22-يوليو-2018

محمد ايسياخم/ الجزائري

انهار ناجي على القاعة في الرّواق. وراح يبكي في وجعٍ أحسستُ أنّه انتقل إلى الجدران. فهجمت الجماعةُ على مدفأة الغاز، وراحت تضرب عليها بالأيدي، ما عدا مسعود، فقد انحاز إلى نفسه، جلس على مقعدٍ كان مرميًّا ومنح رأسَه خفيضًا ليديه.

كان وقعُ الأيدي على مدفأة الغاز يعلو بعلوّ بكاء ناجي. وكان خوفي من أن يزعجَ ذلك شريكي في الشّقّة رياض وطّار، فأشرتُ عليهم بأن ندخلَ إلى الصّالون، فنغلقَ الباب ونفتحَ الحكايات.

اقترحتُ هذا أيضًا لأقيس مدى تراجعهم عن قرار المغادرة. فسبقتُهم إلى الصّالون ورحتُ أنتظر، مثلما كانت عذراء الأثير تنتظر أن أعيدَ الاتصال بها، فراحتْ تطلبني في إلحاحٍ لم أدرِ هل أجعله يُزعجني أم يُفرحني. غير أنّني قرّرتُ ألّا أردّ عليها، حتّى لا أستفزَّهم، فتصبحَ المغادرةُ خيارًا مؤكّدًا. ماذا لو قرّرتْ هي أن تغادرَ أيضًا؟

لم أكدْ أقترح جوابًا لسؤالي ذاك، حتّى تشبّثَ ناجي بي من الخلف، إذ تعمّدتُ ألا أستديرَ إليهم تحريضًا لهم على أن يلحقوا بي، فلم أفهمْ هل فعل ذلك ليستدرجَهم إلى الدّخول، أم ليواصَل حكايتَه، التّي انتظر ثلاثَ سنواتٍ ليرويها.

قال: لم يتفطّنْ أبي إلى أنّ إغماض عينيّ لم يكن مؤشّرًا على نومي، بل كان فاتحةً لأكملَ في رأسي الحكاية، التي رواها لي، فطبع قبلةً على جبيني وانصرف إلى غرفته. (خَفَّ ضربُ الأيدي على مدفأة الغاز، فصار مرافقًا لحديث ناجي. وفهم هو الإشارة، فراح يضبط نبرتَه على إيقاعِه).

لطالما أخفينا عنك سببَ مرض جدّك بالقلب، حتّى لا تطرحَ مزيدًا من الأسئلة، فنضطرّ إمّا إلى إسكاتك وإمّا إلى تشويش ذهنك بما يتجاوز إدراكَه. لماذا تطرحُ كثيرًا من الأسئلة يا ولدي؟

ما من مسؤولٍ عن مرض جدّك سوى خالك الأصغر شعبان. هل تدري أنّ جدَّك أطلق عليه اسمَه نفسَه؟ قال إنّه جاء إلى الدّنيا رغم أنّ أمّه تجاوزت عتبة الإنجاب، وسيكون رفيقَه في أعوامه الأخيرة، فيرثَ عنه شجاعتَه وأخلاقَه.

لم يكنْ يضربه أو يسمح لأحدٍ بذلك. وكان يوصله إلى المدرسة، فيقبع عند بابها حتّى يخرج.

أنا نفسي لُمْتُه على أنّه يُفَشِّشُهُ فوق المطلوب، فقال لي، بعد أن رمى صحنَ الطّعام في وجهي، إنّه لا يسمح لي مرّةً أخرى بأن أعلّمَه كيف يُربّي ولدَه. لقد علّمه السّياقة قبل أن يبلغَ العاشرةَ! وكان يُرافقه إلى مكتب البريد عند رأس كلِّ شهر، فيضع مرتّبَ تقاعده في محفظته!

هل رأيتَ جدَّك يومًا ترك صلاةً؟ لكنّه لم يستطعْ أن يجعلَ شعبان يُصلّي. ولو أتيحَ له أن يتجنّبَ المضمضةَ في الوضوء، فلا يُبلّل ريقَه في رمضان لفعل، لكنّه لم يستطعْ أن يجعلَ شعبان يصوم. أقصد خالَك لا الشّهرَ الذّي يسبق رمضان. (كانت آخرَ ضحكةٍ رأيتُها من أبي).

أعلم أنّك تعتقد كوني لا أرافق أمَّك في زياراتها بسبب هوشةٍ مع جدّك شعبان. لم أشأ أن أصّححَ اعتقادَك حتّى لا تسألني عن خالك، الذي انتهك حرمة معطفي، فمدّ يدَه إلى ما فيه من نقود. طالبتُه بأن يعيدَها، فصبَّ عليّ شتيمةً من ذلك النّوع، الذي لا يقوله الإنسانُ حتّى مع نفسِه. نظرتُ إلى جدّك، فاكتفى بهزّ منكبيه ورأسِه!

سلبيتُه تلك في ردع شعبان دفعت خالَك الأكبرَ إلى أن يُغادر البيتَ إلى كندا، فلم نسمعْ عنه خبرًا إلى العام الماضي، حيث ظهر في إحدى القنوات بصفته مستشارًا لرئيس حكومة الكيبيك. وهي ما جعلتْ سكّانَ الحومة يُقاطعون جدَّك، فباتوا يتجنّبون حتى مكاتفتَه في المسجد.

صحيح أنّه كان ينصحه ويلومه ويترجّاه، لكنّه كان يتحوّل إلى وحشٍ مناصرٍ له، كلّما نَشَبَ مشكل بينه وبين غيره. (لماذا كان أستاذ الفيزياء، الذّي حرّض مسعود على أن يلتحقَ بالعمل المسلّح الوحيدَ، الذّي ترك الجماعةَ يضربون على مدفأة الغاز، وانتصب مثل عمود الكهرباء عند باب الصّالون؟).

عادت أمُّك من إحدى زياراتها، فنقلتْ لي خبرًا وصفتْه بالمدهش، حتّى قبل أن تخلعَ صبّاطَها: شعبان تَخَوْنَجَ يا عبد القادر! (ما بال أستاذ الفيزياء يكاد ينتفُ لحيتَه؟).

هل تعتقد أنّني اندهشتُ يا ناجي؟ أقسم إنّني فهمتُ، على الفور، أنّه أراد أن يُغيّرَ حقلَ سرقاته، من الحومة إلى تجمّعات الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وهذا ما تأكّدتُ منه بعد مدّة يسيرة. إذ دخلتْ أمُّك إلى غرفته، فوجدتْها مكتظّةً بالأحذية والسّاعات وأكياس النّقود، فقد انتشرت في تلك الفترة عقليةُ وضع النّقود في الأكياس. ثمّ دخلتْها بعد فترةٍ، فوجدتْه رفقة أستاذٍ كان يُدرّس الفيزياء في الثّانوية، يَخُطّان بياناتٍ تدعو إلى العصيان المدني. (ضرب أستاذ الفيزياء رأسَه، ففهمتُ أنّه المقصود. همّ بأن يتدخّلَ، فأشرتُ إليه بأن يتريّثَ. ما أصعب أن يبتسم الرّوائي للقاتل! بغيةَ طمأنته فلا ينسحب من الحكاية).

قلتُ لك إنّ تحوّل شعبان لم يدهشْني. ما أدهشني أنّني فتحتُ الباب يومًا، فوجدتُ جدَّك بطربوشه وبذلته التشونغاي وقفّة الدّوم، التّي تَسَعُ خيراتِ السّوق، رغم أنّها لا تتجاوز نصفَ ذراع.

لم يزرنا منذ متى يا ربّي؟ كان الحرجُ باديًا عليه. فرفعتُه عنه بأن بادرتُ رأسَه، وقلتُ لأمّك إنّ هناك بركةً كبيرةً تنتظرها عند الباب.

توقّعتُ أن تبكيَ هي، فسبقها هو إلى ذلك. وخاف أن يُفْهَمَ دمعُه على أنّه بسبب الشّوق إلى ابنته، وذاك مخلّ في عرفه، فسارع إلى الشّكوى من الشّوق إلى ولده.

ـ شعبان لم يعدْ يأتي إلى البيت يا عبد القادر.

 لم أشأ أن أغذّيَ قلقَه، بالقول إنّ اسمَه واسمَ صديقِه أستاذِ الفيزياء وردا ضمن قائمة المبحوث عنهم، فاكتفيتُ باللّجوء إلى الدّعاء وتوقّع الخير.

كنتُ أعرف أنّه من محبّي الشّاي. وأنّه قد يتوانى عن الخروج إلى الصّلاة، خاصّةً بعد أن قاطعه سكّانُ الحومة بسبب نصرته لمروق ولده، لكنّه لا يتوانى عن الخروج إلى السّوق لشراء النّعناع. لذلك اندهشتُ من كون أمّك أحضرت القهوة بدلًا من الشّاي. ثمّ نطّتْ دهشتي من عينيّ، فصارت أرنبًا برّيًا يقفز من زاويةٍ إلى أخرى، لأنّها أفلتت السّينية، بمجرّد أن سمعتْ طرقًا حَلّوفًا على الباب.

هل سبق لك أن قستَ المسافةَ بين الصّالون وباب الشّقّة؟ لقد ظهرتْ لي شبيهةً بالمسافة بين بيتنا وبيت جدّك. ولم أعثرْ على صوتي لأسألَ صاحبَ الطّرق المتواصل عن هوّيته، فرحتُ أطرق بدوري من الخلف.

فُتِحَ الباب أخيرًا! فلم أدرِ هل فتحتُه أنا أم كسره خالُك شعبان، الذّي ظهر بعينٍ مطفأةٍ وحاجبِ ممسوح إلى أعلى جبهته.

لم يمهل مسعود دهشتي لتمارس حقّها في التجلّي. حيث هجم على أستاذ الفيزياء، مثل لعنة غير متوقعة، فأرداه أرضا وراح يفشل محاولاته للتخلّص منه بلكمات هائجات إلى الوجه، فلا تكاد ترفع يده عن البقعة التي أصابتها حتى تزرقّ.

ـ أنت إذا شريك ذابح أختي. بقاؤك على قيد الحياة مرهون بأن تقودني إليه.

كيف لم تفلح يدا أمّه ويدا لطيفة ويدا فيروز ويدا عبد السلام الشّرطي ويداي في انتشاله من بين يديه؟

أصرّت عذراء الأثير على طلبي في الهاتف، فانسحبت لأغلقه تماما. وإذا به يصيح: "أسعفني يا عبد الرزاق مثلما أسعفتك قبل عشر سنوات". فكأنّه غرس مسمارا في ذاكرتي، جعلني أترك الهاتف يتوسّل واستدرت إليه:

ـ أنت كنت مع شعبان إذًا.

ـ وهل كان سيتركك حيا لو لم أقنعته أنا بأن يكتفي بترهيبك؟ ندم بعد انسحابنا، فتحجج بأنه أسقط مصحفه الصغير قربك، ولولا أنّ دورية للحرس البلدي ظهرت لنا عن بعد، لعاد فقتلك واسترجع مصحفه.

اعتقدت لوهلة أنّ العمارة ستنهار لقوة صرخة مسعود: بل هو مصحف أختي لطيفة. رأيته يحمله وهو خارج من عمارتها في سور الغزلان. التقطني من قدميّ حتى رأسي بعينه الوحيدة، ثمّ أطلق ساقيه للريح.

أخبرتك يا عبد الرزاق أن المشهد لم يعن لي شيئا في البداية، (أسعدني أنه أفلته والتفت إلي. فهو في النهاية صوت يهمني أن يبقى على قيد الاعتراف) لكن ما أن ربطت بين المصحف وهروبه، حتّى أدركت أنه آذى لطيفة. وأن رسالة التّهديد، التي وصلت إلى عبد السلام قبل ثلاثة أيام لم تكن عبثا. (ساح عبد السلام بظهره على الجدار، وما أن بلغ الأرض حتى ساح في البكاء).

 

اقرأ/ي أيضًا:

ورقة في مرسم

جدي الذي يسمع بأذن واحدة