03-أكتوبر-2018

سامانثا كيلي سميث

حطَّتْ فراشةٌ على باب إحدى عربات القطار الواقف بين "سري كانيه" التركية وتوأمها السورية، شعرتُ بأنّها أوقفتْ حركة الزمن في رأسي، كانت الحدود كثيرة ومغلقة جدا فلم يغرني الباب المفتوح. 
النظر الى سكة حديديّة تقسّم مدينة ما بين دولتين جعلتني أعتقد أن الزمن مَدّدٌ على بطنه، لا القطار يمضي ولا المدينة تكبر.  
ثمّة سكين أو سكة حديدية فصلت بيننا بطريقة مؤلمة، حتّى إنّها لم تترك فرصة للنزف، النزف هو التعبير الطبيعي عن دَفَقٍ داخليّ خرج عن السيطرة ليتمرد ويركض في اتجاه ما، ولكن إلى أي اتجاه سأركض، وإلى أي اتجاه يذهب أبناء هذه المدينة؟ 
شعرت بأني مُتخمٌ بالاتجاهات والمدن والأزمنة وشخصيات وحكايا كثيرة، تذكرت الأسطورة الكردية التي تتحدث  عن رجلٍ بدين يرسله أحد الأمراء إلى أمير آخر وقد حمل معه رسالة تقول "بأن هذا الرجل يأكل بشراهة، وقد أرسلته لعلك تجد له حلّا"،  ولكن في الطريق يعثر الرجل البدين على جثة لرجل مقتول للتو،  فيشق بطنه بخنجره ليرى معدته، ليكتشف بأنها عضلة تتمدد كلما تلقت المزيد من الطعام وتتقلص كلما قُطِع عنها،  يقرر الرجل أن يكتفي بمقادير قليلة من الطعام،  وحين يصل إلى مملكة الأمير الجديد يكون قد غيّر عاداته وأصبح رجلا مختلفا، يتمتع بالمجالدة والصبر  لمجابهة أشد المغريات أوالمخاطر، مع مرور الزمن يصبح الرجل البدين رجل الاعتماد الأول لدى الأمير، ويتجاوز كل الاختبارات التي وضعها الأمير أمامه،  حتى إن قطعة الجمر التي وضعها على كفه، لإشعال سيجارة الأمير تحرق كفه دون أن يبدي ألما  إذ كان  الأمير قد تجاهل وجوده ليمتحن صبره ولكنه يقوم فيما بعد بتعبئة كفه المعطوب بالذهب حتى سُمِّيَ بالرجل ذو اليد الذهبية. 
لم تثمر رحلتي المزمعة من تركيا إلى أوربا عن ثمرة النجاح، الحب الذي بداخلي كان شاهقا، كبرياءٌ ما منعني من اجتياز النهر الواقع في المثلث " التركي- اليوناني- البلغاري"، ورغم أن  السيوف على جانبي النهر قد صدأت وفقدت حدتها وبريقها إلا إني شعرت بأن النهر هذا لا اسم له وإنما هو فقط سيفٌ قسم العالم لنصفين، صَعُب علي وأنا الجبلُ حمل نفسي إلى الجهة الأخرى من العالم، شعرت بنصفي الآخر موغلا في أعماق عالم آخر. 
 
عدتُ إلى مدينة زاخو، ثمّة مدن تثقب قلبك وتربطه بخيط أبدي، عرفت هذا في وقت متأخر، ولكن حين تحب شيئا ما،  شخصا كان أو مدينة،  نهرا أو شجرة، فلست متأخراً عن الحب، وقد يكون شيئا غير كل هذا.  
اشتقت إلى هذه المدينة التي لم أحصل فيها على عمل أو صديق ولا على أمل أو حبيبة،  ولكنّها جعلتني أحبّها وكأن قلبي نبض فيها أولى دقّاتِّه،  وكأنّ إمرأة في حي من أحيائها،  تفتح شباكها كل صباح ولا تستطيع أن تلتفت دون أن تتوقع مروري أو تتمنى ذلك.  
المدينة تبدو واضحة أكثر حين تعود اليها، تراها بعين المحب وهي تساعدك على فك ألغازها، وفهم جوهر الحياة فيها، صباحاً حين أمشي قليلا تحت الشمس، أرى جاري قد خرج متفقدا الشمس مثل سجينٍ خرج للاستراحة.  
هذا الرجل الذي يبدو عليه الانكسار بسبب وفاة زوجته،  عاش شعور من دفع لقاتل مأجور ليقتل والده، حين أجبره نظام البعث العراقي على دفع ثمن الرصاصات التي نفّذت بها حكم الإعدام على والده بتهمة الانتماء إلى حزب كردي انفصالي في سبعينيات القرن الماضي.
تأمُّل طريقة اتكاء الرجل على جدار المنزل،  مُمدّداً يديه وكأنه يستسلم لشيء ما،  تجعلني أفكّر إنّ قضبانا كثيرة تمنعني من رؤيتك،  عيناي سجينٌ بريء وهذا العالم يضيق ويصغر. 
قد تكونين هنا،  أو هناك،  تقرأين، تضحكين، أو تتذمرين، وقد تدندنين كلمات كتبتها لأجلك.    
يؤذن الإمام بزوال شمس الصباح، يمضي الرجل إلى المسجد وأنا أعود لغرفتي وأرتّب القضبان بطريقة أخرى.  
الرجال عندما يفقدون زوجاتهم،  في سنواتهم الأخيرة، يصبحون مثل الجزر،  أو كمن ينتقل للعيش، في جزيرة ما، يبدو الناس بالنسبة لهم سواسية، ثمّة حاجز ما يفصله عن العالم حتى  الاتجاهات تفقد سماتها الخاصة،  وتصبح وكأنها اتجاه واحد،  طريق مختصر إلى الموت حيث الطريقة الوحيدة أو الخيار الأخير للالتقاء، من جديد. 
عدت إلى هذه المدينة وأنا أشعر بغنىً عن مغريات القسم الآخر من العالم، متجاوزا أحلاما وأفكارا،  ورغبات كثيرة، أو ربما شعرت بانقطاعي عنها وكأنني في جزيرة وسط المحيط.
نخرج من سلطة الجسد حين نقتل الرغبة، هذا لا يجعلنا أحرارا، ولكن الرضوخ لسلطة الروح تشعرك بحرية أخرى أو بمتسع كبير من الصبر والمجالدة للشعور بالحرية مقيدا، لذلك الجزيرة هي حرية المكان في قيده. 
يمكن معرفة هذه الحالة لمن شاهد فيلم ضوء عبر المحيطات،  الرجل الذي عاد من وجع الحرب العالمية الثانية، عيّنته البحرية الأمريكية حارسا لمنارة في جزيرة صغيرة، تشعر به مكتئبا،  فاقدا للأمل،  لذلك تفكر ماذا يعني ضوءًا عبر المحيطات بالنسبة له،  يتمتع بقدر هائل من الطاقة ليجالد نفسه لخوض أقسى امتحان.  
الامتحان يكون حين يلتقي بضوء ناعم لطيف ويتزوجها، ولكن الفرحة لا تكتمل،  المرأة تضع مولودها كل مرة في الشهر الثامن، الفرحة المرتقبة تنتهي في قبر صغير،  ولكن ضوءًا آخراً يحمله المحيط، إذ يحمل المدّ قارباً،  يحمل طفلة ورجلاً مقتولاً.  
يحاول حارس المنارة أن يقنع زوجته بتسليم الطفل الى الحكومة الأمريكية،  ولكن في النهاية يرضخ لتوسلات زوجته بالاحتفاظ بها،  ككرامة إلهية أرسلتها السماء،  بعد سنوات يتعرف حارس المنارة الى والدة الفتاة، وهي ابنة أحد الأثرياء، هربت مع شاب ألماني، قُتل فيما بعد على يد سكان جزر المحيط الناقمين على الجنود الألمان.  
حارس المنارة الذي عايش آلام الحرب و يفهم ما معنى أن يفقد أحدهم عائلته،  يراقب والدة الفتاة، فيشعر بما تقاسيه من ألم،  فيرسل لها رسائل وعلامات تقودها فيما بعد الى طفلتها وتتكشف الحقيقة، ولكن الشرطة الأمريكية تتهمه بقتل الرجل الألماني، لا ينكر التهمة، ويتحمل مسؤولية ذلك لئلا يُحمّل زوجته مسؤولية شيء ما، زوجته الناقمة عليه لأنه كشف السر، تعيش ألم فراقها للطفلة التي تبنّتها. 
يشتد الصراع بين مشاعر متضاربة لكل من الفتاة ووالدتها الحقيقية ووالدتها التي تبنّتها،  وحارس المنارة، قبل أن يتصالحوا مع ذواتهم، وتنكشف كل الحقائق، ويُنقذ الحارس من حكم الإعدام. 
ضوء المنارة يُبزغ من جديد، مثل أمل لحياة جديدة،  وأنا أعود باحثا عن ضوء يجعلني أستقر هنا كجزيرة ترسل أضواءها لكل الجهات علها تجد أملا هنا أو هناك.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أبناء العزلة 

الأرجوحة