21-سبتمبر-2021

لوحة لـ عاصم أبو شقرة/ فلسطين

متسلل أنا أيضًا إلى صبرات قرية الحوارث بعد أن ملأت أكثر من دلوين، وخلافًا لكل قوانين الطبيعة انتشر ضباب كثيف جعلني بالكاد أرى راحة يدي في هذا اليوم من أيلول، عصفوران أطلّا من شبّاك بين الشجيرات، يطلبان شربة ماء.

كانت دقائق قليلة مسكونة بالرعب والخوف من جنّ سليمان التي تلاحقهما، "قالَ عِفريتٌ من الجنِّ أَنا آَتِيكَ به قبلَ أن تقوم من مقامك وإِنِّي عليه لَقَوي أمِينٌ".

سؤال واحد باغتّهما به: كيف مررتم من ذلك الثقب؟

كان أمرًا هينًا، كمرور جمل من ثقب إبرة إلى ملكوت الله.

طمأنتهما قليلًا، وأعطيتهما قنينة الماء الوحيدة في السيارة، كنت أحفظها كعادة قديمة لسيارات قديمة تسخن فتحتاج للماء يطفئ نارها. وعدتهما أن أعود، جاء زكريا وطبع قبلة على جبيني ليعطيني ساعة معطّلة كانت في معصمه، قال لي تلك ساعة والده، طلب أن أبقيها معي حتى أتذكرهما.

عدت إلى البيت أرتعد وأصرخ، دثّروني دثّروني، أبقيت الباب مواربًا، وعند تناول العشاء تلكأت وأنا آكل واقفًا لأترك كرسيًا شاغرًا للنبي الذي لم يأت بعد.

خرجت بقائمة متذرعًا بقائمة مشتريات طويلة تستحق مشوارًا لسوبر ماركت بعيد، اشتريت بعضها، وخصوصًا "كلن الدواء الأصفر(كلور)" ذلك الذي كان أقرب غرض في طفولتي للدراجة، نجلس عليها بعد أن نخرج الهواء منها ونتزلج في منحدرات البلدة.

عدت إلى هناك، إلى ذلك المكان، قبل أن أراهما خرجت من بين الأعشاب جثث كثيرة، بعضها حزرتها كجثة والدة زكريا، وبعض أصدقاءه من فيلم أبناء آرنا، وبعضها جثث غريبة تحضّني بلغات أجنبية أن أعود أدراجي ولا أساعد هؤلاء "المخربين"، أعطيتهم الحاجيّات، وقلت أنّني جاهز لأقل أحدهم معي إلى حيث يشاء، تهاوت عندها كل الأبراج المشيدة وكل الطيور المغردة وكل أناشيد السلام، وأوراق الـ A4مع طبعة زيتية للشمعدان في وسطها اشتعلت من شموع الشمعدان الثمانية، لتحرق كل بيوت الورق، وتخرج من خلفها غواصة ألمانية قادرة على الطيران مثل الإنتربرايز وتسلط علينا الضوء محاولة نقلنا إليها عبر الانتقال الآني إلى داخلها، طلبت منهم اختيار أحدهما القفز إلى صندوق السيارة، واختارا يعقوب، بينما قفز زكريا تلحق به أشباحه قبل أن يختفي في العتمة.

خرجت بأقصى سرعتي متجهًا شرقًا رغم أن غواصة الإنتبرايز تلك لسبب ما تجمدّت في الهواء، وبدأت ترجف كأنها مجرد هولوغرام ركّبت على أرض غير ملائمة.

لم يمرّ وقت طويل قبل أن أرى أمامي جنديًّا ينظر إليّ كأنه يحاول قنصي بنظراته، واضح أنه لمح عرقي المتصبب وعيوني المترقبة، يشير إلي أن أتنحّى جانبًا، أتقدم قليلًا لأتوقف على قارعة الطريق، وبينما يقترب أضع ناقل الحركة لوضعية الحركة إلى الخلف بدل التوقف، تقترب السارة قليلًا من الجندي فيطلق النار على الصندوق، أما أنا فتدوم بي الدنيا وتميد، قبل أن يرتطم رأسي بمقود السيارة ويشغل الزمور دون توقف، ليكون ذلك آخر صوت أسمعه قبل أن أفقد الوعي.

"الحمد الله عسلامتك".

العائلة كلّها من حولي، ولا أثر للشرطة، أما أنا فيما يبدو في غرفة العناية المكثّفة، مع الكثير من الآلات مرتبطة كلها بي، يجلس بجانبي صديقي إياد المحامي ويعلمني بما حدث بعدما فقدت الوعي، حيث فتّشو السيارة شبرًا شبرًا ولم يجدو أي أثر، ولو كان هنالك أثر فإن طلقات الجندي قد ثقبت "كلن الدواء الأصفر"، الذي تمزق مرة واحدة وأغرق صندوق السيارة حيث لم يستطيعوا استخراج أي دلائل من هناك، وقد أنقذت الأزمة القلبية التي مررت بها حياتي، الأزمة وجندي آخر كان مسعفًا بالجيش ميز ما يمرّ بي ليعطيني إسعافًا أوليًا قبل نقلي إلى المستشفى، أهزّ رأسي وأتبسم وأنا أنظر إلى يدي اليسرى حيث ما زالت عليها تلك الساعة المعطّلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

روما التي لا يدوسُ ليلها سوى امرأة

ترانيم الكادح