15-ديسمبر-2016

لاجئون سوريون أمام محطة السكك الحديدية ببودابست (Wikimedia)

أن نقول إن الهوية السورية تقوم على التعددية والاختلاف، هو أمر يؤدي تلقائيًا لتأسيس هوية مضطربة ومصابة بالفصام، الذي لا شفاء منه أبدًا.

التعدد والاختلاف يفهم فلسفيًا وسياسيًا. أما الهوية التي يفترض أنها جامعة للسوريين، والمشترك الأساس بينهم، فيجب أن تكون واضحة ومتجانسة، لا اختلاف داخلها ولا خلاف فيها، وإلا لن تكون هوية واحدة، وإنما هويات ناتجة عن مجمع هويات ستبقى واضحة، ضمن الهوية السورية التي ستبقى بأي حال شكلية.

إذا كانت الهوية السورية تقوم على المشتركات بين السوريين، فليس بين السوريين مشتركات سوى أنهم بشر وأفراد أحرار وعقلاء

لا يفترض بالهوية السورية أن تكون حاصل جمع أفقي لجماعات متجاورة في الجغرافيا، ومختلفة في مسائل جوهرية عديدة. إن الهوية بهذا المعنى التجميعي، لا تجمع الجماعات المختلفة والمتعددة في إطار شكلي فحسب، لكنها لن تحل محل أي هوية من الهويات التي تعرّف هذه الجماعات ذواتها بها.

اقرأ/ي أيضًا: درس سقوط حلب

إن ثيمة التعدد والاختلاف على جاذبيتها خلقت لغير هذا المجال، وهي للأسف ثيمة تستخدم من مراكز الاستشراق والأبحاث والجامعات الغربية للحفاظ على بلدان المشرق مفككة بعمق، بحيث يستحيل بناء هوية وطنية لأي من هذه البلدان، وبالتالي يستحيل بناء الدولة فيها، بحجة الحفاظ على التعددية، وبالتالي الحفاظ على خلافات المتعدد.

على الرغم من أن التعددية أمر محمود في الغرب، ويجري الحفاظ عليه بقوة. غير أنه في الشرق يجري دفعه باتجاه نبش الخلافات القديمة أو افتعال خلافات جديدة بين المتعدد، ودفع بيئاته إلى الاختلاف واستفراد أجهزة ودول بكل فئة على حدى، وتغذية عوامل الاختلاف والتناقض فيها تجاه بقية الوطن أو البلد وربما تسليحها.

لقد كان ملك فرنسا في القرن السادس عشر يخاطب ممثل الموارنة في جبل لبنان -يوم كان الجبل جزءًا من الجغرافيا السورية- كممثل للأمة المارونية، ولا شك أن روسيا فعلت الأمر عينه مع الأرثوذكس.

هذا ما أعطى لاحقًا مفهوم الأقليات المنتهكة المستضعفة مقابل الأكثرية القاهرة، والذي استتبع تدخلًا لدول أوروبية أو غير أوروبية لنصرة الأقليات في مواجهة الأكثرية، فكان أحد مبررات الاستعمار الحديث لعدد من البلدان.

أي هوية في عصر الأيديولوجيات الصاعدة أو المتآكلة؟
في المجتمعات الفاشلة كحال مجتمعنا السوري الآن لا يمكن اقتراح حل يزيد في فشل المجتمع وتوتراته. فكيف إذا كنا أمام انحلال الدولة، ومحاولات إقامة دويلات قومية أو دينية ناشئة، لتحل محل غياب الدولة أو طردها من بعض المناطق، وكيف إذا كنا أمام تدخلات دولية وإقليمية تغذي منطق الدويلات المتعددة المتناقضة، وليس المختلفة فحسب.

لاشك أن مفهوم التعددية والاختلاف قد يبدو مثاليًا في حال بحثه بنطاق المجتمع الألماني أو السويسري أو حتى الفرنسي والأمريكي. لكنه مفهوم متفجر في الحالة السورية.

فإذا كانت الهوية السورية تقوم على المشتركات بين السوريين، فليس بين السوريين مشتركات سوى أنهم بشر وأفراد أحرار وعقلاء يريدون العيش معًا بمساواة وعدالة وحرية وإخاء.

لكن السوريين الآن في حالة مرض عام بسبب تماهيهم في هوياتهم الجزئية المريضة. والانطلاق في الحديث عن هوية سورية من خلفيات هوياتية مختلفة هو أحد الأمراض التي نعاني منها.

اقرأ/ي أيضًا: جدارية يوم القيامة: حلب-القاهرة

لذلك يجب أن نمارس تحايلًا على المريض الذي يقول لك هذه هويتي لا أتنازل عنها. فالمريض النفسي مثلًا لا يتنازل عن مرضه لأنه تعايش معه لزمن طويل وصار جزءًا من كينونته. لنعترف بمرضنا كي نبرهن لأنفسنا أولًا أننا مستعدون للتخلص منه.

السوريون في حالة مرض بسبب تماهيهم في هوياتهم الجزئية. والحديث عن هوية من خلفيات هوياتية مختلفة هو أحد الأمراض التي نعاني منها

لقد تخلى مثقفون ينحدرون من كتل اجتماعية -اعتبرت مضادة للثورة- عن هذه الكتل التي ينتمون إليها بالولادة، بل قاموا بالهجوم عليها وفضحها.

هذا ما يجب على السوريين بالعموم فعله. أن ينحازوا إلى هويتهم السورية، وينسحبوا من الهويات الأخرى أيًا كانت. لكن هذا لا يكون إلا بفعل قناعة، بفائدة الانتماء إلى سورية، وبخطورة البقاء في فلك الهويات القديمة الجزئية أو الهويات الصغرى.

إذا كانت الهوية السورية والوطن السوري الجديد يقوم على المعرفة والإرادة وإرادة الأحرار العارفين، وليس الأحرار الجهلة، فلا بد أن تتحول معرفة الأحرار إلى إرادة للانسحاب أولًا من هويات قديمة متعددة مختلفة، إلى هوية جديدة حداثية جامعة.

اقرأ/ي أيضًا:
مائة ألف مدني يواجهون الموت في حلب
خسرنا النصر