08-أغسطس-2018

ما زال النقاش عن ميشيل فوكو رائجًا وفعالًا في الأوساط الأكاديمية (Getty)

لا يزال منجز الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، يثير كثيرًا من الجدل والاستقطاب في الأوساط الأكاديمية في العالم. حيث إن المفكر المهووس بتتبع السلطة في كل مكان، كما يقول في إحدى محاضراته، حاز على كثير من الإعجاب والمعارضة، وما زال النقاش حول كتبه العديدة، فعالًا ورائجًا.

يعتبر كثيرون مشروع "تاريخ الجنسانية" الأهم على الإطلاق في كل منجز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو

وحتى بعد وفاته في عام 1984، لم يتوقف صاحب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" عن إحداث الضجة تلو الأخرى في الصالونات الأكاديمية والجامعات في مختلف أنحاء العالم. ورغم أنه أوصى بعدم نشر أي من مؤلفاته غير المنشورة بعد موته، فقد كان العثور على بعض المقالات النادرة، أو المحاضرات المسجلة، كافيًا ليعاد النقاش الصاخب حول سيرة الرجل. ولا يبدو أن ورثة الناقد الصارم للحداثة الغربية، استطاعوا مقاومة رغبة ملايين القراء في العالم بالاطلاع على كل منشور جديد باسمه. ولذلك، فقد تم طبع محاضراته في الكوليج دو فرانس، التي حملت تكثيفًا بارزًا لمعظم منتجه، وكان أبرزها "يجب الدفاع عن المجتمع" (Society Must Be Defended) و"ميلاد السياسات الحيوية" (The Birth of Biopolitics) و"الأمن والأرض والسكان" (Security, Territory and Population).

لكن من اطلعوا على هذه المحاضرات المدونة، التي كان فوكو قد قدم معظمها في أواخر السبعينات، كانوا يعرفون أن هناك شيئًا لا يقل أهمية عليهم أن يترقبوه.

يعتبر كثيرون مشروع "تاريخ الجنسانية" الأهم على الإطلاق في منجز فوكو الفلسفي، حيث إن الثلاثية التي نشرت بالفرنسية وترجمت إلى لغات عديدة منها العربية اعتبرت عتبة لحوار طويل حول علاقة السلطة  بالجنس. ولم تكن الأجزاء الثلاثة "إرادة العرفان" و"استعمال المتع" و"الانشغال بالذات" تاريخًا للجنسانية وحسب كما يحيل العنوان، ولكن أيضًا تاريخًا لتاريخ الجنسانية الرائج نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة

وكان العام الجاري، مبشرًا لأولئك الذين انتظروا نشر المجلد الرابع من السلسلة بفارغ الصبر، حيث صدر الكتاب الواقع في أكثر من 400 صفحة أخيرًا، والذي طالما توقع المهتمون أنه يحمل خلاصة ما توصل إليه فوكو في هذا الحقل. وهو ما تبين على يبدو أنه كذلك بالفعل.

 يطل "ألترا صوت" في هذه المراجعة المترجمة عن موقع Los Angeles Review Of Books على هذه الجزء المهم من سيرة واحد من أهم أسماء الفكر الإوروبي والإنساني الحديث.


أصبح مفهوم "فوكو الأخير" متداولًا الآن بين الباحثين المتخصصين في فلسفة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذين يسعون للتفرقة بين الأبحاث الاستقصائية التي أجراها الفيلسوف في السنوات الثمانية الأخيرة التي سبقت موته في حزيران/يونيو عام 1984، وبين تلك التي شكلت قوام كتاباته المبكرة. يقال إن هذه الفترة الأخيرة بدأت عام 1976، أي بعد نشر الجزء الأول من كتاب تاريخ الجنسانية بفترة قصيرة، حين أعاد فوكو تشكيل مشروعه الأوّلي بشكل جذري، مُغيِّرًا بطريقة مفاجئة من موضوع الكتاب وتسلسله الزمني.

لأسباب ما زالت قيد النظر والمباحثة بين الباحثين، يعرض كتاب "فوكو الأخير" جانبًا منها، اختار فوكو التخلي عن فكرة تحليل التشكل التاريخي للقوة والمعرفة المعروفة بـ "الجنسانية"، وهي تقليد خطابي نشأ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بهدف تصحيح الجنس وضمان سلامته، وفضل التركيز بدلًا من ذلك على الطرق المتعددة التي أُكره بها الأفراد على إدراك أنفسهم باعتبارهم ذوات تحركها الرغبة الجنسية. 

كانت هذه السنوات الأخيرة مثمرة بشكل لا يصدق بالنسبة لفوكو، حتى لو اعتراها في بعض الأحيان إحساس بانعدام الثقة في النفس. خلال تلك الفترة، جرب فوكو دون كلل أطُرًا نظرية مختلفة حاول من خلالها الاستمرار في البحث الذي سيتوسع في النهاية ليشمل الفلسفة الرومانية والإغريقية وكذلك كتابات آباء الكنيسة الأوائل. ومن خلال العمل على هذه الإبداعات النظرية الأخيرة، سينشئ فوكو مفاهيم لا يمكن الاستغناء عنها اليوم في العلوم الإنسانية والاجتماعية، حتى أنه من الصعب اليوم تخيل وجود مجالات أكاديمية كاملة دون تأثيره.

بعد ما يقرب من 35 عامًا من وفاته، يبقى فوكو نقطة مرجعية حاسمة، وما زال كتابه "تاريخ الجنسانية" مرجعًا أساسيًا تجب قراءته. مع ذلك منعت حالة المشروع غير المكتمل عند وفاته العديد من القراء من الاشتباك بشكل كامل مع نقده الجريء للآليات التي شكلت الذاتية subjectivity في الغرب.

في فرنسا، يبشر نشر المجلد الرابع والرئيسي بحسب البعض من كتاب تاريخ الجنسانية Les aveux de la chair (اعترافات الجسد) بإجلاء بعض من هذا الإحباط وزيادة معرفتنا بـ "فوكو الأخير". يعد ظهور المجلد الرابع بحد ذاته أهم حدث في عالم دراسات فلسفة فوكو منذ نشر الكوليج دو فرانس لمحاضراته قبل قرابة 20 عامًا. من المتوقع أن يشعل هذا المجلد بعض النقاشات الدائرة بالفعل من بينها النقاش حول أسباب ابتعاد فوكو عن المشروع الذي بيّن ملامحه في المجلد الأول. ومن المرجح كذلك أن يشعل الكتاب اهتمامًا بالجوانب الأقل شهرة في عمل فوكو مثل حواره الممتد مع الدين.

بقدر ما استدعى فوكو مفهوم الجسد في مواضع حرجة من المجلدات الأخرى من تاريخ الجنسانية، يحتوي المجلد الرابع عرضًا مفصلًا لرؤية فوكو الأوسع لهذا المفهوم، وتكريسًا لتحليل مفهوم الجسد حسب التجربة المسيحية كما ظهرت في القرون الخمس الأولى من العصر الوسيط أو ما يُعرف بالحقبة العامة. يقدم هذا الجزء للقراء فحصًا متعمقًا لشخصيات مثل إكليمندس الإسكندري وغريغوريوس أسقف نيصص، ويوحنا فم الذهب (جون كريسوس) والقديس يوحنا كاسيان والقديس أوغسطينوس من مدينة هيبو.

اقرأ/ي أيضًا: إدوارد سعيد والموقف من الماركسية

يعد كتاب اعترافات الجسد، المكتوب بطريقة رزينة وأكاديمية على غرار المجلد الثاني والثالث، مجلدًا دسمًا وتصعب قراءته ويتطلب معرفة معتبرة بالتاريخ الديني والعقيدة الكاثوليكية. لكن في النهاية يقدم نشر هذا الكتاب فرصة للقراء تمكنهم من فهم نقاط التحول وحالات الانتقال التي ميزت تجربة الجنس في العالم الغربي، والتي تشغل حيزًا كبيرًا من كتابات فوكو المتأخرة. 

يعتري الطلاب والقراء الذين يقرأون فوكو لأول مرة، الإحباط حين يكتشفون أن تاريخ الجنسانية يخلو تمامًا وبطريقة مثيرة للتأمل من أية تفاصيل شهوانية. بالطبع لم يكن مقررًا للمشروع أبدًا أن يكون سردًا لتاريخ الممارسات الجنسية. قرر فوكو ابتداءً تقديم تحليل نقدي للشكل الجديد من "التجربة" الذي هيمن على المجتمعات الأوروبية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين، والمسماة بـ الجنسانية. لكن لفهم مقصوده يجب علينا أن نفرق بين "الجنسانية" و"الجنس".

سعى فوكو لبيان أن ممارسة الاعتراف كما نعرفها اليوم تعد اختراعًا حديثًا نسبيًا، حيث بدأت بالتشكل تدريجيًا في الأديرة

تمثل الجنسانية من منظور فوكو تلك العملية التاريخية التي اكتسبت فيها أجساد النساء والميل الاستمنائي الشهواني للأطفال والسلوك الإنجابي للأزواج ومتع من يُنعتون بالمنحرفين، قدرًا من السلطة والنفوذ وتحولت إلى موضوعات للمعرفة. بتعبير أشمل، تشير "الجنسانية" في كتابته إلى "يقظة المخاوف الجنسية" التي أصبح العالم الغربي من خلالها "يشك في حضور الجنس في كل شيء". رفض فوكو الفكرة القائلة بأن المرء قد يكتشف في النهاية مفهومًا نقيًا وبيولوجيًا محضًا للجنس، حرًا من أفاعيل السلطة والمعرفة. ورأى بأن مثل هذه الفكرة هي في الحقيقة نقطة تُثبت قبضة الجنسانية المحكمة على الفرد وتسمح بانتشارها في  جميع أرجاء الجسد الاجتماعي. "الجنس" بحسب ما كتب فوكو عام 1976 "هو وحدة خيالية" تصون وتضمن عملية "انتشار وتخلل الجنسانية".

لكن فوكو شعر مباشرة بالملل من المقاربة التي اتبعها لدراسة الجنسانية والتي اشتهرت من خلال مجلده الأول "إرادة العرفان". في عام 1980، بدأ إحدى محاضراته بتناول استثناء لإطار المعرفة/السلطة النظري، وهو مفهوم ما زال عدد من المفكرين يوظفونه حتى الآن، مشيرًا إلى أنه لم يعد مرنًا بما يكفي لاستيعاب الأبحاث التي كان يخطط للشروع فيها.

شرح فوكو قائلًا إن ما أثار اهتمامه بشكل خاص هي "أفعال الحقيقة الانعكاسية" والتي يصبح بإمكان المرء من خلالها أن يقول "هذا أنا"، أو "هذا ما أنا عليه"، وكما بيَّن فوكو فقد ارتأى أن يُلحِق بتحليله التاريخي الممتد للكيفة التي تستغل بها السلطة المعرفة والطريقة التي تعمد بها المعرفة لاستثمار السلطة، سردًا للكيفية التي يتشكل بها الأفراد كذوات داخل مثل هذه المصفوفة. توصل فوكو إلى أنه في المجتمعات الغربية الحديثة لا تقنع السلطة الأفراد بضمان الطاعة، بل تلزم الأفراد بإنتاج وإظهار حقيقة أنفسهم كذلك.

سيؤكد فوكو نقطة الانطلاق الجديدة هذه في مقدمة المجلد الثاني من تاريخ الجنسانية الذي جاء بعنوان استعمال المتع. أوضح فوكو في ذلك الكتاب بأنه سعى لتحليل التشكل التاريخي للجنسانية من ثلاثة محاور غير قابلة للاختزال: 1) العلوم أو المعارف التي تشير إلى الجنسانية. 2) أشكال السلطة التي تحاول تنظيمها أو السيطرة عليها. 3) الطرق المختلفة التي يعرف بها الأفراد ويدركون كونهم ذوات خاضعة لها.

هيمن المحور الثالث الذي كثيرًا ما يشار إليه بـ "المحور الأخلاقي" على المجلدين الثاني والثالث، والآن الرابع، من كتاب تاريخ الجنسانية. نتيجة لذلك أجبر ظهور هذا المحور الأخلاقي فوكو على الاستغناء عن -أو على الأقل إرجاء - تحليله للمجتمع الحديث من منظور "السياسة الحيوية" Bio-Power، والتي تعني تحديد أوضاع وترتيبات السلطة والمعرفة المسؤولة عن إدارة الحياة البشرية، بمعاملة الفرد باعتباره عضوًا في مجموع سكان وإخضاعه لحسابات إحصائية تخص السلامة والصحة العامة ومتوسط العمر ومعدل المواليد والعرق. وذلك لأجل الشروع في بيان جينالوجيا "الإنسان الشهواني". تساءل فوكو بإلحاح عن الطرق التي دفعت الرجال والنساء الغربيين للنظر إلى أنفسهم باعتبارهم ذوات خاضعة للرغبة. وكيف دُفعنا دفعًا للتفكير في أن الرغبة الجنسية هي مكمن حقيقة أنفسنا ومن نكون؟

 تساءل فوكو بإلحاح عن الطرق التي دفعت الرجال والنساء الغربيين للنظر إلى أنفسهم باعتبارهم ذوات خاضعة للرغبة

قاد اهتمام الفيلسوف الفرنسي بالعلاقة بين الذات والرغبة ابتداءً إلى دراسة تطور طقس الاعتراف، وهو موضوع تطرق إليه في المجلد الأول من كتابه وتكرر كثيرًا خلال محاضرات فوكو في الكوليج دو فرانس. لا يرى فوكو ممارسة الاعتراف باعتبارها طقسًا يخص المؤمنين فحسب، بل يعدها تقنية متجذرة من تقنيات السلطة، ذات طيف واسع من المآلات فيما يخص إنتاج الخضوع والذاتية.

اقرأ/ي أيضًا: أكثر من مجرد عد.. كيف يصمم الإحصاء المجتمعات البشرية؟

سعى فوكو لبيان أن ممارسة الاعتراف كما نعرفها اليوم تعد اختراعًا حديثًا نسبيًا، حيث بدأت بالتشكل تدريجيًا في الأديرة، قبل قيام مجمع ترنت الكنسي (1545- 1563) بتوسيع مجال هذا الطقس ليشمل العوام كجزء من استراتيجية الإصلاح المضاد التي هدفت إلى إعادة الناس للإيمان. في مسار هذا البحث الاستقصائي، أعاد فوكو فحص الفروض العديدة التي ابتدعها المسيحيون الأوائل لإظهار حقيقة أنفسهم. 

البحث الذي نتج عن هذه الفترة اكتسب شكله الأخير خلال سنوات 1981 و1982، وفي خريف عام 1982 أودعت المسودة لدى غاليمار، الناشر الفرنسي لفوكو. بعد ذلك أولى فوكو اهتمامه للفكر اليوناني والروماني، متوقعًا إيجاد نذر أولية ونقاط تعارض مع العديد من المواضيع التي ميزها وتفحصها في المسيحية المبكرة. في الوقت الذي أتم فيه فوكو المجلدين الثاني والثالث من مشروعه تاريخ الجنسانية، وهما استعمال المتع (1984) والانشغال بالذات (1984) قبل موته، بشرت النشرة الترويجية المصاحبة لهذين المجلدين بقرب صدور المجلد الرابع "اعترافات الجسد". لكن فوكو وافته المنية في حزيران/يونيو عام 1984. 

وبناء على وصية فوكو نفسه، مُنع نشر كتاباته بعد موته وظل مصير المجلد الرابع من مشروعه مجهولًا. لكن خلال السنوات التي تلت موته أصبح ورثة فوكو أكثر تساهلًا تجاه ما تعنيه "أعمال منشورة بعد الموت". عُدَّت دورات محاضرات فوكو التي تعلمنا منها الكثير عن تطور أفكاره في الكثير من المواضيع التي اشتبك معها، بأنها مناسبة للنشر باعتبارها تصريحات شفهية صدرت خلال حياته. أما بخصوص هذا المجلد الأخير، تشرح مقدمة المحرر أن ورثة فوكو قرروا أنه قد حان الوقت وأتت الظروف الملائمة لظهوره أخيرًا.

بناء على وصية فوكو نفسه، مُنع نشر كتاباته بعد موته وظل مصير المجلد الرابع من كتاب الجنسانية مجهولًا

كان فوكو كاتبًا دقيقًا مهووسًا بالتفاصيل، ومن نوع المفكرين الذين يسرهم دائمًا العمل على إعادة تحديد موقعهم وموقفهم وتجديد أسئلتهم. لو كان مقدرًا له العيش لمدة أطول لكان وسع من مشروعه تاريخ الجنسانية أو أعاد تشكيله مرة أخرى. ومن المؤكد أنه كان ليراجع المجلد الرابع في ضوء الاكتشافات التي توصل إليها في الفكر اليوناني والروماني.

ولحسن الحظ أسدى محررو "اعترافات الجسد" خدمة له (ولنا) برفضهم التخمين بشأن تلك المسائل وتخلوا عن تلك الرغبة الملحة لتزويد الكتاب بإحالات لأعمال فوكو الأخرى. بدلًا من ذلك اقتصروا على تتبع الاقتباسات الناقصة في الكتاب، ليصدر على نفس شاكلة المجلدات الأخرى ومتوافقًا معها. نتيجة لذلك، سيكافأ أولئك الذين تبعوا فوكو بصبر عبر متاهة التاريخ بالعديد من الأفكار والرؤى النافذة.

بالنظر للمشروع الأكبر لتاريخ الجنسانية في ضوء هذا المجلد المنشور أخيرًا، يتضح لنا أنه بالرغم من تغير نقطة التركيز وتقديم العديد من المسارات والخيوط الجينالوجية الأكثر تعقيدًا، ظلت جهود فوكو موجهة نحو حرمان نسختنا الحديثة من الجنسانية - التي اكتسبت صبغة طبية - من بداهتها وبالتالي من سلطتها. وجد فوكو إشكالًا في الطريقة التي تستقي بها ثقافتُنا فهمَها لما تعتبره طبيعيًا وصحيًا، من مجالات مثل علم النفس.

ففي النهاية، عندما بدأ فوكو مشروعه كان العديد من المتخصصين في أمراض الصحة النفسية يعتبرون المثلية الجنسية اضطرابًا عقليًا. لذا فكر في مواجهة التجربة الحديثة للجنسانية عبر "الأنظمة المختلفة" التي سبقتها وتصور مشروعه قائمًا على ثلاثة أنظمة أو أشكال مختلفة من التجربة: الأفرودية Aphrodisia والجسد والجنسانية. أمّل فوكو في خلق فسحة عبر التفكر في هذا التاريخ، تسمح له باتخاذ موضع مفارق لهذه التجربة الحديثة.

وكما بين فوكو في مجلده الثاني، فإن الأفرودية، وهي عبارة عن نظام فكري فلسفي وطبي بزغ عند الإغريق القدماء، انشغلت بالأساس بإقامة قواعد أخلاقية لضبط الذات لضمان عدم انسياق الذات للمتع والملذات التي تصاحب "أفعال أفروديت". في المجلد الثالث، يتفحص فوكو الكيفية التي أعيد بها تصميم وتحسين هذا النظام من قبل الرعيل الأول من  الفلاسفة الإغريق والرومان في القرون الأولى.

خلال تلك الفترة، هيمنت على التقاليد الأخلاقية الوثنية، العديد من أشكال التقشف التي يتناولها فوكو مجددًا في المجلد الثالث "اعترافات الجسد"، مثل الامتناع عن الإسراف والعفة وتفضيل العذرية واقتصار الاتصال الجنسي على علاقات الزواج والإدانة القاطعة لحب الصبيان. يظهر لنا فوكو كيف أعاد المفكرون المسيحيون الأوائل إنتاج التحذيرات القديمة بشأن التشنجات العنيفة التي تستحثها رعشة الجماع، إلى جانب التعاليم العملية التي تهدف للحد منها. بهذا الطريقة سعى فوكو لإظهار الثبات النسبي الذي اتسم به النظام الأخلاقي المعني بتحديد ما هو محرم وما هو مسموح به في الممارسات الجنسية، على مدار تاريخ الحضارة الغربية.

وعلى مدار هذا التحقيق الاستقصائي، يذكرنا فوكو على الدوام بأن المسيحية لم تبتدع الشك في المتعة، والذي تتهم به عادة، وأن الخوف من الفعل الجنسي هو فكرة قديمة قدم الفكر الغربي نفسه. لكن ما ابتدعته المسيحية هي الفكرة القائلة بأن هناك غاية للحياة الإنسانية تتعدى الصحة الجسدية وضبط النفس.

وباعتبار المسيحية عقيدة للخلاص، فالهدف من النظام الأخلاقي لها هو قيادة الفرد من هذه الحياة إلى الحياة الآخرة. لهذا تمثل أحد الأهداف الأساسية للمجلد الرابع في شرح الكيفية التي قاد بها الاشتباك مع فكرة الخطيئة الأصلية، إلى جانب التغييرات التي يزعم أنها أحدثتها في الطبيعة البشرية، وقادت المسيحيين الأوائل لابتداع طريقة لربط الذات بنفسها. يرتبط هذا الاتصال بالذات “rapport à soi”، وهي عبارة تكررت كثيرًا في عمل فوكو الأخير، بفهم فوكو للأخلاق، أو العلاقة المتغيرة تاريخيًا التي تفهم بها الذات نفسها بغرض إخضاع نفسها للنظام الأخلاقي الغربي. يعتمد نظام الجسد، كما يفهمه فوكو، على تقبل فكرة فساد الكائن البشري نتيجة للطرد من الجنة، ولذا على كل فرد بشري الانخراط في معركة روحية لاستعادة علاقته مع الإله.

بتقبل فكرة النزوع الفطري للخطيئة، يقر المرء في الوقت نفسه بأنه لا يمكنه تحقيق الخلاص بمفرده. يجب أن ينصاع الجسد لآخر حتى يجعله مطيعًا. في هذا الشأن، يؤكد فوكو على كيفية تشكيل الممارسات الرهبانية المبكرة لتجربة الجسد المسيحية بشكل جذري. على سبيل المثال، حدد يوحنا كاسيان الأدوات التي يتوقع من الرهبان المسيحيين اللجوء إليها لتمحيص وعيهم والاعتراف بأي دلائل على المعصية لآخر.

وكما اتضح، فقد حول كاسيان ممارسة استخدمت سابقًا من قبل فيثاغورس والرواقيين لتقييم أفعالهم (ولضمان نوم هانئ ليلًا) إلى أداة لاقتلاع الرغبات الدنسة. الأمر الذي مثل أهمية لدى فوكو هو تأطير كاسيان لعملية تمحيص الوعي بالحاجة الدائمة لطقس الاعتراف. هذه هي إحدى الطرق التي اتبعتها الثقافة الغربية لتبدع هذا الالتزام الدائم بوجوب قول الحقيقة عن نفسك.  كان هذا الطقس ضروريًا بموجب الفكرة القائلة بأن الشر يكمن في أعماق أفكار الإنسان بعد هبوطه من الجنة إلى الأرض. خصوصًا تلك الأفكار التي يصعب الإفصاح عنها. في حين كان بإمكان الفيلسوف الاعتماد على عقله لوضع أحداث اليوم في سياقاتها، كان على الراهب المسيحي أن يعتمد على إرشاد آخر لفعل ذلك.

يذكرنا فوكو على الدوام بأن المسيحية لم تبتدع الشك في المتعة، والذي تتهم به عادة، وأن الخوف من الفعل الجنسي هو فكرة قديمة قدم الفكر الغربي نفسه

سيكون من الخطأ معاملة المسيحية كما لو أنها ظهرت خلال القرون الخمس الأولى، وكأنها نظام موحد من الأفكار، وهي حقيقة يحاول فوكو وضعها في مكانها عبر استكشاف كتابات الكتاب المسيحيين من كلا التقليدين الغربي والشرقي. خلال هذا الفترة، تلاشت الآمال الأخروية ليحل محلها إدراك بأن عودة المسيح ربما لا تكون وشيكة. مع ذلك كان واجبًا عليهم تدعيم العديد من العقائد الرسمية، ولجأ الكتاب المسيحيون إلى طيف واسع من المصادر الفلسفية، يستمدون منها الإلهام. الأمر الأبرز أنه في غضون عدة مئات من الأعوام، تمكنت طائفة صغيرة من الأقلية المضطهدة من تحويل معتقدها ليصبح الدين الرسمي في روما.

مع ذلك، وبشكل عام، يخصص فوكو مساحة صغيرة للغاية لإعادة سرد هذا التاريخ لبث الألفة في قرائه تجاه سيرورة تطور العقيدة المسيحية، أو لتعريفهم بشكل مختصر بالبدع والهرطقات المختلفة التي واجهتها الكنيسة خلال مسيرة تطورها. ولأنه يهدف لبسط الأساس الذي قام عليه الشكل الجديد من التجربة الأخلاقية التي دشنها هذا التطور، فقد قدم المسيحية من منظور ممارساتها وشعائرها، أو بالأحرى من منظور علاقتها مع الذات التي خلقتها هذه الممارسات والأفكار المختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: "دعونا نتفلسفْ".. كيف سار عظماء الفكر عكس التيار

وبناءً على طريقة تنظيم المجلد، يبدو أن فوكو يرى بأن هذه التغييرات في علاقتنا مع الذات، بالإمكان تصنيفها وفهمها من منظور طرق الحياة المختلفة التي قد يتبناها المرء استجابة للعقيدة القائلة بأن طبيعة الإنسان فسدت بسبب الهبوط من الجنة: سواء عن طريق التبتل أو الزواج.

 يتوزع نص المجلد الرابع على ثلاثة أقسام رئيسية طويلة. فصل بعنوان "تشكل تجربة جديدة"، يحلل فيه فوكو الالتزامات والفروض المختلفة التي أعلن من خلالها المسيحيون الحقيقة عن أنفسهم قبل ظهور الاعتراف كما نعرفه الآن.

ثم يعيد فصل "أن تكون بكرًا" الكيفية التي حلت بها العفة، ليس باعتبارها تنازلًا عن الجنس، بل حالة يكون فيها المرء أقرب من الرب، مكان فضيلة كبح الشهوة الوثنية. وأخيرًا فصل "أن تكون متزوجًا"، الذي يقدم تحليلًا محكمًا للطرق المختلفة، وأحيانًا المتعارضة، التي سعى الكتاب المسيحيون من خلالها إلى شرعنة العلاقات الجنسية داخل منظومة الزواج وتبريرها.

ربما ليس من المفاجئ تخصيص قسم معتبر من هذا المجلد الرابع لتحليل عقيدة القديس أوغسطين المكتملة تجاه الجسد ومفهوم اللبيدو (الشهوة الجنسية) المصاحب لها. في الفترة التي سبقت نشر المجلد، ومن خلال الأدلة العديدة المتناثرة في كتابات فوكو الأخرى، توقع الكثير من الباحثين محتوى المواجهة الرفيعة بين أفكار أوغسطين وفوكو. بإمكاننا أن نرى الآن أن مكمن اهتمام فوكو الرئيسي، هو تحليل الطريق التي اتبعها أوغسطين لتحويل الرغبة الجنسية إلى خاصية وميزة تأسيسية للذات. بعد أوغسطين، لم تعد الرغبة مجرد شرّ خارجي وعارض يعكر صفو تفكر الراهب في ربه؛ بل أصبحت عنصرًا بنيويًا في تكوين الكائن البشري.

في ردود أوغسطين على البلاجيانية، وهي هرطقة إنكار الخطيئة الأصلية، يميز فوكو ما يسميه بـ "شهونة الجنس" وهو مفهوم يشير إلى فصل التكاثر الجنسي عن فعل الإرادة. يرى أوغسطين بأنه نتيجة لهبوط الإنسان إلى الأرض تلطخت إرادته بالشهوة الجنسية، وأعيق الكائن البشري تبعًا لذلك من تحقيق سيطرته المطلقة على ذاته. أجمع الكتاب المسيحيون الأوائل، وعلى خلاف التصور الشائع، على أن الخطيئة الأولى لا علاقة لها بالجنس على الإطلاق.

يستكمل أوغسطين هذا النمط من التفكير عبر الإصرار على أن الشهوة الجنسية ناتجة عن محاولة الإنسان الهروب من إرادة الله، وليست سببًا لها، وعلى الرغم من أنه يخالف هذا التقليد في النهاية، مرتئيًا أن التكاثر الجنسي لا بد وأنه قد حدث في الجنة، إلا أنه فرَّق بين هذا الجنس الفردوسي والجنس المضطرب القسري  الذي يعاني منه الرجال والنساء الهابطون من الجنان. قبل الهبوط، استجاب الجسد بما فيه من أعضاء جنسية بشكل كامل للإرادة.

يستكمل أوغسطين هذا النمط من التفكير عبر الإصرار على أن الشهوة الجنسية ناتجة عن محاولة الإنسان الهروب من إرادة الله، وليست سببًا لها

كان الإنجاب حينها أشبه ما يكون بزراعة البذور في الأرض، وتجردت الأفعال الجنسية من التشنجات التي أزعجت الأطباء الإغريق واليونانيين. لكن، وكعقاب على الخطيئة الأولى، فقد الإنسان تحكمه في جسده. وفقًا لأوغسطين، غطى آدم أعضاءه الجنسية، ليس خجلًا من أن يُرى، بل لأن عضوه الذكري تحرك رغمًا عن إرادته. أو كما يصف فوكو الأمر "الانتصاب في الجنس هو صورة لثورة الإنسان ضد الإله".

اقرأ/ي أيضًا: "حالة الاستثناء".. نظرية في القانون والديمقراطية

لهذا يضع فوكو أوغسطين على رأس منعطف حاسم في المجلد الرابع، وفي مسار تاريخ الجنسانية بشكل عام. فهم فوكو عمل أوغسطين باعتباره مركبًا من كثير من التقاليد التي سبقته، ونسب إليه وضع إطار نظري وحّد طريقتي الحياة هاتين، وهما التبتل والزواج، في كفاحهما ضد العدو المشترك: الشهوة الجنسية.

كتب فوكو قائلًا "بعبارة أخرى وبعيدًا عن المقارنة بين البكر والثيب والتي نشأت وتطورت قبله، لم يخلق أوغسطين شخصًا ثالثًا ولا شخصًا مركبًا، بل عنصرًا أساسيًا بالنسبة للاثنين: موضوع الرغبة".

أدى ميلاد "موضوع الرغبة" إلى تشعب الطريقة التي نفهم بها تاريخ الجنسانية الأوسع عند فوكو في اتجاهين مختلفين. الأول، هناك أدلة على أن أوغسطين كان ليمثل نقطة انطلاق جديدة لمجلد آخر من الكتاب، مخصص لشرح الكيفية التي أبدعت بها الكنيسة في فترة متأخرة من العصور الوسطى "قواعد محددة ودقيقة للحظات والمبادرات والطلب والقبول والرفض والأوضاع والإيماءات والمداعبات، وأخيرًا الكلمات التي يمكن استخدامها أثناء العلاقة الجنسية".

وفقًا لفوكو، فيما يتعلق بموضوع العلاقات الجنسية للأشخاص المتزوجين، "كانت مسيحية العصور الوسطى خصوصًا من القرن الثالث عشر وما بعده أول شكل من أشكال الحضارة تنتج قواعد مفصلة" بخصوص الجنس. وهكذا ينتهي المجلد الرابع بالتأكيد على أن نظرية أوغسطين للرغبة الجنسية أدت إلى تفكيك نظام الأفرودية، وإعادة تركيبه من منظور علاقة الذات بالرغبة.

وإشارة إلى عقبة التشنجات التي واجهتها المتعة والتي شغلت مركز القلب من النظام القديم، يشرح فوكو قائلًا "في المسيحية، تم تفكيك هذا الحاجز عن طريق قواعد الحياة وفنون ترويض الذات وقيادة الآخرين، عبر تقنيات التمحيص وطقوس الاعتراف، وعبر العقيدة العامة للرغبة والهبوط من الجنة والخطيئة...إلخ". بهذه الطريقة يخلص فوكو إلى "أن مواضيع الجنس والحقيقة والقانون ارتبطت عبر قيود قامت ثقافتنا بإحكام وثاقها بدلًا من تخفيفها". 

أما الاتجاه الثاني فهو أن "موضوع الرغبة" كان ليشكل جزءًا من رواية فوكو لكيفية صياغة نظام الجنسانية الحديث، وكذلك المقاومة المفترضة لهذا النظام، من منظور الرغبة. كان بإمكان فوكو بالفعل في عام 1976، رؤية أنه عبر إلزام الرغبة بقول الحقيقة عن نفسها، تمكّنت السلطة من إحكام قبضتها على الأفراد. ولهذا تساءل عن مدى نجاعة استراتيجية محاولة مقاومة السلطة عبر تحرير الرغبة. قال رأيه الشهير بأن "نقطة تجمع الهجوم المضاد لا يجب أن تكون الرغبة الجنسية بل الأجساد والمتع".

وفقًا لفوكو، "كانت مسيحية العصور الوسطى خصوصًا من القرن الثالث عشر وما بعده أول شكل من أشكال الحضارة تنتج قواعد مفصلة" بخصوص الجنس

كثيرًا ما اشتكى فوكو من أن أخلاقنا الجنسية الحديثة لم تنقطع أواصرها تمامًا مع إرث المسيحية الإشكالي تجاه الرغبة؛ ربما على الأرجح لم تنجح سوى في العودة إليه بشكل مثير للسخرية. ومن ثم، ما زالت هذه الأخلاق الجنسية الحديثة تعاني من نقص الاهتمام بالأفعال والمتع. أمل فوكو أنه سيكون قادرًا على إفساح الطريق لأخلاق جديدة، أو طريقة جديدة لإدراك الذات والآخر، تحدث توازنًا بين الاهتمام بالآخرين وتشكيل الفرد لوجوده الخاص، وذلك عبر مساءلة العمليات التاريخية المختلفة التي اُستُدخِلَ بها الجنس في لعبة الحقيقة والزيف. اعتقد فوكو أن مثل هذه الأخلاق الجديدة ستعيد للمرء استقلاله تجاه أفعاله، وستسهل إبداع متع جديدة عبر تحرير الذوات من القيود التي فرضت عليها باسم الرغبة.

لسوء الحظ، لم يعش فوكو بما يكفي ليرى بزوغ هذا الاقتصاد الجديد القائم على الأجساد والمتع، ذلك الذي بشر به في خاتمة المجلد الأول حين قال "ربما يومًا ما، لن يفهم الناس حقًا كيف تمكنت حيل الجنسانية من إخضاعنا لهذا التسلط الصارم للجنس، حتى أصبحنا ملتزمين بالمهمة اللانهائية التي تقضي بفضح سره واستخراج أصدق الاعترافات من الظلال". ومع نشر كتاب "اعترافات الجسد" كمجلد رابع في سلسلة تاريخ الجنسانية، أصبح لدينا نحن الذين جئنا بعده، مصادر وافرة تمكننا من فهم "فوكو الأخير"، والبدء في نقد وتغيير أنفسنا كذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما بعد الحداثة كبروباغندا للأنظمة

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل