمكن سرقته من أموال، فله كل الصلاحيات الملتوية ليقوم بذلك، وهذا هو شعار المرحلة، "المعطي"، الرئيس "المنتخب" شعبيًا وفق آليات ديمقراطية حرة ونزيهة وشفافة طبعًا على المقياس المغربي القح، أعطى الانطلاقة لمشاريع تنموية لتبليط وتزفيت الأزقة والشوارع الرئيسية طبعًا التي يمر منها سيادة الرئيس، الإنارة ولله الحمد، موجودة في كل مكان يمر منه السيد الرئيس، الأشجار مغروسة في كل مكان يستظل بها فخامة الرئيس "يوم لا ظل إلا ظله".

الرئيس، هو المثقف الأول في المدينة، يحب المثقفين من ذوي الميولات الجيبية

الرئيس، هو المثقف الأول في المدينة، يحب المثقفين من ذوي الميولات الجيبية، يرعى الفن والفنانين، والفنانات خصوصًا ذوات الحس المرهف، والوسط المترهل، والحضن الدافئ، الرئيس، كثر الله من فيتاميناته وشبابه، هو الراعي الأول والحصري للرياضة وللنادي المحلي للمدينة، يشجعه ويدعمه بالغالي والرخيص من أموال الشعب في سبيل أن يصل فقط إلى الدوري الممتاز. الرئيس دومًا وسيظل راعي شباب المدينة، ينتشلهم من الضياع والبطالة، من خلال مشروع توظيف الشباب في الإنعاش الوطني لكنس وشطب شوارع المدينة.

الرئيس أحسن الله إليه، يحب المساجد وبيوت الله، دوماً يزورها من الجمعة إلى الجمعة. الرئيس. يا سادة، يا أعداء النجاح، هو رجل الأعمال الأول في المدينة، شركات ومصانع وضيعات تساهم في دعم الاقتصاد، طبعًا الأجنبي، وليس الوطني.

واليوم، وبعد كل هذه النعم والفرص والصفقات المشبوهة والتسلق والتملق والتلون السياسي، الآن يأتي دور الانضمام لحزب موالٍ للسلطة، الآن. لا داعي لتلك الشعارات البالية اليسارية، ولا داعي لتلك الخطب الإسلاموية الكاذبة، اليوم، الطموح يكبر، ويكبر معه المنصب وحجم الكرسي، اليوم. اقتربت الانتخابات المحلية، وسيخوضها من جديد، وذاك اليوم المنتظر، حتمًا سيصبح تاريخيًا بالنسبة إليه، بعد أن تيقن من شيء واحد، لكنه يحتاج فقط لتزكية رسمية. فقط تزكية ليصبح عمدة لإحدى أكبر المدن في البلد.

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا الخوف من صعود ترامب؟
رصاص وتهديد في الانتخابات المحلية الفلسطينية