12-مارس-2023
مراجعة كتاب

يشتمل الكتاب عل مرافعة فكرية نقدية أصيلة في الحضارة الغربية

أراجع في هذه المقالة كتابًا شديد الأهمية للبروفيسور كايندي أندروز، صدر منذ عامين عن دار النشر البريطانية بنجوين. عنوان الكتاب: "عصر الإمبراطورية الجديد: كيف تستمر العنصرية والاستعمار في حكم العالم." ينصب اختصاص أندروز على دراسات السود، وهو أستاذ في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة برمنغهام، كما يشغل منصب مدير مركز الدراسات الاجتماعية النقدية. أسس الكاتب أيضًا منظمة وحدة السود (Black)، ويعمل رئيسًا مشاركًا في جمعية دراسات السود. ولأندروز كذلك كتابان بعنوان “مقاومة العنصرية: العرق، وانعدام المساواة، وحركة المدرسة التكميلية السوداء"[1] الصادر في 2013، و"العودة لقصة السود: سرد قصة الراديكالية السوداء في القرن الواحد والعشرين"[2] الصادر في عام 2018.

يقع الكتاب في ثمانية فصول يعمل أندروز فيها على نقد وتفكيك ما يراه الركائز التي تنبني عليها الحضارة الغربية

يقع الكتاب في ثمانية فصول يعمل أندروز فيها على نقد وتفكيك ما يراه الركائز الثلاثة التي تنبني عليها الحضارة الغربية. فهو يرى أن الإبادات البشرية الجماعية، والعبودية، والاستعمار، تشكّل الأساس الذي أقام عليه الغرب حضارته المعاصرة، معتبرًا التصور الشائع في قيام حضارة الغرب على العلم والصناعة والسياسة محض خرافة. ينقسم الكتاب في عمومه إلى قسمين، الأول يشرح فيه الكاتب الأسس التي قامت عليها إمبراطورية الحضارة الغربية، بينما يشرح الثاني كيفية صعودها وحفاظها على مكتسباتها، مع اختلاف تمثلاتها وفاعليها.

يستهل أندروز مقدمته بالحديث عن أربعة وجوه/مفاهيم تعكس حقيقة العصر الحالي، وتمثل منطق الإمبريالية الغربية. تتخلّل هذه المفاهيم الكتاب، وتستبطنها فصولُه، ويراها الكاتب بطانةً يكتسي بها جوف الكتاب، فلا تظهر بشكل مباشر، بل تتجلى للقارئ بين السطور والكلمات. أول المفاهيم هو العنصرية الرأسمالية Racial Capitalism: يربط المفهوم بين العنصرية والرأسمالية المعاصرة في الولايات المتحدة، باعتبارها تمثيلًا لقلب النظام العنصري الحالي، واستمرارًا لميراث النظام العالمي العنصري القديم. أما ثاني المفاهيم فهو الحنين إلى الماضي الاستعماري التليد Colonial Nostalgia: يشرح أندروز المفهوم من خلال شعاري حملة ترامب الانتخابية "فلنعدْ لأمريكا عظمتها" (Make America Great Again)، وحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "معًا نستعيد السيطرة" (Take Back Control). يرى أندروز في الشعارين حنينًا إلى زمنٍ كان المنطق الاستعماري فيه واضحًا وقارًا، وكانت السلطة والهيمنة على مساحات شاسعة من العالم، تُمارس بصرامة بدون أدنى رقابة أو حساب.

المسلمون في أوكرانيا

ثالث المفاهيم هو الأبوية العرقية Racial Patriarchy: يدعونا أندروز من خلال هذا المفهوم إلى ضرورة التفكير التقاطعي، ويؤكد على استحالة فهم التركيب الاجتماعي الذي نعيشه بدون النظر الجاد في تشابكات أنظمة الظلم والطغيان التي تولد انعدام المساواة بين البشر. يشرح أندروز من خلال هذا المفهوم العلاقة العلائقية بين الأبوية والهيمنة البيضاء، حيث يشير إلى طبيعة المنظومتين المستقلة، فكلتاهما قادر على العيش بدون الآخر، لكنهما يتعايشان معًا، ويغذي أحدهما الآخر. آخر المفاهيم هو عصر ما بعد التمييز العنصري Post-Racialism: يُلقي المفهوم الضوء على الوهم الذي نعيشه، فبحسب أندروز فإن الفصل العنصري والتهميش واللامساواة (اليوم) أسوأ مما كانت عليه الأوضاع من قبل، وعصرنا لا يمثل انتقالًا أو تجاوزًا لما سبقه، بل امتدادًا طبيعيًا له. يقتبس الكاتب مقولة هامة لأحد مؤسسي نظرية النقد العرقي دريك بيل Derrick Bell: "إن ما نسميه بـ[التقدم العرقي racial progress] ليس حلًا لإشكال العنصرية العرقية، بل إعادة توليد لنفس الإشكالية على نحوٍ أكثر فسادًا."[3]

ينطلق أندروز في الفصل الأول في تشريح ركائز الحضارة الغربية ومقوماتها. ويعتبر التنوير الإطارَ الفكري المرجعي الذي خلق الفرصة لوجود الإمبراطورية الغربية في صورتها القديمة، وسمح لها بالاستمرار حتى عصرنا الحالي. فيكشف الكاتب عن العلاقة الراسخة غير القابلة للفصل بين مفكري عصر التنوير والعنصرية[4]، حيث وجدوا أنفسهم متربعين على عرش العالم عبر العبودية والاستعمار والإبادات البشرية الجماعية، فرسموا إطارًا مرجعيًا عقلانيًا علميًا عالميًا متوسلين ما توفر لهم من معارف عصرهم للحفاظ على المنطق الاستعماري وتبريره وتهيئة الظروف لنموه وازدهاره.

يأتي كانط في مقدمة المفكرين التنويريين الذين يستحضرهم أندروز على طول الكتاب، فيراه أحد أشرس مفكري التنوير عنصريةً، لجرأته على تصوير الشعوب غير الأوروبية باعتبارهم همجًا وكسالى وفاقدين للوجهة. ولعله يجدر هنا استحضار مفهوم العقلانية المكثفة، الذي تشكل في عصر التنوير، للبروفيسور الهندي عقيل بلغرامي، والذي يُبيّن من خلاله التبريرات التي ارتكنت إليها العقلية الاستعمارية في استباحة أراضي الشعوب واستعمارها. يرى بلغرامي أن مفهوم العقلانية المكثفة يصّور الأراضي المستعمرة كامتداد لطبيعة متوحشة يجب إخضاعها، ليستخرج منها الربح والفائدة. أما الشعوب التي تسكن هذه الأراضي فهي قاصرة لا تمتلك ما يكفي من العقلانية لتدير شؤونها بكفاءة. ولذلك سعت الحكومات الاستعمارية لتطبيع الشعوب التي تستعمر أراضيها بمحددات وشروط العقلانية التي ترتضيها.[5]

عصر الامبراطورية الجديد

في الفصل الثاني يروي أندروز قصة كولومبوس عرّاب الحضارة الحديثة، الذي بدأ الفترة الأكثر ظلامًا ودموية في تاريخ البشرية، وسن لمن بعده شِرْعَة الإبادة الوحشية التي استنّت بها القوى الأوروبية التي خلفته. لذلك يعتقد أندروز أن مشروع الديموقراطية والعلوم والصناعة المعاصر قام على عشرات الملايين من الأجساد. ويرى أن الإبادة التي تعرض لها 99% من الأمريكيين الأصليين في كل من الأمريكيتين ومنطقة البحر الكاريبي مفتاح لفهم الهولوكوست النازي. فيرى الكاتب أنها تمثل مخرجًا طبعييًا ضرب وسط أوروبا بنفس المنطق العقلاني الذي استخدمه الأوربيون في مذابحهم ضد الأفريقيين والآسيويين والسكان الأصليين في الأمريكيتين. لقد استخدم الألمان نفس منطق علم الأعراق الزائف الذي اُستخدم لعرقنة الأجساد البنية والسوداء من أجل وضع اليهود في منزلة أدنى لتبرير العنف الممارس اتجاههم. أدى هذا الاستخدام للمفاهيم العرقية العنصرية التي اعتاد الأوروبيون استخدامها وتطبيقها على أجساد الشعوب ذات البشرة السوداء والبنية لانقلاب السحر على الساحر، مما جعل إعادة التفكير في براديمات العرق والسلطة أمرًا لازمًا.

أما الفصل الثالث، فيتحدث عن العبودية كحجر أساس للتطور الغربي، فتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلنطي كانت المحرك الرئيسي لازدهار وتقدم الغرب. فقد بُنيت شمال إنجلترا حرفيًا بالاعتماد على عمالة الرقيق في مصانع إنتاج القطن. كما قامت على أكتاف الرقيق صناعة الزراعة في الأمريكيتين، والتي انبنت عليها مدنٌ كاملة مثل بوسطن ونيويورك. إن الثروة التي تراكمت عبر تجارة الرقيق هي ما منحت الغرب القدرة المادية على استباحة واستعمار العالم. ونبّه أندروز إلى أن الحفاظ على رحلات تجارة الرقيق المروعة ساهم في ازدهار صناعات جديدة مصاحبة مثل بناء السفن والأخشاب وتطوير الموانئ والأغلال والسلاسل. وأن الثروات المتراكمة منذ عصر الرقيق ما تزال تواصل تراكمها إلى يومنا هذا. ويثير أندروز نقطة مهمة أخرى تتناول ما يسمى بالتعويضات عن الضرر الناجم عن تجارة الرقيق. فيجادل بأن إصلاح الضرر الذي تسبب فيه الغرب لأفريقيا وبقية العالم، سيؤدي إلى دمار كامل للغرب، فإرجاع الأموال المجنية من الضرر، والحرية التي سوف تنتج عن التعويضات للشعوب المتغول عليها، ستتسبب في تفكيك وانتهاء المشروع الغربي تمامًا.

يختتم أندروز الشق الأول من الكتاب بفصله الرابع الذي يتحدث فيه عن أشكال الاستعمار المعاصرة، ويضرب مثلًا بشركة عالم كادبوري في بريمنغهام على الاستعمار الجديد الذي ما يزال يحيى بين ظهرانينا. فيسرد الكاتب تاريخ شركة كادبوري، العلامة التجارية البريطانية العالمية المعروفة، ويتحدث عن قصة مصنعها الأول الذي بٌني من أرباح تجارة السكر التي قامت كاملةً على العبيد. لم يمنع انتهاء العبودية استمرار أنظمة الاستغلال، فالمواد الخام تؤخذ من أفريقيا بأبخس الأسعار، ويُعاد إنتاجها في مصانع أوروبا للسلع الكمالية والفاخرة، لتباع من جديد بأعلى الأسعار في أوروبا وبقية العالم لتحقيق أعلى الأرباح. وتتجلى علاقات الاستغلال المعاصرة في حالة مزارعي الكاكاو الذين يتقاضون أجرًا لا تتجاوز نسبته 6% من جهدهم المبذول. يحدث ذات الأمر مع المزارعين الإندونيسيين الذين يعملون في مزارع إنتاج زيت النخيل، والذين يعملون وفق نظام عقود تم تصميمه لاستبدال الأفارقة المستعبدين بعمالة آسيوية رخيصة. وتقر شركة ويلمار انترناشونال أحد عمالقة إنتاج زيوت النخيل أن المزارعين الإندونيسيين يعملون بعقود مؤقتة وبأجور زهيدة لا تتجاوز 5-10% مما يستحقونه، في تمثيل مستمر لقيام ثراء الحضارة الأوروبية الغربية على الأجساد غير البيضاء.

يناقش الفصل الخامس عملية إعادة بناء صورة الإمبريالية الغربية. يرجع أندروز بنا إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، ويشير إلى حقيقة أن النظام الاستعماري آنذاك بدأ يظهر معالم التذبذب وعدم الاستقرار بما يستدعي الحاجة إلى التغيير. حدث هذا تحديدًا بعد مذابح الحرب العالمية الأولى، وما تلاها في فترة الكساد الاقتصادي الأعظم. كما يوضح أن التعاون والتنسيق الشديد بين القوى الغربية، هو ما سمح لهم بالهيمنة على العالم. فقد أنتجت الحروب بين الدول القومية وعيًا بحتمية التغيير، والاتجاه نحو نموذجٍ وحدوي، فالصراعات شكلّت خطرًا عميقًا على التجارة والأعمال القائمة على استغلال شعوب العالم الأخرى. مما أدى إلى إنشاء ثلاث مؤسسات عالمية تلقّب بالثالوث المقدس: منظمة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، الذي يلقي في قلب دول العالم الثالث الرعب. لقد أصبح الثالوث واجهة النظام المحدث للإمبريالية الغربية. ويختم حديثه في هذا الفصل بالتحول الدلالي بالتخلي بعد إعلان اليونسكو عن مفهوم العرق والاستعاضة عنه بمفهوم الإثنية. ورغم أن مفهوم الإثنية يحافظ على الاختلاف، ويسمح بالتنوع والتعقيد المطلوب الذي تعكسه الطبيعة البشرية، لكن التحول لم يكن حقيقيًا، بل اسميًا فقط. فلم تعد دونية الأفارقة تعزى إلى جيناتهم؛ بل إلى طبيعتهم القبلية وأنماط حياتهم الرجعية.

نقد الحضارة الغربية

يتحدث الفصل السادس عن اتساع رقعة المستفيدين من النظام العنصري الذي يضع الرجل الأبيض على هرم البشرية. ويوضح أن لون البشرة ليس مانعًا بالضرورة، إذا ما أراد تابعًا الانضمام إلى المنظق الاستعماري الكامن في تفوق الرجل الأبيض. يستحضر الكاتب حقيقةً مفادها أن براديم النظام الغربي يحمل طبيعة معقدة تجعل كلفة تجاوزه مستحيلة الدفع. مما يدفع المتطلعين إلى أتباع الطريق الأيسر نحو الثراء للانخراط في نفس البراديم. تشكلت في هذا السياق مجموعة البريكس BRICS التي تضم مجموعة من الاقتصادات النامية: الصين والبرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا. أول ما سعت خلفه هذه الدول هو الذهاب إلى أفريقيا بعقلية استغلالية، تعكس تشربهم للبراديم الغربي، من خلال الاستثمار في تهيئة البُنى التحتية للدول الإفريقية بأزهد الأثمان، مقابل الحصول على حقوق حصرية للتنقيب، والحصول على موارد القارة، ومن ثم بيعها إلى الدول الغربية بفارق أسعار ضخم.

يتناول الفصل السابع دور العلم والتكنولوجيا في تعميق الممارسات الاستغلالية في العالم الثالث التي تقوم عليها الصناعات الحديثة، التي تستخدم آخر التطورات التكنولوجية والعلمية لحل قضايا البيئة والتلوث، وتتوسل بها باعتبارها حلًا لمشاكل العالم. يوضح أندروز كيف تبنّى العديد من السياسين البارزين حول العالم، مثل: بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، الصفقة الخضراء الجديدة، متجاهلين ما يحصل من العلاقات الاستغلالية المفرطة في دول أفريقيا. فما يسمى حاليًا بالثورة الصناعية الرابعة، تقوم في حقيقيتها على سرقة المعادن والمواد الخام الأساسية، لتوليد طاقة ووقود نظيف للعالم. وإن علمنا أن الثورات العلمية السابقة قامت على استغلال الرقيق والاستعمار فسرقة إفريقيا من جديد لإحداث ثورة جديدة لن يكون أمرًا غريبًا أو مستبعدًا، بل مسارًا طبيعيًا للإمبريالية الغربية.

يعرج الفصل الأخير على محدودية الخيارات التي يمنحها لنا اليسار بكل أطيافه، وخصوصًا أشد أشكاله تطرفًا. ويشير البروفيسور إلى أن ماركس بذاته كان منغمسًا لأخمص قدميه بمُثل التنوير، ويمكن اعتباره مفرزًا لنموذجها. فقد اعتبر ماركس التقدم التكنولوجي الذي جلبته الرأسمالية مرحلة أساسية للتحرر البشري. ولذلك يرى أن محدودية الماركسية تتعلق بانغماسها الشديد بباراديم التقدم العلمي والتكنولوجي والهيمنة البيضاء كما هو الحال في الباراديم النيوليبرالي. ولهذا يعتقد أندروز أن الماركسية ليست سوا وجهًا مقلوبًا لمنطق الهيمنة الفكرية البيضاء. ويخبرنا عن حقيقة تاريخية واضحة مفادها أن أغلب الذين ثاروا على النظام العالمي وتبنوا الماركسية إلى ابعد مدى لم يكونوا العمال بل الفلاحين من خارج الدول الغربية[6]، وأن الدول التي تبنت النموذج الفكري الاقتصادي الماركسي بشكل كامل، انحدرت بشدة لتكون من أفقر الدول على مستوى العالم.

نقد جذري للحضارة الغربية

قدم أندروز نقدًا جذريًا للحضارة الغربية، يرى فيه أن سيادة مشروع الإمبريالية الغربية الحديث بمثابة استكمال لمنقطقها الاستعماري الذي بدأ منذ عصر التنوير. وأن مشاريعها القيمية العالمية المعاصرة من قبيل الديموقراطية وحقوق الإنسان والمنظمات الدولية الكبرى ليست سوى إعادة مأسسة وتقديم لمشاريعها القديمة. ويخالف بذلك العديد من النظريات السائدة في حقل دراسات التنمية (development studies) التي تتجاهل الحقائق التاريخية للتخلف في القارة الأفريقية.[7] ويتفق المؤرخ وعالم الاجتماع والاقتصاد الأمريكي أندري فرانك مع تصورات أندروز حيث يؤكد على أهمية البعد التاريخي لفهم عمليات تطور دول المركز في مقابل الدول القابعة في أدنى سلم التقدم العالمي.[8]

ينبغي أيضًا الإشارة إلى أن أرضية أندروز الأيدولوجية، التي تنادي بتضامن إفريقي قائم على وحدة اللون والجغرافيا، منعته من فهم تصورات ابن خلدون على نحوٍ أفضل. فقد اقتبس لابن خلدون مقطعًا من كتابه المقدمة يصف فيه خلدون "خلق السودان على العموم [بـ]ـالخفة والطيش وكثرة الطرب، تجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر، والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه."[9] [10] ويعتبر أندروز بذلك أن ابن خلدون من أوائل علماء الاجتماع الذين أسسوا للتفوق العرقي على أساس بيولوجي.

كايندي أندروز
كايندي أندروز 

لكن ابن خلدون ينطلق في توصيفه من أرضية اثنوغرافية[11]، بمعنى أنه لا يؤسس لفوقية عرقية بيولوجية كما حاول أندروز أن يوحي، بل يُقدم وجهة نظر تفسيرية لملاحظاته الإثنوغرافية، يحاول فيها تفسير الاختلاف البشري من مدخل بيئي. ويرى ابن خلدون أن البيئة تلعب دورًا أساسيًا في التأثير على سلوكيات الناس، وبذلك يكون تنقل الناس وسفرهم، لاعبًا أساسيًا في تغيير وتبديل سلوكياتهم. كما قيّد ابن خلدون الطبيعة البشرية بمحددات الدين والثقافة والجغرافيا والمناخ، فجعل خصائص الناس الجسدية أكثر سيولة وقابلية للتغيير في مقابل النظرة الحتمية البيولوجية العنصرية التي قدمها مفكري الغرب. إن منطلقات ابن خلدون الفكرية في نظرته لأهل السودان/الأفارقة/السود مختلفة تمامًا عن منطلقات مفكري عصر التنوير. كما أن خلفية ابن خلدون الفقهية تجعلني أكثر ميلًا لتفسير تصوراته باعتبار محكوميتها بقواعد الشريعة التي تؤسس للمساواة بين الناس.

إن موضوع نقد أندروز ليس جديدًا، فقد شاع في السياق العربي نقد الإسلاميين للحضارة الغربية. ومن ذلك ما قدّمه علي عزت بيجوفيتش في كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"، وعبدالوهاب المسيري في سيرته الذاتية، وكثير من كتبه الأخرى، ومالك بن نبي في سلسلة مشكلات الحضارة، وسيد قطب في "معالم على الطريق"، وسفر الحوالي في "المسلمون والحضارة الغربية"، وطه عبدالرحمن في "بؤس الدهرانية"، وفي كتبٍ أخرى.[12] بيد أن كل النقودات السالفة انطلقت من أرضية دينية منافحة عن الدين تارة، أو مقارنة لروح الإسلام مع الحضارة الغربية تارة أخرى، بغية إظهار التفوق الديني في مختلف المجالات، باعتبار الإسلام حلٌ لا يمكن تجاوزه في الحياة للإشكاليات التي ولدها الغرب المعاصر.

يتحدث الدكتور عبد الإله بلقزيز استاذ الفلسفة الغربية والفكر الإسلامي عن نمطين شائعين في السياق العربي في نقد الحضارة الغربية؛ النمط الأول ينسب لنفسه حماية الأصالة، ويعادي الغرب بشكل دائم، لما يراه فيه من خطر على الهوية والوطنية والمجتمع، ويقصد بذلك عمومًا نقد الإسلاميين. النمط الثاني: نقد المثقفين الذين يتقاسمون المشترك الثقافي مع نظرائهم من مثقفي الغرب. ويتميز هذا النقد بكونه نقدًا سياسيًا لا ثقافيًا، بمعنى أن النقد يكون موجهًا في غالبه لسياسات الغرب، التي تنحرف عن المبادئ والقيم الثقافية، التي وضعها الغرب نفسه، من قبيل: المساواة، والعدالة، واحترام الشعوب الأخرى، والتسامح، وحق تقرير المصير، والتكافؤ في الفرص، وحقوق الإنسان. [13]

لكن نقد أندروز يخالف ما يذهب إليه بلقزيز في تفريقه بين الغرب السياسي والغرب الثقافي. ومبنى ذلك أن أندروز يرى أن الغرب السياسي امتداد لمُثل وقيم الغرب الثقافي، وأنهما كلٌ واحد لا يمكن تجزيئه. واعتقد أن نقد أندروز يتفق بشكل أكبر مع نقد الإسلاميين للحضارة الغربية، الذين ينظرون إلى الغرب أيضًا ككلٍ واحدٍ. لكنني أرى أن نقد أندروز مجردٌ عن البعد الديني الفلسفي الذي يغلب على نقد الإسلاميين، ويقوم في حجاجه على تحليل مدعمٍ بالحقائق والأرقام.

قدم البروفيسور كايندي أندروز في كتابه "عصر الإمبراطورية الجديد" مرافعة فكرية نقدية أصيلة في الحضارة الغربية

في السياق الغربي، نجد أندروز يعتمد في فهمه للحداثة على تصورات زيجمنت باومان في كتابه التأسيسي "الحداثة والهولوكويت"، التي يعتبر فيه الهولوكوست مفرزًا طبيعيًا للحداثة لا يمكن فصله عن صيرورتها، باعتباره ضربًا من الجنون الذي يقتصر على فئة محددة . ويتفق أندروز بذلك مع عدد من المفكرين والفلاسفة الغربيين ممن قدّم نقدًا للحضارة الغربية، من أمثال: إدغار موران، ماكس ويبر، وماكس هوركهايمر، وحنة أرنت، ورواد مدرسة فرانكفورت، وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين.

في الحقيقة، قدم البروفيسور كايندي أندروز في كتابه "عصر الإمبراطورية الجديد" مرافعة فكرية نقدية أصيلة في الحضارة الغربية، حيث أرجع الحالة الغربية المعاصرة إلى جذورها. لقد استخدم في كتابه تفاصيلًا دقيقة، وشفّع تصوراته بالأرقام، وحاجج على نحوٍ مقنع، بما يجعل كتابه مستحقًا للاشتباك والتداول والنقاش في الفضاء الثقافي/الفكري العربي.

 

 

 

[1] Back to Black: Retelling Black Radicalism for the 21st Century.

[2] Resisting Racism: Race, Inequality and the Black Supplementary School Movement.

[3] Bell, D. (1992) Faces at the Bottom of the Well: The Permanence of Racism. New York: Basic Books, 1 2.

[4] يعتبر سلمان رشدي العنصرية منتجًا حضاريًا غربيًا غير مسبوق، للمزيد انظر: استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي، ترجمة: محمد السيد بشرى، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

 

[5]  بلغرامي، عقيل. (2008). ما هو التسحير؟ ترجمة: عبدالله أبولوز. cutt.ly/J8WBpkr

[6] في كوبا والصين وكوريا الشمالية وغينيا وغرينادا وموزمبيق وأنغولا وفيتنام الشمالية وحتى في روسيا، راجع:

 

 Robinson, C. J. (1983) Black Marxism: The Making of the Black Radical Tradition. London: Zed Books.

[7]  Kirenci, Ayşe Işın. (2021). Review of the book The New Age of Empire: How Colonialism and Racism Still Rule the World, by K. Andrews. LSE Blog, cutt.ly/58SJ4vN.

[8] Frank, A. G. (2018). The development of underdevelopment. In Promise of development (pp. 111-123). Routledge.

[9] ابن خلدون، عبدالرحمن. المقدمة. ص. 85. الرابط: https://cutt.ly/p8FgePd.

 

[10] مع الإشارة إلى أن النص المنقول في الكتاب باللغة الإنجليزية يختزل النص العربي، والنص الإنجليزي المقتبس كما يلي:

" they have little [that is essentially] human and have attributes that are quite similar to those of dumb animals"

 

[11] يجب التنبيه إلى أن التوصيف الإثنوغرافي لا يسمح بالتعميم الإثني، وإنما أعني بالإثنوغرافي شقه المقصور على الملاحظة التشاركية، مع الاعتراف بأن استخدام الإثنوغرافيا هنا هي محاولة لاستخدام مفهوم معاصر لوصف اشتغال فكري قديم زمنيًا، وقد لا يكون انطباق المفهوم كاملًا، أي أن الاستخدام مع أخذ الفارق الزمني في عين الاعتبار.
 

[12]  القائمة تطول لكن اقتصرت على ما بعض مما درسته وطالعته، ووجدته متصلًا اتصالًا وثيقًا بموضوع الكتاب.

 

[13] سكاي نيوز العربية. (19 نوفمبر، 2022). حديث العرب: في نقد الحضارة الغربية [فيديو]. يوتيوب. https://www.youtube.com/watch?v=Y8WKM4tjINQ&t=37s