30-يناير-2021

كتاب "تاريخ التأريخ: اتجاهات، مدارس، مناهج"

أفتَتِحُ الحديث عن هذا الكتاب الماتع، عالي النقد، بمقولة وجيه كوثراني ذاته في عرضه لكتاب عبد المجيد قدوري، حول مسألة التجاوز بين بلاد المغرب وأوروبا: "أحاول توخي تقديم موجزٍ من عرضي هذا، أُبرز فيه أهم محاور كتابه وفرضياته، على أن هذه المراجعة تبقى جزءًا من قراءة ذاتية، لا تلغي أهمية التفاصيل والواقعات والشروحات الكثيرة وقراءاته – الضمنية – للمصادر المتنوعة"، وابتداره فلسفة نقدية لتاريخ التأريخ التي أرجو من القارئ الكريم تحمل طولها، وذلك لوزن هذا الكتاب في البحث التاريخي.

يُمترِس وجيه كوثراني في مقتبل القسم الأول من كتابه تطور الفكر التاريخي عند المسلمين، ويتساءل حول سبب ضخامة هذا التاريخ

كتابنا الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، تحت عنوان "تاريخ التأريخ: اتجاهات، مدارس، مناهج" بطبعته الثانية عام 2013، دوّنه المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني في القرن الحادي والعشرين، ليضع من خلاله أساسًا منهجيًا في النظرة التاريخية لمسيرة التأريخ العربية، ومكانتها في جوقات أوروبا عمومًا، والمدرسة الفرنسية خصوصًا. وقد ساقه العمل عليه على مدد طِوال من القرن العشرين، صاحبت اشتغاله وقراءاته المتعددة ذات الأبعاد المختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: مبضع "الذاكرة والتاريخ" في القرن العشرين الطويل: معالم النقد عند وجيه كوثراني

يضم الكتاب خمسة عشر فصلًا موزعًا على 400 صفحة وثلاثة أقسام، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، وهو كتاب جُبِلَ على طبيعةٍ قد تكون "مُحرضة" على الثورة لكل من يقوم بقراءته، إن كان على إشكاليات الكتاب وأطروحاته، أو حتى ضد التدوينات التاريخية التي يختلف الكتاب معها، لا سيما وأنه ينطوي على "عدوى" بحثية نقدية، تستدعي تثوير دارسي التاريخ وطلبته ومحبيه على إعادة النظر مجددًا في كل ما يمس هذا الحقل.

تاريخ أم أسطور؟

طاف وجيه كوثراني في مقدمة الكتاب على مقدماتٍ أولية لا تخفى على أي باحثٍ في التاريخ، إذ إنها تستدعي انتباهه بشكلٍ يحول دون انخداعه في الثبات بوجه ديمومة وحيوية هذا المجال البحثي. وتطرقت هذه المقدمات أيضًا إلى تفاصيل من عناصر المعرفة، مثل الاستقراء والاستنباط وماهيتَي "الطريقة والحقل"، بالإضافة إلى علمية التاريخ من حيث كونه تدوين ومنهجية.

وأضاف المؤلف إليه بيانًا أوليًّا مبسطًا قبل الخوض فيه حول تطور فكرة التاريخ، وحلحلة ألفاظه ولغوياته عبر ثقافاتٍ متعددة، وتطور لفظة التاريخ في الأدبيات المختلفة، وموضعة البنية الخلدونية وضرب مثال عليها عند السخاوي، بالإضافة إلى تطرقه إلى مسألة دقة ترجمة كلمة "الهيستوري" اللاتينية إلى "التاريخ" بالعربية، ناهيك عن تساؤله حول سبب غض الطرف عن "الأسطورة" بمعناها العام، ودور الفقهاء وأصحاب التأويل في ذلك، وفتح باب الشك والتجديد أيضًا. ويمكن أن يستحثّ مما سبق تسمية مجلة الدراسات التاريخية "أسطور"، الصادرة عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كنوعٍ من المسائلة.

احتوى القسم الأول من الكتاب على مسيرة التأريخ العربي، منذ نعومة تدوينه وحتى اشتداده عبر مراحل متعددة ومتداخلة، تبدأ بمرحلة الإسناد الحديثي، مرورًا بالخلدونية وحتى الكتابة التاريخية في الحداثة، وصولًا إلى العصر الراهن. فيما يضم القسم الثاني مقدمة طويلة حول تطور التأريخ الغربي، مع التشديد على النموذج الفرنسي الرائد. أمّا القسم الثالث، فقدّم فيه قراءات متنوعة لمؤرخين عرب كنماذج عملية للفصلين السابقين، وخَتَم بمساءلة ماهية التأريخ، وكنه "التاريخ الجديد".

بيّن وجيه كوثراني تعدد الاتجاهات في التأريخ العربي، وتأثرها في طبيعة قراءة التراث، وكذا في التعامل مع المناهج الغربية

تضخيم التاريخ الإسلامي

يُمترِس كوثراني في مقتبل القسم الأول تطور الفكر التاريخي عند المسلمين، ويتساءل حول سبب ضخامة هذا التاريخ، ويبحث في بُنى السياسة والمجتمع والحرب ودواعي التدوين أيضًا، كتأريخ عمر بن الخطاب والنسّابة والمفاخر الثقافية وتشجيع الزعماء له، والفعل الشعوبي ورده "العروبي". ولم يغفل المؤرخ اللبناني في هذا السياق تكشيف موضة الوراقين، والحديث عن الطبيعة الإسلامية وتاريخ علومها الدينية التي ساهمت في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "مسألة الحرب العادلة في الإسلام".. من الجهاد إلى الحرب المقدسة

ويبيّن المؤلف، كنوعٍ من التنظير المنهجي، بنية "وحدة الخبر" و"السنة الحولية" للتأريخ الكلاسيكي الإسلامي، وطبائع التاريخ الكلاسيكي "العالمي"، مع وضع الاختلافات فيما بينها لكتّاب مسلمين ومسيحيين ويهود، بالإضافة إلى مظاهر التاريخ المحلي للمدن والأقاليم الذي ربطه بنشوء التقطع في جسد الدولة، وبروز الانتماءات الإقليمية. كما وكشف في الوقت نفسه عن صرعة "التأريخ لأزمنة معاصرة"، وهي صرعة شبيهة باليوميات والمذكرات – بل قد تكون هي ذاتها – تحوم غالبًا حول الآداب السلطانية والولايات الدينية.

وأشار صاحب "الفقيه والسلطان" في هذا السياق إلى موضوعات التاريخ "المقطع"، بما هي حقول بحثية غنية كالأنساب والسلالات الحاكمة، والتراجم والطبقات والأعلام، مثل الجغرافيا والفلسفة والحكمة، ومن ثم السياسة والإدارة والاجتماع. كما ونوّه بابن خلدون بشأن استقلالية التاريخ كعلم في تلك الموضوعات، وتحدث عن قراءات معاصرة لهذا النمط، مثل عبد العزيز الدوري (الإخباريين والحديثيين)، فرانز روزنتال (نمط ونوع وصور التأريخ)، وشاكر مصطفى (المؤرخين في الأقاليم والموسوعية).

مفارقة "فقه" ابن خلدون و"فهم" أسد رستم للعلاقة بين الإسناد والتأريخ

رسم وجيه كوثراني في القسم الأول مسألة غاية في الأهمية في منهجية قراءة التاريخ، وهي موضعة كل من اعتباري ابن خلدون وأسد رستم لأدوات استخدام الإسناد في علم الحديث، الجرح والتعديل في التأريخ، التي تنجرّ على الكثير من القضايا، دون أن تقتصر على هذه المسألة فقط.

وبحسب رأيه، كشفت تجربة أسد رستم المفصلة فهمها في البيئة الوضعانية، وأثرها الغربي في نقد الوثيقة أيضًا، حيث وجد رستم هذا التشابه فأخذه بعين الاعتبار، بينما مالت تجربة ابن خلدون في انتقال علوم الإسناد، إلى نوعٍ من الانحدار عن العصر الذهبي التي ولدت فيه، مما جعله ينتقد استعمالها في التأريخ لكون ابن خلدون نال من الجانب الضعيف للإسناد، فيما نظر أسد رستم إليه في عصره الذهبي، وأشار إلى أن ابن خلدون ولِد في عصر انحلالها. هكذا، يفكك كوثراني فهم المفارقة في "عبقرية" ابن خلدون في نقد استعمال الإسناد في التأريخ، وقبوله عند رستم.  

موضعة ابن خلدون بين المدرسية والمحدودية والتجاوز

يؤيد الكاتب اجتهاد طريف الخالدي، بالعموم، في "قببه المعرفية" حول كون ابن خلدون: "نجمًا ساطعًا في سماء الحضارة العربية، ولم يكن حالة فريدة أو مفاجئة في مسار التأريخ العربي أو كما يرى بعض المستشرقين، ولكنه تتويجًا طبيعيًا لتراكم". وبيّن في الوقت نفسه فكرة عدم وجود وريث بعده بالمعنى المدرسي، ولكنه أشار أيضًا إلى وجود الحس الخلدوني بشكلٍ عام، ضاربًا من الجبرتي في القرن الثامن عشر مثالًا على ذلك. ويشير في محاضرة له حول نزعة ابن خلدون إلى كونه مؤرخًا فقيهًا أكثر من كونه مؤرخًا فيلسوفًا، لافًتا إلى قربه في ذلك من القياس والقضاء ودورهما في تشكيل تأريخه.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما ساهم في ولادة ابن خلدون، بطبيعة الحال، هو تقلص الحس النقدي في حدود الجرح والتعديل، وتشكل جدوى العمران لديه ضمن بيئة مدونات الجغرافيا والرحلات والفقه السياسي، وهي عوامل جعلته يتقمص دعوى تأسيس "جديد" للتاريخ بالعمران، ناتج بدوره عن حالة الفراغ السياسي والبيئة القضائية والاجتماعية العامة، بالإضافة إلى إفادته الأكيدة من المؤلفات المختلفة، مثل "تجارب الأمم" وغيرها من المؤلفات التي تُعد بحق مصادر ابن خلدون، ووجوده في رحم الدولة.

هنالك أيضًا تداخل بين ابن خلدون الأشعري الإخباري من جهة، والناقد العقلاني من جهةٍ أخرى، وذلك في سياق الحاجة لوضع الأطر للمفاهيم التي انتقدها ابن خلدون، كالأمة والدولة في الإسلام. وعلى الرغم من كونها حبيسة الأيديولوجيا، إلا أن ابن خلدون أثبت أنه "ابن عصره"، وهو ما كشفه المؤلف في "المواقف الحساسة" التي تُبيّن حقيقة "النقد في التأريخ الخلدوني"، مثل مقتل عثمان، وتبرير الملكية الاقتصادية للصحابة، والملك السياسي العاضّ لمعاوية، دون أن يخفي هنا استفادته من عزيز العظمة.

التراث العربي الإسلامي والغرب في اتجاهات التأريخ العربي

بيّن مؤلف "السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني" في منتهى القسم الأول، تعدد الاتجاهات في التأريخ العربي، وتأثرها في طبيعة قراءة التراث، وكذا في التعامل مع المناهج الغربية. وتحدث هنا أيضًا عن مجموعة من تلك الاتجاهات، مثل حالة قومنة التاريخ الإسلامي "التاريخانية المحافظة القومية"، عند صالح أحمد العلي وعبد العزيز الدوري من جانبين، كونها قوية البنية جديدة التحليل من جهة، وحاملة لخطاب الأدلجة في التاريخ والحاضر من جهةٍ أخرى.

تناول وجيه كوثراني ماهية النقد في العصور الوسطى، وأثر النهضة في تشكيل بنية التاريخ في عصر الحداثة، والشك في الماضي ومسائلته

ويضيف هنا حالة أخرى إلى ما سبق، هي معالم "ثورنة" التاريخ الإسلامي التي تتجلى في "التاريخانية الثورية الماركسية"، عبر تثوير قضايا مختلفة، مثل ثورة الزنج وما انضوى تحت هذه العناوين، والتي كانت أقل غزارة نتيجة تواجد نوع من الفشل في مشاريع اليسار آنذاك.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي".. من الهوية إلى المعنى

بالنسبة "للتاريخانية الإسلامية التوليفية" التي نشأت بين تينك الاتجاهين، مع اتجاهٍ رابع هو "العلموي المدعي الموضوعية والحياد"، فإنها ليس مشكلة من ناحية وجودها في التاريخ، بالقدر الذي تضفي فيه "أطر حاضرة على أزمنة ماضية قد لا تحتويها"، أي أنها تعمل عمل المؤرخ القومي في التاريخ، فضلًا عن كونها "تتماثل" مع نماذج أوروبية، كما يشير، كملاحظة أسد رستم في قراءة "الإسناد" مثلًا، ويبقى ذلك محتوىً ضمن بنية الفكر الإنساني المشترك، لحل أزمات التاريخ في مشتركاته.

ولا يخفي وجيه كوثراني حديثه أيضًا عن وجود اتجاهات ناقدة لتلك التوجهات المؤدجلة، ضاربًا من هشام جعيط وغيره مثالًا على ذلك، عبر تقديمه الكثير من تساؤلات المؤرخ العربي حول الاجتماع والعمران.

الغرب والنموذج الفرنسي

ابتدأ المؤرخ اللبناني الحديث في القسم الثاني حول نقد ماهية العصور الوسطى، وأثر النهضة في تشكيل بنية التاريخ في عصر الحداثة، والشك في الماضي ومسائلته، وهي مسائل تبرز من خلال آراء نيكولو مكيافيلّي وجون لوك وغيرهما حول قضايا السياسة والتأريخ لها، عبر الأخذ من الماضي نقدً وإبعادًا للإرادة الفوقية العلوية لها، بالإضافة إلى عوامل الصدامات الأخرى كالمذهبية والحروب السياسية والاجتماعية، والاستكشاف المتنوع الذي ولّد الفضول والتأثر بـ "الغير".

وتطرّق أيضًا إلى استوائها في القرن الثامن عشر، على يد من يُسمّون بفلاسفة الاجتماع (مؤسسي فلسفة التاريخ الحديثة فيما بعد)، مثل فيكو وفولتير ومونتسيكو وروسو، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن نظرة كوثراني لهؤلاء هي نظرة نقدية لا زالت، رغم كونها واعية للتاريخ، تحوم حول "السياسة مع التاريخ"، باعتباره باعث في تحليل المجتمع، وشرط من شروط نشوء الأسس النقدية العقلانية الوضعانية للتاريخ في القرن التالي، التاسع عشر، والتي يمكن القول إنها توجت بالنزعة التجريبية الناشئة في جزء منها في بريطانيا، بالإضافة إلى بعض الدراسات الاقتصادية مثل "الأثر الجليل" لآدم سميث، والثورة الفرنسية والردود الرومانسية الألمانية لأمثال يوهان جوتفريد هيردر.

ينتقد وجيه كوثراني بنيوية الجابري الجريئة ومنهجه التأريخي القائم على تعميم أسئلة النهضة على بنية نهضوية أو نمط فكري ونص تراثي واحد

السياسة والحرب منتجةً للمنهج التاريخي

تشكلت جذور المدارس الوضعانية في ألمانيا وفرنسا من خلال أساس نقد النصوص والوثائق، وكان لها طابعًا قوميًا أيديولوجيًا، كما بيّن كوثراني سجال البنيوية والتاريخانية، لافتًا إلى الكيفية التي ساهمت في تشكيل النموذج الفرنسي في القرن العشرين، بعد النقد المقدّم لـ "المجلة التاريخية" والمدرسة المنهجية التي لم تحقق دعواها في "الموضوعية والحيادية" في القرن السابق له، وبَنت أدلجة القومية والعلمانية ضد الكاثوليكية من جهة، وضد القومية الألمانية من جهةٍ أخرى.  

اقرأ/ي أيضًا: عزاءات العقل إزاء فداحة الواقع المعاش

ودفعت الحرب العالمية الأولى، في هذا السياق، مدرسة الحوليات للاهتمام بالحدث السياسي والتأريخ الفردي له مع المؤسسين الأوائل، مثل مارك بلوخ ولوسيان فيبر، فيما يمكن اعتبار الحرب العالمية الثانية المسؤولة عن دفع فرناد بروديل للتأريخ للحدث السياسي، ولكن هذه المرة مع قبول حذر ضمن هرمية الزمن الطويل.

لا يمكن إغفال التاريخانية الماركسية "المادية"، المتطورة والمتفتتة مع الزمن من ماركس وحتى غرامشي آنذاك، في التأريخ وأثرها في التنظير على الحولياتية، لا سيما حول اعتبار المجتمع المدني منتج الدولة، مع بيان مفهوم نمط الإنتاج ومراحله الشهيرة والاقتصاد والطبقات والثورة الاجتماعية أيضًا، وهي عوامل ومسائل بيّن كوثراني عبرها التداخل الصعب في المدارس التاريخية الغربية.

ويحصل هذا التداخل مع دقّة الانتباه لعدم حصول المفارقة الزمنية كذلك، حتى أنّه ملحوظ، كما تقدّم، عند فهم رستم لمعنى الإسناد، لذلك فالتداخل وارد بين المفاهيم للتاريخ، ولكن ضمن شروط ظروفه.

تطبّعت مدرسة الحوليات كذلك بالطرز الدوركهايمي والفيبري (نسبة إلى إميل دوركهايم وماكس فيبر)، ولكنها أنتجت نوعًا من التبلور الخاصّ بين التاريخ والاجتماع. وتنوعت تشكيلة الحوليات عبر قراءة التاريخ من خلال التخصصات المشتركة، أكثر من كونها وجوب إلمام المؤرخ الواحد بتخصصات ما فقط، مع الاعتراف بضرورة ذلك. واعتبرت الدعوى العامة في نهاية المطاف عدم الاكتفاء بالتأريخ "الحدثي"، ورفده بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى تاريخ البنى في الزمن الطويل.

جُبِلَ كتاب وجيه كوثراني "تاريخ التأريخ" على طبيعة قد تكون مُحرضة على الثورة لكل من يقوم بقراءته

ويقدّم وجيه كوثراني، في نهاية القسم الثاني من الكتاب، قراءة عميقة للتشاكل حول مفهوم "البنية" بين الإثنولوجي ليفي ستراوس، والحولياتي – إن صح التعبير – بروديل على وجه الخصوص، وهو ما يظهر ضمن مفهوم المنهجية وفلسفة التاريخ عمومًا، حيث يبيّن أن البنية لدى الأول بنية "تحت الواقع، ضمنية"، بينما عند الأخير "حية ومتحركة بسرعات زمنية مختلفة"، وذلك بخلاف الماركسية التي حددت وجود "بنى تحتية وفوقية" قد تكون مختزلة أمام ما بيّنه بروديل، كمفهوم ثالث يضاف لهما.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة عن دراسات الانتقال الديمقراطي.. مقارباتها وتقاطعاتها النظرية

من نقد أستاذه زريق عبر حلب البقرة لدى زيادة وحتى تغريد نور الدين خارج السرب

في القسم الثالث من الكتاب، يعرض من قدّم "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين"، مجموعة غنية من تقديمات الكتب المختارة، يبدأها بأستاذه اللبناني قسطنطين زريق الذي مهّد لوجودٍ تأريخي عربي علموي غير مؤدلج، ومخالف للتفسير الديني والقومي والماركسي، عبر نظرة تحوي الثنائيات المعهودة بين الماضي والحاضر، أي القديم والجديد، أو العلماني والثيوقراطي، الحداثي والتقليدي.. إلخ. بالإضافة إلى نقده لما أسماه أحد أنواع القطيعة في الزمن بين تلك الثنائيات "ماديًا"، وفي عدم صيرورته "أنطولوجيًا"، ونسبية ومعيارية العلموية، ويمكن مشاهدة تقديمه نقد زريق للماركسية في أحاديتها، بينما زريق عينه يدعو لنوع من العقلانية الأحادية!

ثم يتوجه إلى نقولا زيادة، الفلسطيني ابن النهضة العربية الحديثة في تدوينه التاريخ، حيث يعرض لمناقشته الشيقة حول الأسطورة بمعناها العام، والحديث عن الوصال التاريخي بين الحضارات، واستكشافه التاريخي للعرب ما قبل الإسلام وما بعده، باعتباره أنموذجًا متأثرًا في توينبي، بالإضافة إلى استعراض آراءه في اكتشاف الغرب للشرق، و"حلبهم للبقرة".

وتطرق كوثراني في حديثه عنه إلى أسلوبه الكتابي في إمتاع القارئ ومؤانسته، وارتباط ذلك كله بخلقته اللطيفة الخفيفة التي تتقبلها النفس، ووسطيته واعتداله في التعامل مع الآخر، وبعده عن التوغل، وحذره من فسلفة التاريخ، معتبرًا أن ذلك نتيجة تركيزه على حقول التاريخ والجغرافيا والأدب بمعناها الأعم، ونسيان مؤلفات ماركسية ناقدة، بالإضافة إلى موقفه العدمي من "العبرة" من التاريخ، عدا عن اليأس والأسى و"الأزمة الفكرية والروحية في حياته"، حول القومية العربية وغياب التاريخ.

ينتقل بعد ذلك إلى العراقي عبد العزيز الدوري ليبين امتلاكه لـ"ريادة تجديدية وفائدة مرجعية وإشكالية تساؤلية" في الطرح، والغوص العميق والصعب في المصادر القديمة التراثية والحديثة الاستشراقية، وإنتاج معارف اقتصادية من منظور حديث من المادة التاريخية الوثائقية، دون أن يغفل عن نقد تجاهله لروزنتال ورستم. ويلتمس كوثراني في هذا السياق للدوري، خلال الستينيات، بيان الذاكرة والتاريخ والمفارقة، بينما يلتمس، خلال الثمانينيات وما بعدها، النقلة التي حدثت في تجربته، ولكن دون تخرجها من حيز القومية ومعالجة مسائل الدولة القومية والوطنية، كما وبيّن قراءة الدوري للتأريخ الإسلامي بناءً على التقسيمات التالية: الإسلامي، القبلي، الحديثي، والإخباري.

أبدى وجيه كوثراني إعجابه بالخالدي والسيّد وقدوّري، أكثر مما هو الحال بالنسبة إلى الدوري وشرف وزريق والجابري الذي انتقده صراحةً

زين نور الدين زين، العربي اللاعربي، الذي قد يكون ساهم وعيه الذاتي لأصوله غير العربية: الفارسية، واستكشاف كوثراني له منذ أيام الدراسة، وبحثه في الحركات والتحزبات السرية، ساهم في تشكيل "الصدمة" للتأريخ العربي في طور نشوء القومي، وكذلك أثار المكابح في قراءة التاريخ، ولكن نوع من الضيق في فترة التخصص، ووضوح تأثر كوثراني من خلال حديثه معه وعنه منهجيًا، ولكن دون الاقتراب الأول من الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، واستكنه قربه من نقولا زيادة في الزمالة الأخلاقية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "دعوة إلى العقلانية".. التاريخ الفكري والروحي للفلسفة في العالم الإسلامي

التاريخ المفهومي وتاريخ الأفكار وأزمة التأريخ المعاصر

تفصلت مسيرة التاريخ العربي من التأريخ عبر القومية للتأريخ لها في وعي مستجد. ويبين كوثراني هنا تطوره عبر تأريخ الأفكار ضمن جمع من المؤرخين، ذكر كوثراني أمثلة منهم، بدايةً بطريف الخالدي ومسألة التحقيب الزمني ضمن أربع قبب: الحديث للقرون الثلاثة الأولى، فالأدب إلى القرن الخامس، ثم الحكمة للعاشر، والسياسة وآدابها للخامس عشر، مع ضرورة الإشارة لتداخل تلك الحقب القببية، وذكر الخالدي أمثلة لكل قبة فيها دلالة على صعوبة الحسم بينها بشكلٍ بحث، عدا عن تدوينه وجود إغفال لدى الخالدي للمدارس الغربية.

وانتقل بعد ذلك للحديث حول الفقه السياسي وإشكاليته لدى رضوان السيد، وتناوله لمسألة مهمة في تاريخه "المفهومي" السياسي والديني في الإسلام. وناقش كوثراني هنا إحدى "أخطر" العبارات التي اكتنفت معنى وجود الدين في الدولة، وهي "حماية الدين وسياسة الدنيا"، ثم ناقش تأريخ ابن خلدون فقيهًا، ولاحظ في مناقشته للإسلام السياسي المعاصر، نوعًا من التقهقر – مع عدم غياب الأيديولوجيا بدرجات من الجميع – في التاريخ ضمن ثقافة و"انفتاح" رواد هذا الفكر، وهي التي دعا خالد زيادة لعقلانيتها بعد تسميتها بفترة "العروبة"، ونادى حولها كوثراني في كتابه "النهوض العربي".

وما بال الجابري في هذا النقد؟

ينتقد كوثراني بنيوية محمد عابد الجابري المغربي الجريئة بكل وضوح، بالإضافة إلى منهجه التأريخي في تعميمه أسئلة النهضة على نمط فكري أو بنية نهضوية أو نص تراثي واحد، هو لا تاريخي وخارج الواقع وفوق الزمان والمكان أيضًا. ودرس في الوقت نفسه خزعة من الحيزين المفهومي والتجريبي لأطروحة الجابري حول العقلانية والعلمانية والديموقراطية والشورى، وبيّن أنه قد يكون وقع في الذي هرب من البنيويون من التاريخانية، والتف على نفسه، بمعنى اقترافه عن "التاريخانية الأحادية"، وهي القراءة باتجاه واحد للنص.

وبرأي كاتب هذه السطور، يولِّد هذا قراءة خطية يتجنبها "المؤرخ"، ويتنبه لها ويقع فيها فيلسوف التاريخ كثيرًا إما عمدًا أو سهوًا، بالإضافة إلى أن تقليد الجابري لميشيل فوكو في الطرح البنيوي، لم ينج لكون فوكو قبل وصف نفسه بالمؤرخ، بينما نفر الجابري منه، فوقع فيما وقع فيه، كما أنّه استخف بالمنهج التاريخي ومنه أعمال عبد الله العروي، ليخلص إلى أن بنيويته لم تكن حتى منهجيةً كما افتعلها فوكو.

ينطوي كتاب وجيه كوثراني على عدوى بحثية نقدية، تستدعي تثوير دارسي التاريخ وطلبته ومحبيه على إعادة النظر في كل ما يمس هذا الحقل

عاش في مرحلة الانفصال الفكري بين النهضويين العرب الأوائل وفهمهم التاريخي للديمقراطية من جهة، وبين مرحلة التنظير الذي يطرحه الجابري من جهةٍ أخرى؛ إسلاميين وقوميين غابت لديهم مناقشات جادة للديموقراطية. ويمكن وصف تلك المرحلة بـ "مرحلة التقهقر" التي تحدث عنها رضوان السيّد، والتي جعلت خطاب الديموقراطية لدى الجابري يحوي نوعًا من اللاتاريخية، عدا عن مغالطات اللغة والترجمة أو فهمها في سياقها التاريخي للعلمانية وتنحيتها لاتاريخيًا، وأن تنظيره كان سياسيًا يروم عقد نكاح المصالح بين القومية والإسلامية، أكثر من كونه منطلق من "البحث" وحُسن وعي العلاقة الحقيقية بين الاستبداد والعلمانية، وحماية الدين من الاستبداد السياسي التي كشّفها كوثراني لدى السيّد.

اقرأ/ي أيضًا: ذكورية شعر الغزل.. مدخل إلى الخلفية الثقافية للتحرش

بعد ذلك، تحدث عن الفكر الفلسفي للتاريخ لدى ناصيف نصار، وقراءة كوثراني لتنظيره في الفكر الديني السياسي والقومي وعناصر الأمة والدولة والمجتمع والحزب والتاريخ. وقدّم كوثراني هنا، مثلًا، نقد "معرفة نصار لابن خلدون" التي أنتج حولها رسالته، في بناء تجلياته على العصبية والتغلب في الأمة والدولة والمجتمع، بينما هي مصطلحات ضمن الاجتماع العمراني الخلدوني الأوسع.

التاريخ – المسألة: جان شرف وقدوري

طرح كوثراني تجديد التاريخ - المسألة في التأريخ اللبناني لدى جان شرف أثناء الحديث عن ميكانيزمات (آليات)، السلطة والوالي والمجتمع، بالإضافة إلى الاختلاف الذي طرحه من ترسيم حدود الطائفة في الزمان الطويل، ونقده في تغييب ميكانيكية الرأسمالية العالمية، ونقد وجود البعد العالمي للأفكار الإصلاحية ومفهوم التعددية عبر زمن طويل "متغير في ذاته ولا متوقف ومشكلة نقله إلى زمن أصغر منه"، كتاريخ جبل لبنان في فترته التي اختارها له.

مسألة التجاوز بين التاريخين الأوروبي والمغارب العربي على ضفتي المتوسط، طُرح في دراسة عبد المجيد قدوري التي تخرج بداية عن ثنائية "الأسطرة المؤدلجة" و"التأريخ الحدثي"، وفائدة استعماله الواضح للزمن الطويل في التعبير الفرنسي، وضرورة الإفادة من أطروحته في المجال العربي العثماني الشرقي بالتالي، ولكن قدوري "تجاوز" طرحه ليس فقط في "مسألته"، وإنما أيضًا في الفرضيات العربية ذات المنحى التعميمي والأيديولوجي، بما فيها الجابري مع استعارته الواضحة منها.

يمكن أن أجرؤ على القول أنّ كوثراني عمومًا يبدي إعجابه بالخالدي والسيّد وقدّوري، أكثر مما هو الحال بالنسبة إلى الدوري وشرف وزريق، فيما ينتقد صراحةً الجابري. وفي هذا السياق، يمكن القول إنه يبيّن أزمة التأريخ العربي المعاصر، عبر كشف مسألة التقهقر في مسيرة الفكر العربي بعد النهضة لدى السيّد، بالإضافة إلى مشكلة القبة "الخامسة" المعاصرة في فكر الخالدي، وارتباط ذلك بـ "التقصير في إتقان مناهج المعرفة وطرائق البحث الاجتماعية والإنسانية استخدامًا واستيعابًا في جامعاتنا العربية ومراكز أبحاثنا الكثيرة ولكن القليلة الفاعلية وعلاقة الباحث والمؤسسة البحثية بالسلطة السياسية"، كما يتّضح.

وضع المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني في كتابه "تاريخ التأريخ" أساسًا منهجيًا في النظرة التاريخية لمسيرة التأريخ العربية

ختام لا ينتهي في التاريخ الجديد؟

طرح المؤرخ اللبناني في خاتمة كتابه بنية حقل التاريخ بين "العلوم التاريخية" والتماثلات المختلفة بين كل من جان بياجه Piaget وابن خلدون، وبيّن فروقات السبق "المعنوي واللفظي" بينهما، عبر مقاربتي "علوم العمران والعلوم تاريخية"، ضمن سياقين تاريخيين مختلفين.

اقرأ/ي أيضًا: الحداثة السائلة.. هشاشة الروابط الإنسانية والخوف من المجهول

وأشار أيضًا إلى التأريخ، ما بعد الوضعاني، في القرن العشرين متعدد الاتجاهات، وفرادة التاريخ عن بقية العلوم المختلفة الأخرى، لكونه يقترب من "النقد" بدلًا من "الملاحظة والتجربة" في استنتاجه، مما يعني أنه قد لا يتخصص كعلم فردي، ولا يتحرى استنتاج قواعد خاصة ثابتة له، وأن التاريخ الجديد هو الذي يعطي أنواعًا وفهمًا بحسب نحو التخصص، وتمثّلات سمته الجديدة في التأريخ للذهنيات والأفكار، بالإضافة إلى ­المهمّشين وأساس الهرم قبل رأسه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "المؤتمر العربي الأول 1913": أُممٌ فائضة وإمبراطورية منقوصة

حزب الله ومسألة الدولة المدنية وولاية الفقيه والطائفية السياسية