30-مايو-2021

الصراع العثماني - الصفوي وآثاره في الشيعية في شمال بلاد الشام (ألترا صوت)

يتناول الباحث السوري محمد جمال باروت في كتابه "الصراع العثماني - الصفوي وآثاره في الشيعية في شمال بلاد الشام" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018) أطروحته من خلال دراسة معادلة "المتغيرات السابق والمستقل والتابع والوسيط"، في بيئة شيعة الشمال السوري في التاريخ العثماني الكلاسيكي (وقبيل الحديث) وجواره الإيراني.

مثلت هذه المتغيرات علائق متنوعة لدراسة بيئة البحث، وهي أساسه، ضمن الصراع بين إمبراطوريتين (العثمانية والإيرانية بتمثلاتها)، أو هيكليتين سلطانيتين، ثم تداخل الصراع بتأثير إمبراطوريات أخرى وليدة في المنطقة كالروسية والبريطانية. مثّل المتغير السابق حالة ما قبل الصراع.

يتناول محمد جمال باروت في كتابه "الصراع العثماني - الصفوي" أطروحته من خلال دراسة معادلة "المتغيرات السابق والمستقل والتابع والوسيط"

بينما كان المتغير المستقل هو الاقتصاد بالدرجة الأولى مترنّحًا بين طريق الحرير وآثار انهيار البحر الأبيض المتوسط، ومثّل المتغير الوسيط [الوعي بـ] السيادة (نطاق الدولة) خلدونيًا وحدودها وانقلابها في بعض الأحيان لمتغير مستقل، وأما المتغير التابع والأخطر الذي ولّد "الحضيض" هو مسألة تطييف الصراع والتأثير على بقية المتغيرات.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الحكومة العربية في دمشق".. الذكرى المئوية الأولى للدولة العربية

بُني الكتاب على خمسة أركان فصلية ومدخل، شرح في المدخل منهج طرح نظريته، بينما تدرج في الفصول الخمس في مسلك طرحه الكتاب، في الأول تشكل القزلباشية في الشمال السوري ومقدمات الحرب، في الثاني تطييف الحرب الأولى واندلاعها، في الثالث طور المأسسة السنية والشيعية، وفي الرابع طور الحروب الثانية والأطول، وفي الفصل الأخير خاتمة الصراع وفشل الصلح.

بنى الكاتب نظريته هذه على جمع من خلاصات الباحثين في الدراسات العثمانية والإيرانية بمجالاتهم المختلفة مثل خليل إينالجك وثريا فاروقي وعباس صباغ، مُجددًا إياها ومضيفًا عليها، واحتوى على عدد كبير من المدونات الإخبارية المعاصرة لفترة الصراع والأحداث، مُغطيًا النقص والندرة في وجود دراسة عربية للحالة الشيعية في الشمال السوري، حتى يمكن أن يقال أنّه استحق الترجمة إلى لغات أخرى غير العربية.

لا يمكن التغاضي عن اكتشاف ما يمكن أن يسمّيه كاتب هذا المقال عاملين مهمّين أشار باروت لهما ضمنيًا، التطييف والتسييس (وهل يُضاف لهما التجييش/العسكرة؟)، في ضوء ميزانٍ معلمِنٍ متعدد الأبعاد، التطييف هو اشتغال المؤسسة الدينية بفتاويها متغلبةً على الساسة، بينما التسييس هو رجحان كفّة/كفّات السلطان والجيش على تلك الفتاوى، وهكذا يمكن أن نخوض في مقالنا لبيان مقتنيات جواهر كتاب باروت.

بداية الحكاية

دخلت منطقة شمال بلاد الشام في ريحٍ صرصرٍ من الصراعات يُمهّد لها باروت بالحديث عن الصراع المملوكي الإلخاني، العثماني المملوكي، دولتي الشاة البيضاء والسوداء، العثماني الصفوي ثم العثماني الأفشاري، في هذه الجغرافيا المتنوعة ديموغرافيًا (طوائف وإثنيات وجماعات)، إذ كانت مدخلًا أساسيًا أثّر عليه اقتصاد طريق الحرير وتفرعّه في حلب وما حولها.

بيّن جمع من السياسات المتعلقة بـ"المتغير التابع" كقضية تسنين الشيعة وتشييع السنة وتطييف الحرب الاقتصادية العسكرية تارة، وأخرى خفوت التطييف لمصالح "برغماتية" مع عدم اختفاءه في التوازن المعلمن الذي يتقوى مع الزمن ضمن نمو مؤسستي دولة السلطان ودولة الفقهاء والمفتين أو مشيخة الإسلام والزعامة الروحية للدولة السلطانية بل حتى للحروفيين والجماعات المنشقّة.

تشكل القزلباش وطبول الحرب في حلب

قد يعتبر "القزلباش" مصطلحًا ذا مدلول "اجتماعيّ ديني" أكثر من كونه يدل على جماعة حروفية، استُعمل هذا اللفظ كتصنيف تطييفي لأكثر من تجمع ديني حمل صفات معينة في فتاوى التكفير المختلفة في شمال الشام، بحيث كان يرمز للمنبوذ عن الجماعة الدينية المؤسساتية.

ابتدأت المعضلة من وجود أكثرية شيعية في الشمال السوري حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر، شكلت مخزنًا بشريًا لإمبراطوريات تصارعت

ابتدأت المعضلة من وجود أكثرية شيعية في الشمال السوري حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر، شكلت مخزنًا بشريًا لإمبراطوريات تصارعت على "البيئة المفتاح" لطريق الحرير في المنطقة، واستكشف الباحث وجود تناقض في تحولات "الشيعية" بين سرديتي الشمال والجنوب الشامي لكون الأخير بعيدًا عن خاصية المفتاح الاقتصادي الحلبي عمومًا.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "يوميات عارف العارف".. شهادة مبكّرة عن إمارة شرق الأردن

حصل قمع خفيف بدايةً من السلطة في عدة نقاط من محيط الشمال الشامي مع نشوء استقطاب سني شيعي بين المعرة والفوعة، تولّد صراع بين إمبراطوريات عهد الأناضول القديم (سلطنتي الشاة البيضاء والشاة السوداء)، ثم تشكلت الفوضى التي جذبت الشيخ الجنيد الأردبيلي منفيًا لحلب لتولد الاردبيلية الجديدة (القزلباش).

تلاقح البدريين والحروفيين وأُعدم الغنوصي النسيمي ثم حصل تفاعل بين بيئتي جنوب الأناضول وشمال الشام غير المنفصلتين ومعه تشكّل "طرف دولة" جهادي في كلّس وأعزاز عن مراكز الإمبراطوريات الكبرى ولفت انتباهها.

اتضح أنّ خلفية الصراع العثماني - الصفوي ماثلة في الصراع القائم بين دولتي الشاة البيضاء السنية والشاة السوداء الشيعية. اللافت هنا هو نفي الجنيد الطُرُقي من دولة الشاة السوداء، المتماثلة معه في المذهب ذاته، ثم تشكيله لقوّته في حلب، ثم ليُحاكم فيها ويعود لدياربكر، ثم عودته ليتحالف مع دولة الشاه البيضاء السنية منتقمًا من الدولة الشيعية التي نفته من أردبيل بشكل يتضح فيه كون المتغير التابع أي التطييف في هذه الصراعات نوع من الوقود.

يُعد هذا التشكل أيضًا مؤثرًا في مقدمات الحرب إذ تلاه تكون مرحلة الخلفاء الأردبيليين وحصول تحالفات قبلية وانقسام طُرُقي لصالح التوازنات السياسية، وتشكّل الوجود العرفاني والفقهي ولعبت التقية دورها ثم تلاه بندول الصراع العثماني المملوكي والتهام الصفويين مراكز التشيع واستلاب الطرق غير السنية المنزوية عن الصراع المملوكي العثماني، ثم قيامهم بملئ فراغ دولة الشاة البيضاء وبدء عمليات التنظيف الطائفي واشتعال ثورة القزلباشية (الأردبيلية الجديدة) قبيل الحرب.

الحرب والسلم بين التسييس السلطاني والتطييف الديني والسلطان سليم

كما تبيّن سابقًا فإنّ محرّك الحرب الأبرز هو "المتغير المستقل" أي الدواعي الاقتصادية، تحالفت بالطبع مع دواعٍ مسبقة مجتمعية كجمع من البلاغات الاجتماعية والشكاوى على مستوى الانتهاك الطائفي المملوكي، وأخرى استراتيجية سياسية، وإبّان ذلك بيّن باروت ثبوت مذبحة الأناضول من قبل سليم الأول وعدم ثبوت مذابح حلب.

 

اتضح أنّ خلفية الصراع العثماني - الصفوي ماثلة في الصراع القائم بين دولتي الشاة البيضاء السنية والشاة السوداء الشيعية

صاحبت تلك الأطماع الاستراتيجية التي حرّكت أطراف الحرب، سواء كإمبراطوريتين إسلاميتين، أو المجتمعات الصغيرة التي كانت وقودها جمع من المحركات الميتافيزقية والتي اصطلح عليها بـ"حرب الرؤى والنبوءات" التي يُفهم من باروت كونها تُشكّل لنا مبحثًا شيقًا في فهم توجهات المتورطين (عبر تاريخ الذهنيات) في هذا الصراع الإقليمي.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "معرفة متنازع عليها".. النظرية الاجتماعية من منظور معاصر

صاحب ذلك المحركات الفقهية، فتاوى التبرير والتحريض (ابن كمال والزمبيلي)، حتى أن المشرّع العثماني أو السياسي لم يكن لديه مشكلة في توجيه حرب طُرُقية ضد طُرُقية أخرى؛ ابن عربي والرومي مقابل حروفية لا سنية أخرى، ثم استغلال الفراغ المملوكي بحلب بل الحلول محله بتأمينات سياسية واقتصادية ومجتمعية من مثيل تقديم طُرُقية جديدة، وحماية الدين من الكفار البرتغال، والعبث بالانقسام الطائفي القبلي الذاتي.

ويبين باروت أن ما حصل في الشمال الشامي هو تصفية الأعيان ونفيهم بدلًا من المذبحة التي انتقد وجودها في مصادر وُلدت بها نتاج خدعة الذاكرة لا التاريخ، بلغة الحوليات الفرنسية، وكذا وجود التخيل الطائفي والمتخيل الجماعاتي المؤثر على مثل هذه الدعاوى.

ويشير إلى التحول في الولاءات لشيوخ وأشراف من القطب الصفوي إلى القطب العثماني كحالة الشيخ البدليسي، يضاف لها وجود شيخ نشط كابن عوض/ابن حمزة الذي حوى اسمين لدوافع جاسوسية، كما يشير باروت، وكون هذا الأخير مضادًا للتوجهات العرفانية وغير السنية والطُرُقية مصطفًا لجانب المدرسيين الفقهاء، ولكنه سُجن بعهد السلطان قايتباي لأن هذا السلطان أراد استغلال الجماعات الطُرقية دون تشويش!

أثر متغير السيادة على التطييف والحرب الثانية وعصر سليمان

تبدأ مُمهدات الولوج إلى دراسة المتغير الوسيط وتحولاته التدريجية أي السيادة بمفهومها الكلاسيكي (نطاق الدولة)، وتسرّب السيطرة العثمانية إلى جنبات بلاد الشام وتشربها مشاكلها من خلال مسائل الضريبة والتعامل مع الجماعات الحرجة بالنسبة لها كالدروز والفتاوى المتعلقة بهم، مواجهة ولاية ذولقادر وخلفاء البدالسة.  

لم تكن لدى المشرّع العثماني أو السياسي مشكلة في توجيه حرب طُرُقية ضد طُرُقية أخرى؛ ابن عربي والرومي مقابل حروفية لا سنية أخرى

استحقت التقية دراسة خاصّة في السلم والحرب، كما يمكن الحديث عن شكل من أشكال مأسسة الدولة العثمانية، طبيعتها من خلال وجود انحياز أحد رؤساء الأطراف الطرقية في الشمال الشامي لأحد الطرفين (العثماني/الصفوي) عن الآخر ولو اختلف المذهب، سلاح المذهبة والتطييف المجتمعي وتحكم الدولة وجبرها وعنفها، بمفهوم دراسات "الدولة" الحديثة.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الفقيه والسلطان".. من حاجة إسلامية للعلمنة إلى فشل التحول الديمقراطي

ساهمت مأسسة نظام الدولة مثل مَذْهَبَةُ الطُرُق في العامل التابع (التطييف لحرب قادمة متوقعة)، وعلاقات السلطة والجيش والفتوى، أدوات الشرعية وصلاة الجمعة، التبديل بين فتوى التوريث الشافعية والحنفية بين العامل الاقتصادي ومصلحة الحرب، وتعيين قاضي حلب على أساسها، طبيعة القانون الامبراطوري (قانونامه آل عثمان) للسلطان سليمان وتجيير الفتوى للسياسي.

ومع كون السياسي طاغٍ على الديني، إلا أنّ المتغير التابع الديني "التطييف" -لخطورته- بقي المتحكم فكان يغلب بحكم نفوذ مؤسسة المشيخة المتصاعدة في القوة بحيث لم تستطع كل تلك الآليات السابقة انقاذ الشهيد الثاني زين الدين بن علي وغموض قتله؛ لنوع من التوازنات في الدولة يقابله عدم استكمال وعي السماحية تجاه الشهيد الثاني وإحساسه هو كذلك بالشعور الأقلّي، مع بقاء الفتاوى البرغماتية والتبريرية بين الطرفين مما جعله يتحرك بغموض أدّى إلى قتله.

من وُجهاء المأسسة في هذه الفترة هو أبو السعود وتطبع فتاوى المؤسسة العثمانية بين السلم والحرب، وأختها المؤسسة الشيعية -يمكن ذكر عدم تفريق وجيه كوثراني بين بُنية المؤسستين- التي تشكلت فتاويها بين الإمام الغائب، إمام الزمان، نائب الإمام والولي الفقيه فيما بعد، هذا بدوره طبع الانقسام المجتمعي الفقهي والطرقي في التشيعات الحلبية.

من أشكال هذه المهادنات البرغماتية هي سياسة تربية ابن جنبلاط العثمانية الذي عادى جدّه السلطة في يوم ما، ليُبعث ابنه فيما بعد متحركًا ضد الطرقيين أعداؤه آخذًا بانتقامه لصالح العثمانيين، ويستخدم العثمانيين هذه السياسية فيما بعد في تربية وريث صفوي ليواجه عرش نادر شاه المتضعضع، مع تشريع العثمانيين قضية قتل الإخوة منعًا لاستخدام هذا السلاح ليكون وباءً ووبالًا منتشرًا لمن يهدد السياسية العثمانية.

أشار باروت لحوادث قتل الخطباء والأعيان من مؤسستي السنة العثمانية والشيعة الصفوية للحروفيين الطرقيين، المواجهين للمركزة، بصفتهم أطراف جهاد ومعارضة، كذلك من مظاهر المأسسة هي الفصل بين المشيخة وفتاويها والدستور السلطاني وقوانينه، علاقة القانوني وأبي السعود، وطهماسب والكركي، ومصطلحات الحاكم المغتصب، الخارج، والإمام المتغلب والمستولي.

هيّأت ثورات داخلية عثمانية الحرب الجو لحرب عُظمى مقبلة، سلّط باروت الضوء بشكل مخصوص على علاقتي جانبولاط أوغلو الحلبي مع قلندر أوغلو الأناضولي

بيّن تحركات السلاطين وألاعيبهم في معادلة السيادة والمشروعية التي ظهرت في العراق وقبور ومقامات الأولياء، ومحاولة جرّ الشهيد الثاني لصالح العثمانية مع فشله للسبب السابق، والتفتين بين ورثة العرش الصفوي طهماسب وبين المسيحيين في أوروبا، تشكيل المؤلفات الفقهية التي تشرع الحكم بين كفتي الديني والسياسي.

بداية الانحدار: ثورات داخلية.. الحروب الأخيرة العظمى

هيّأت ثورات داخلية عثمانية الحرب الجو لحرب عُظمى مقبلة، سلّط باروت الضوء بشكل مخصوص على علاقتي جانبولاط أوغلو الحلبي مع قلندر أوغلو الأناضولي كرمزين في تلك الثورات الداخلية، وهنا تشاكلت المتغيرات المستقلة والتابعة وتبدّلت مثل دعاوى ودعايات المهدوية مع خلفية اقتصادية، وكما هو الحال في كل ثورة أو عصيان فإن هذا العامل نجده حاضرًا مع عوامل اجتماعية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "تاريخ التأريخ".. حفريات نقدية في اتجاهات التأريخ العربي ومناهجه

يضاف لها أبرز عامل تابع وهو سلاح تطييف الدولة المقصود وغير المقصود للتفريق بين القزلباشي كـ"كافر" والجلالية والجنبلاطية كـ"بغاة لا كفّار"، هذا أدّى بابن جنبلاط للتأثير على والمساس بـ"المتغير المستقل العثماني" أي الاقتصاد من جهة، والسيادة كونها عاملًا وسيطًا منتقل لمستقل.

أبرز الباحث مسألة تجييش السلطان مراد لفتوى قمع الثوران وتسيير الحملات المناسبة بعدم تحققها على الوجه المطلوب من بعض المفتين حتى استوت الفتوى على جوديّ مفتي قونية "نوح الحنفي" كما تعرض هنا للأعداد وإحصائيات المذابح بين المتخيل والتاريخ. وتحرّك بندول الرضا العثماني بين الدرزية المعنية والشهابية.

ولجت العثمانية في مرحلة تآكل بعد الثورات الجلالية وحرب المعني (اللبناني) إبان حرب العثمانيين في أوروبا، ثم وقوع خيار إعطاء الدولة الأمان للجماعة غير السنية الحاكمة ولو لم يرض الشيوخ كنوع من علمنة القرار، كذلك بيّن مسألة الفتوى والحالة الاجتماعية بين التطييف والتسييس.

انتقلت المأسسة الدينية للمشيخة من تجييشها في حالة الحرب للمتغير التابع (التطييف) إلى المأسسة في المتغير المستقل ("نوعٌ" من الرخاء الاقتصادي) في عهد محمد الرابع أي الولوج في عهد فقهي مختلف وبيّن باروت نقد الشيخ مصطفى الزرقا لأساليب مدونات الفقه آنذاك.

تبادل المتغيرات والتسوية العثمانية الأفشارية

اكتنه باروت التحول المهم في المتغيرات وبيّن أثر اختفاء طريق الحرير وبروز أثر معاهدة "قصر شيرين" وولوج الإمبراطورية في ما يشبه تمثلات الدولة الحديثة بالتماهي مع ما حصل في أوروبا (ويسفاليا) في تقدّم المتغير الوسيط (السيادة) خطوة أخرى إلى "مستقل"، وأشار لتحول طفيف في التطييف إلى متغير مستقل.

أدى انقراض طريق الحرير القديم و"انحطاط المتوسط" لصالح الأطلسي إلى تهميش حلب مع تقليل أكثريتها الطائفية المتنوعة

هنا بدا وكأن التطييف بات له دور مستمر، وبعد مرحلة تبادل المتغيرين المستقلين (السيادة والحرير) بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، برز بعدها عامل السيادة منفردًا في الساحة، بالطبع الفتاوى تتغير تباعًا لذلك وهيئة المشيخة الحاكمة في طرفي الصراع.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج": ترميمُ الذاكرةِ في دولةِ المؤرخين

أدى انقراض طريق الحرير القديم و"انحطاط المتوسط" لصالح الأطلسي -بلغة بروديل- إلى تهميش حلب مع تقليل أكثريتها الطائفية المتنوعة وذلك راجع لعوامل تاريخية، مثل بروز اللاعب الروسيّ والإنكليزي وبرزو مشروعهما في الهند وتوسع بنية التجارة الأوروبية.

أضف لذلك تحطيم الدولة الصفوية إلى كيان مضطرب تآكل بالتدريج نتاج تداخل "المتغيرات" كوجود دعاوى سابقة من السلالة الصفوية ومعضلة منح (شرعنة) الفتاوى للحاكم الجديد ومنعها عنه، وشكل الحاكم الأفشاري المختلف عن الصفوي الذي يريد التجديد في بنية الدولة والفتوى ومواجهته لتيارات دينية واجتماعية وعسكرية.

ساهم بروز المتغير الوسيط (السيادة) كمتغير مستقل بالحدّ من أطماع طرفي الصراع مع مساعدة المتغير التابع (التطييف) بتحطيم كل شيء مما يمكن أن يصطلح كاتب هذا المقال بتسميته مقدمات الدولة الحديثة غير الواعية في التعامل مع المسألة الطائفية فيما بعد، وهو ما يريد باروت إبراز جذوره كمشكلة لدولة القرن العشرين، مع احترام الفوارق.

كانت خبرة نادر شاه وحسه بالخوف على مكانته ولّدت لديه حس العبث بالمتغير التابع الذي منعه من تسوية مشروعه لصالح متغير السيادة نتاج عدم امتلاكه لدعوى قديمة كالصفويين ولا العثمانيين، ومع كونه كالروس في عدم وجود تلك الدعوى إلا أن مكانته الاستراتيجية حددت مشروعه، تكريس وترسيخ المذهب الجعفري كمذهب خامس معترف به لدى الطرفين.

يعني أن درجة وعيه/خبرته بمعنى التسوية السياسية، والنظرة السيادية للدولة، وتعديه من فوق الفتاوى القديمة، كانت أرفع من الحالة العثمانية التي سيطر عليها مخاوف متداخلة، خلع أحمد الثالث، وتنصيب محمود الأول واحتياجه كسلطان جديد لتسويات ما، وضغط المشيخة كلها ظروف ساهمت في تراجع العثمانيين عن هكذا تسوية، وعن فشلها في المحصلة (مشكلات القرن الثامن عشر).

حصلت محاولات في إيران لتحويل العرفانية إلى مذهبية، بينما برزت تناطحات الأخباريين والمجتهدين مع استمرار جبهة محاربة القزلباش العرفاني

حصلت محاولات في إيران لتحويل العرفانية إلى مذهبية، بينما برزت بشكل واضح تناطحات الأخباريين والمجتهدين مع استمرار جبهة محاربة القزلباش العرفاني، وتصنيع الأدلجة الصفوية بالعجم وتأصيل عروبتها لآل البيت نيلًا لروح مشرعنة لحدود السيادة، لكن مع ذلك كان للمؤسسة العثمانية سبقًا في ترتيب الفوضى المشيخية بالنسبة للشيعة الإيرانيين، أي الحديث عن "شرح ملتقى الأبحر" في عهد محمد الرابع. ثم بعده بأشواط "بحار الأنوار" المتأخر للمجلسي.

اقرأ/ي أيضًا: مختارات سياسية من مجلة "المنار" لرشيد رضا: الفقيهُ المُبَرِّر والشيخُ الحائر

أي أن الانقسام الشيعي الداخلي الفقهائي منع تثبيت الاجتهاد الحاصل عند العثمانيين الذي استقرّ/ركد الحال عندهم، وفي هذه النقطة قد تكون إيجابية كنوع من تجديد ديني شيعي ممكن، وسلبي في تواجد نوع من النزاع الداخلي، لكن نادر شاه لم يكن ذلك الزعيم الإصلاحي صاحب النظرة المتقدمة بكل تأكيد فهو أعدم الشيخ "ملا باشي" ليُمرّ مشروعه.

فشل التسوية الذريع والحضيض

تولّد في إيران الصراع بين ضروريّ المذهب وضروريّ الدين، وبينما حُسمت -إلى حد ما- هذه المسألة لدى العثمانيين منذ زمن، فكان الصراع العثماني يُعنى بالدرجة الأولى بتحييد المذهب الخامس رغم تقدّم الصدر الأعظم العثماني راغب باشا في المحادثات بين الطرفين، إلا أن الوعي بدا متأخرًا لأطراف دينية وسياسية أخرى لمثل هذه التسوية.

لا يمكن نسيان سياق مصيبة الطرفين، مشكلات أوروبا بالنسبة للعثمانيين والمشاكل الداخلية الأفشارية، وأرسل العثمانيين صفي الدين ميرزا الوريث الصفوي كرسالة ضمنية لنادر شاه بعدم احتياجهم لمثل هذه التسوية وختام هذه التسوية بحرب الموصل 1746 بعد محادثات استمرت لمدة عشر سنوات هي مدة حكم نادر شاه حيث انتهت بحربٍ وبوفاته.

يختم باروت كتابه بقسمٍ عَنْوَنَهُ بـ"الحضيض" ويتبين أن المتغير التابع (التطييف) كان المسيطر الأبرز على سائر العوامل، ثم تفعّل المتغير الوسيط (السيادة) منذ خمسينيات القرن السادس عشر، كما أن الحرب الأهلية الداخلية أنهكت كلا الطرفين ولعبت دورها في التأثير على المتغير الوسيط الذي نتجت ثمرته في معاهدة شيرين 1639، لتحصل بعدها عقدة العثمانيين الأكبر في معاهدة كارلوفيتسا(1699) على إثر هزيمة العثمانيين الكبرى في أوروبا، وليستيقظوا على الوجود الأوروبيّ كما يشير لذلك خالد زيادة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "السلطة والمجتمع" تفكيك الذاكرة ورصد التاريخ السوري

كتاب "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين".. تشريح المكان والتاريخ