16-يوليو-2023
مسيرة في باريس للمطالبة بالعدالة لنائل

مسيرة في باريس للمطالبة بالعدالة لنائل

أعادني مشهد الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا مؤخرًا، احتجاجًا على قيام شرطي فرنسي بقتل الصبي نائل الذي ينحدر من أصل جزائري، ويبلغ من العمر 17 عامًا؛ أعادني ذلك المشهد إلى ملاحظة أوردها ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان"، وذكر فيها تعقيبًا على مقدمة رواية ألبير كامو "الغريب"، أكّد فيه أنّ مقدمة رواية الغريب تحتوي على شُبهة استعلائية عنصرية، فكامو –بحسب عدوان- اختار لبطله في مقدمة الرواية أن يقتل عربيًا جزائريًا لكيْ لا ينشغل قارئه المستهدف بشخصية القتيل ولايُفكّر فيها ولو حتى تفكيرًا هامشيًا، فاختيار كامو للجنسية الجزائرية للقتيل تأتي كمثال على الفوقية العرقية التي يتعاطى بها الإنسان الأبيض مع ملوني الأرض.

قادتني ملاحظة عدوان السابقة إلى تعقيب آخر أورده حميد دباشي في كتابه "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟"، فدباشي يُعقّب في كتابه على افتتاحية مقال إطرائي كتبه أحد الكتاب العرب في واحد من المواقع العربية بغرض مدح مجموعة من الفلاسفة المعاصرين يتقدمهم سلافوي جيجك، وقال فيه: "هناك العديد من الفلاسفة الهامين والفعالين اليوم: جوديت بتلر في الولايات المتحدة، سيمون كريتشلي في إنجلترا، فيكتوريا كامبس في إسبانيا، جان لوك نانسي في فرنسا، شانتال موفي في بلجيكا، جياني فاتيمو في إيطاليا، بيتر سلوترديك في ألمانيا وفي سلوفينيا سلافوي جيجك، ناهيك عن غيرهم من الفلاسفة الذين يعملون في البرازيل وأستراليا والصين".

تحتوي مقدمة رواية الغريب على شُبهة استعلائية عنصرية، فكامو  اختار لبطله أن يقتل عربيًا جزائريًا لكيْ لا ينشغل قارئه المستهدف بشخصية القتيل ولايُفكّر فيها ولو حتى تفكيرًا هامشيًا

يؤكّد دباشي في تعقيبه على أنّ الكاتب العربي في افتتاحيته جعل من الفلسفة الأوروبية والفلاسفة الأوروبيين أساس للاستشهاد والإطراء، وحتى الفيلسوفة جوديت بتلر، قام الكاتب بالاستشهاد بها كمثال من الولايات المتحدة الامريكية، وكنتاج للسلالة الفلسفية الأوروبية، في حين تعامل الكاتب مع فلاسفة الصين والبرازيل وأستراليا التي -تُعتبر أيضًا امتدادًا أوروبيًا- بصفتهم فلاسفة آخرين يستحقون الذكر، ولكن دون أن يتميّز أحد منهم باسم معين، يجعله يستحقّ الذكر، بجانب أولئك الفلاسفة الأوروبيين.

إنّ افتتاحية هذا الكاتب والمثقّف العربي قد احتوت كما هي مقدمة ألبير كامو على شبهة استعلائية عنصرية، ترفع من شأن الفلسفة الأوروبية والفلاسفة الأوروبيين، وتجعل من الفلسفات الأخرى محض فلسفات تابعة للفلسفة الأوروبية، لا يستحقّ أصحابها ذكر أسمائهم، أو إيرادهم بصفتهم كيانات مبنية للمعلوم، يُمكن التوقّف عندها والتفكير فيها.

إنّ مقدمة كامو لرواية الغريب وافتتاحية الكاتب العربي تأتيان لتخبران عن فكرة إثنولوجية عنصرية تتمثّل في رؤوس المثقفين في الشرق والغرب، ويتمّ فيها النظر إلى كلّ ما هو أوروبي باعتباره مركزًا وأصلًا وأساسًا، ويتمّ فيها تصنيف كلّ ما هو غير أوروبي باعتباره فِرعًا، وهامشًا، وتابعًا.

يسأل حميد دباشي في كتابه السابق عن سياقات نشوء هذه النظرة الإثنولوجية العنصرية لكلّ ما هو غير أوروبي، ويقول: "لماذا تُعد الفلسفة الأوروبية "فلسفة"، بينما تُعدّ الفلسفة الإفريقية فلسفة إثنية، بالطريقة نفسها التي يتمّ بها اعتبار الموسيقى الهندية موسيقى إثنية؟"، ويُضيف بأنّ هذه النظرة الإثنولوجية العنصرية تتضحّ أيضًا في كيفية التصنيف الأوروبي للنزعات الفكرية في العالم العربي والإسلامي، ولمفكرين أفذاذ أمثال: عزمي بشارة، وصادق جلال العظم، وفواز طرابلسي، وعبد الله العروي، ومشيل كيلو، وعبد الكريم سروش، وللعديد من المفكّرين البارزين الآخرين.

يؤكّد دباشي بأنّ النزعة الأوروبية التي يتمتّع بها المثقفون الأوروبيون هي نزعة يُمكن فهمها من الكيفية التي يعون فيها أنفسهم على الصعد العالمية، من حيث اعتقادهم بأنهم ورثة الإمبراطوريات المتعددة -المنحلة اليوم- وحملهم في دواخلهم لغطرسة وهمية باقية من إرث تلكَ الإمبراطوريات، فهم بحسب دباشي يعتقدون بأنّ فلسفتهم الخاصة هي "الفلسفة"، وتفكيرهم الخاص هو "التفكير"، بينما كلّ شيء آخر –بتعبير الفيلسوف إيمانويل ليفانس- مجرّد رقص.

وإذا كان يُمكن فهم تلك النزعة الأوروبية عند المفكرين والمثقفين الأوروبيين بناءً على سياقات نشوئها وتكونها داخلهم، فإنّه لا يُمكن فهم نشوئها داخل رؤوس وعقول العديد من المثقفين العرب والمسلمين، الذين يفتقرون إلى الوعي الذاتي بأنفسهم، ويحتاجون إلى طريقة أخرى للتفكير في تواجدهم ككتلة عالمية من شأنها نقد دعاوى المركزية الأوروبية وتفكيك أنساق هيمنتها.

إنّ المثّقف العربي والإسلامي عليه أن يكون قادرًا على نقد تلك الرؤية الإثنولوجية العنصرية التي تضمنتها مقدمة رواية الغريب لألبير كامو، وعليه أن يقيم في ذهنه دائمًا مقدمة أخرى يَستلهمها من مشهد احتجاجات فرنسا الأخيرة على مقتل نائل، ويسير على نهجها في التعبير والاحتجاج الدائم على كلّ فكرة يصادفها ويَلمح فيها تصويرًا للإنسان الأوروبي بصفته إنسانًا أعلى وأرقى من غيره، أو تقديمًا للثقافة الأوروبية باعتبارها أوّل الثقافات وآخرها!