14-يناير-2016

(بيسار بيدامي/الأناضول/Getty)

كُنت دائمًا في أوقات المزاح وشغب الشباب فيما بينهم، أزعج صديقي بمناداة أمه: "القصيرة والسمينة". كان يفترض الانزعاج من أجل الاستمرار بشغبنا. أنا أيضًا، أظهر انزعاجي منه لأثير غضبه حتى وإن ابتسم. فعلًا، كانت أم صديقي، سمينة وقصيرة، لكنها طيبة وكبيرة القلب. مثل أي أُم أخرى. كان حيدر -ابنها الوحيد (صديقي)- كل ما يهمها. إذا تأخرنا خارج المنزل "تُزعجه" باتصالاتها، وإذا أُصيب بوعكة صحية، كأنها هي التي مرضت.

قبل أشهر اختار حيدر، طريق البحر للوصول إلى أوروبا. على حين غفلة قرر الذهاب إلى تركيا ومنها إلى اليونان ثم دول أوروبا الأخرى. كان واحدًا من عشرات الآلاف الذين يجازفون بحياتهم للخلاص من الدمار في أوطانهم.

تولدنا أمهاتنا في أوقات الحروب وقبلها لنكون وقودًا لا أكثر

لم أعرف بنيته السفر بهذه السرعة، كما لم يعرفها كل الأصدقاء الذين نشترك بصداقتهم. هو الآخر لم يكن يعرف بنيته السفر بهذه الطريقة المستعجلة. أنا أعتقد أن منظرًا داميًا في شوارع بغداد، أو تهديدًا مفاجئًا، أو صبرًا نفد، كان وراء هجرته غير المعلنة.

لأنه الفراق بكيت. لا أحد رآني وأنا أبكي مثل طفل بريء، أخذوا منه أشياءه. وضعت رأسي على المخدة. غطيت رأسي بشرشف خفيف، وبدأت البُكاء. واحد من أعز أصدقائي أصبح بعيدًا. عندما نتصل ببعضنا باستمرار أساله عن والديه، فيجيبني: "إنهما بخير.. يوميًا أتصل بهما.. سعيدان بسفري". مفرحة الكلمات التي يوضح لي من خلالها أن والديه سعيدان بسفره، خاصة أمه التي يقول إن صحتها جيدة. أُقرر زيارة والدته كلما ذهبت للمنطقة التي يقيمون فيها، لكنني أعدل عن قراري. مرة، مرتين، ثلاث مرات، أربع مرات، خمس مرات، قرارات وعدول. لماذا؟ لا أعرف الأسباب، لكن سببًا واحدًا أعرفه. أنني سريع البُكاء.

قررت الذهاب لمنزلهم الجديد الذي لا أعرف عنوانه بالضبط. أسأل الناس، لا أحد يعرف. كان هو أشبه بالنقطة الدالة. هو ممثل مسرحي وله أكثر من تجربة تمثيل تلفزيونية، ميزتّهُ بين أبناء منطقته. عندما قررت زيارة والدته، اخترت ألَّا أذهب وحدي. حتى لا أكون ضعيفًا وأذرف الدموع وأنا أتحدث عنه أو أرى والدته، فإن وجود زوجتي وطفلي، على الأقل يكون حاجزًا لعدم البكاء. لم أعرف والدته "السمينة والقصيرة". رأيت امرأة قصيرة فقط، لكن تلك التي كُنت أتحدث عن بدانتها، لم أجدها. "تفضل خالة مصطفى ادخل للبيت شرفتنا بجيتك". كانت تتحدث معي وعيني على الأرض. عند أول خطوة رفعت رأسي واستدرت إلى الخلف. نظرّت إليّ وبكت. بكينا سويًا.

"رحيله لم يبق بي شيء إلا وقطعه.. لو أنه ذهب بوقت سابق، كان أهون عليّ... أنا أعيش كل لحظة لوعات كبيرة.. أدعو له أن يرتاح، لكنني قلقة عليه كثيرًا". كل هذا تقوله أم صديقي. حيدر وأمه قصة من ملايين القصص في العراق، لا أحد يعرف متى بدأت، ولا متى ستنتهي.

تولدنا أمهاتنا في أوقات الحروب وقبلها، لنكون وقودًا لا أكثر. هناك من ينقذ نفسه وينجو بها، لكن ذويه يبقون يتآكلون في العراق. وستبقى النساء العراقيات، اللاتي انضمت لهن السوريات واليمنيات واللبنانيات وقبلهن الفلسطينيات، ولودات لوقود الحرب. نُدافع عن عوائل وأشخاص لا عن أوطان. وتبقى تلك بخير دون أن تمسها الحرب التي أصبحت حياتنا جزءًا منها.

اقرأ/ي أيضًا:
لبنان.. موسم الهجرة مِن الشمال
الهجرة إلى أمريكا.. سودانيون يحلمون ببلاد العم سام