12-مايو-2021

مقبرة وادي السلام في النجف

كنا عائدَين من زيارة صديق نجا من كورونا. رحت أحاول طرد شبح محوم فوق رأسينا بثرثرة عن الجو الدبق والصيف الذي بكّر، لكنها قاطعتني بجفاء: "أفكر في بيع بيتي والذهاب إلى أهلي في القرية. لا أريد أن أبقى وحيدة". ابتلعت إحساسي بالمباغتة وسألتها: "هل تفكرين بالموت؟". قالت بصوت خافت: "هذا مجرد تدبير تمليه الحياة لا الموت". ألححتُ: "هل تخافين من الموت؟". نبرتها العالية لم تنجح في إخفاء رجفة صوتها: "لا، أبدًا أبدًا.. إطلاقًا". لم أكن أحتاج النظر في عينيها لأعرف أن الإجابة الحقيقية هي: "نعم، كثيرًا جدًا". 

يُنسب إلى وليم سارويان أنه قال وهو على فراش الموت: "لقد كنت أعرف دائمًا أن كل إنسان لا بد أن يموت، ولكني كنت آمل أن يحدث استثناء في حالتي".

الحديث عن الخوف، أي خوف، يحتاج قدرًا كبيرًا من الشجاعة، ويبدو أنني لم أكن أمتلك هذا القدر لأعترف لها بأنني خائف أيضًا من الموت.. مثلها وربما أكثر، لا سيما أنني كنت، ساعتئذ، ذلك الرجل الشهم الذي يوصل صديقته إلى بيتها عبر شوارع موحشة.  

اقرأ/ي أيضًا: العزاء بين قهر الموت وتحمل مرارته

يُنسب إلى وليم سارويان أنه قال وهو على فراش الموت: "لقد كنت أعرف دائمًا أن كل إنسان لا بد أن يموت، ولكني كنت آمل أن يحدث استثناء في حالتي".

حسب فرويد، الذي اعتاد أن يسيء الظن بالبشر، كلنا سارويان، كلنا نعتقد في أعماقنا أن الموت مسألة تخص الآخرين، ونأمل لا شعوريًا أن نكون ذلك الاستثناء الذي لم يحدث من قبل قط. وبكلمات رائد التحليل النفسي فإن "كل واحد منا ــ في اللا شعور ـــ مقتنع بخلوده الشخصي.. ليس بين الغرائز التي نملكها غريزة مستعدة للاعتقاد بالموت".

غير أن باتريك زوسكيند يعتقد، خلاف ذلك، أن هذا الإنكار العنيد للموت شأن يخص الثقافة وهو موقف جديد نسبيًا. يقول في كتابه "عن الحب والموت" إن الموت كان، في عصور غابرة، ذلق اللسان واجتماعيًا، كان جزءًا من العائلة والمجتمع، وكان الناس يواعدونه ولا يتجنبونه، كانوا يرفعون الكلفة معه. غير أن هذا تغير جذريًا في المئتي سنة الأخيرة. "بات الموت أميل إلى الصمت ويأمر بالصمت، ونحن نستجيب لرغبته ونصمت، لا لأننا لا نعرف عنه شيئًا، بل لأنه ناف أبدي، هادم للذات، ومفسد حقيقي للأمور، ونحن في أيامنا هذه لا نرغب في التعامل مع هؤلاء على الإطلاق".

يتحدث السوريون كثيرًا عن كيف غيرت الحرب وكورونا حياتهم، وقلما يتحدثون عن كيف غيرت الحرب وكورونا موتهم أيضًا. وأيًا كان أصل الموقف من الموت، غريزيًا كما يقول فرويد أم ثقافيًا كما يقول زوسكيند، فإنه صار بالنسبة لنا ترفًا، ذكرى من أزمنة أخرى، مثله مثل تحقيق الذات والارتقاء الاجتماعي والطموح الأدبي. لم يعد الموت همًا وجوديًا يستدعي التأمل ويحتمل العناد الداخلي. لقد صار احتمالًا مطروحًا بغزارة، شأنًا دنيويًا يحتاج حسابات عملية لا أوهام فيها. فقد عرضيته ليغدو ضرورة يومية كانقطاع التيار الكهربائي والوقوف على الفرن والجري وراء الباص. لم يعد استثنائيًا وبالتالي لم يعد مدهشًا. فقد وقاره وصار مبتذلًا فأدرجناه في جداول شؤوننا الروتينية المزعجة، إلى جانب جداول تقنين الكهرباء وتوزيع المواد التموينية ومواعيد استلام أسطوانة الغاز.

فرويد: "كل واحد منا ــ في اللا شعور ـــ مقتنع بخلوده الشخصي.. ليس بين الغرائز التي نملكها غريزة مستعدة للاعتقاد بالموت"

ولكن هذا هو موت الناس، موت الآخرين، أما موتنا الشخصي، موتنا نحن، فقد صار أكثر مدعاة للأسى، عاديته حطمت كل عزاء كان لدينا، ودحضت ذلك الحافز البطولي وذلك الميل المأساوي المشرف. كل منا يتوصل إلى هذه الحقيقة المؤكدة: اللامبالاة التي باتت تغلف موقفي إزاء موت من حولي هي نفسها التي ستغلف موقفهم من موتي.. فيغيب كل معنى للحديث عن أثر أو ذكرى أو خلودٍ ما بعد الرحيل.

اقرأ/ي أيضًا: متحف الموت

الأكثرية سلمت بالمفهوم الجديد للموت كما سلمت بكل المستجدات الأخرى، وقلائل صاروا يستشيرون كتبًا ويزورون أطباء ومعالجين نفسيين. واحد من الكتب التي عادت إلى الواجهة عنوانه "قلق الموت"، وفيه فصل يحمل عنوانًا مفرطًا في التفاؤل: "قلق الموت.. الأسباب وطرق العلاج"!!

بالطبع أنتم أذكى من مراجعة الأطباء لسؤالهم عن الموت. لن يفعلوا شيئًا سوى الإبقاء على خوفكم، وفوق ذلك سوف يشعرونكم بالضجر. إنهم مثل بعض النقاد البنيويين الذين أرادوا إخضاع الشعر للعلم، فعالجوا القصائد بالبيكار والمسطرة وخربشوا على هوامشها المعادلات الرياضية الخرقاء. الموت، ومهما قال العلماء، يجب أن يظل في دائرة الشعر والفلسفة، وإذا أردنا إنقاذ حياتنا من اللا معنى فعلينا إعادته إلى ذاك المصاف السامي. ولنناشده أن يكف عن "الجلوس على العتبات كالشحاذ"، وأن يكون كما أراده محمود درويش: "قويًا، ناصع الفولاذ.. فروسيًا، بهيًا كامل الضربات".

وحتى يعود الموت إلى رشده ونعود نحن إلى موقفنا القديم منه، ماذا نفعل إزاء قلقنا؟

ميشيل دي مونتين، الذي عاش أزمنة صعبة شهد فيها حربًا شرسة وطاعونًا فتاكًا ونهاية فاجعة لبناته الصغيرات، ينصحنا أن نحيا وحسب، "إذا كنا قد عرفنا كيف نحيا فليس من المناسب أن نتعلم كيف نموت". بل هو يحثنا على البلاهة إذا اقتضى الأمر: "لم يحدث أبدًا أن رأيت مزارعًا يمعن التفكير في الطريقة التي سيقضي بها ساعته الأخيرة، فالطبيعة تعلمه ألا يفكر فيها إلا حينما يموت بالفعل.. أيتعين أن نقول بأن البلاهة هي التي تمنحه لا مبالاته العميقة حيال حوادث المستقبل المشؤومة؟ لأن كان الأمر كذلك فدعنا جميعاً نتعلم من البلاهة".

بإمكاننا أن نستعين بفرويد مجددًا، هو طبيب لكن له روح شاعر. ينصحنا صاحب "تفسير الأحلام" بالمسكنات العظيمة الثلاثة لقلق الوجود: الفن والحب والعمل.

أما الشيخ عبد ربه التائه، لسان نجيب محفوظ في "أصداء السيرة الذاتية"، فلديه تعويذته الخاصة. جاءه قوم يحتجون على هذه الحياة التي يرفرف فوقها الموت أبدًا،  قالوا "إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة"، فرد: "تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة".

بالطبع أنتم أذكى من مراجعة الأطباء لسؤالهم عن الموت. لن يفعلوا شيئًا سوى الإبقاء على خوفكم، وفوق ذلك سوف يشعرونكم بالضجر

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت

وثمة إجابة مشابهة من شخصية أدبية أخرى اسمها فرانسيسكا، صاغها الكاتب الكوبي خورخي كاردوسو. في قصة "فرانسيسكا والمنية" يصل ملاك الموت صباحًا إلى قرية صغيرة. لديه مهمة محددة: خطف روح امرأة عجوز اسمها فرانسيسكا، وبوقت محدد إذ عليه أن يغادر حتمًا في قطار الخامسة مساءً. يذهب إلى بيتها مباشرة ولكن حفيدتها تخبره أن الجدة فرانسيسكا استيقظت في الفجر وراحت لتحلب البقرة. لم يجدها في الحظيرة وقيل له إنها صارت في حقل الذرة. وهناك قال له فلاح إنها أنجزت عملها سريعًا وراحت لتساعد جارتها في تدليك بطن طفلها المريض. قالت له أم الطفل: بالفعل كانت هنا ولكنها ذهبت مسرعة إلى واحد من أعمالها.. هكذا راح يطاردها طوال النهار، وهي تقفز بين مكان وآخر ومن عمل إلى آخر. حانت الساعة الخامسة فركب ملاك الموت قطار العودة لاعنًا مغتاظًا. في هذه الأثناء كانت فرانسيسكا تجز عشب حديقة المدرسة، مر عجوز من معارفها فناداها مداعبًا: "فرانسيسكا.. متى ستموتين؟". ردت: "لا وقت لدي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كوليت أبو حسين.. إملاءات الموت

"الموت الأسود" في أعمال كتاب ومؤرخي الشرق