16-يناير-2017

إدوارد سعيد في باريس 1996 (Getty)

يمكننا القول إنَّ إدوارد سعيد قد تعاطى مع التقليد الماركسي على نحو أكاديمي مخصوص، وهو ما يظهر في ارتكازه أحيانًا كثيرة على كتابات ثيودور أدورنو في الجمالية والموسيقى، وأطروحات جورج لوكاش في الأدب"البنيوية التكوينية"، وتنظيرات أنطونيو غرامشي عن المثقف والزمن، والكتابات المبكرة لليو ألتوسير، لكنّه -مع ذلك، وكما صرّح بنفسه غير مرّة- لم يكن ماركسيًا أبدًا، بل انتقد ماركس والنظرية الماركسية، من موقعه كأستاذ لنظرية الأدب، وأيضًا من موقعه كمنظّر مؤسِّس للدراسات ما بعد الكولونيالية.

وقد اشتبك معه، في واقعة ثقافية شهيرة، المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل، في كتاب له بعنوان: "هل القلب للشرق والعقل للغرب؟: ماركس في استشراق إدوارد سعيد" (1985)، حول علاقة ماركس بالفكر الاستشراقي وبالشرق الآسيوي، وكذلك فعل الماركسي السوري صادق جلال العظم (يكفي الاطلاع على الرسائل المتبادلة بينهما لمعرفة حجم الصدام)، كما وُوجه سعيد بنقدٍ من قِبل أوساط ماركسية/يسارية عربية نتيجة مواقف مشابهة لكن على تماس مع المشهد السياسي. ويُذكَر أن أسرته، التي تنقلت بين فلسطين ومصر ولبنان ثم أمريكا، قد تأثّرت بقرارات التأميم التي حصلت في عهد عبد الناصر.

 إدوارد سعيد لم يكن ماركسيًا أبدًا، بل انتقد ماركس والنظرية الماركسية، من موقعه كأستاذ لنظرية الأدب

لكن لم يمنع إدوارد سعيد ذلك المأخذ النقديّ للماركسية من مجافاتها بشكل نزيه و"ملتزم" يُعبِّر عن ذكاء أيديولوجي. فقد رفض أن يكون واحدًا من الجوقة الأكاديمية المكافحة للشيوعية زمن الحرب الباردة، بل احتقر هذه الممارسات بشدّة، ونقدَ ميشيل فوكو بشكل جارح وعاب عليه انضمامه لهذه الجوقة، ومن المعروف أن فوكو كان مكافحًا هستيريًا للشيوعية.

اقرأ/ي أيضًا: الصور النمطية.. بين هدر الواقع ومسخه

لقد تأثّر إدوارد سعيد بشدّة بمفهوم غرامشي عن الزمن في علاقته بالجغرافيا والأرض، والارتباط الوثيق الذي يوليه الفيلسوف الإيطالي بين الاثنين، على عكس تصور هيغل عن الزمن مثلًا. وكان قد قرأ غرامشي بالإنجليزية أولًا لكن أفكارًا كثيرة لم تكن واضحة في هذه الترجمة، ما جعله -في وقت لاحق- يعيد قراءته بالإيطالية، وهو ما جعل، بدوره، استيعابه لمفهوم الزمن الغرامشي أكثر وضوحًا (لكن لم تؤثِّر اللغة في قناعته أنَّ مفهوم "المثقف العضوي" محفوف بالإبهام). وفي رأيي، جاء موقفه المناهض للدعاية الليبرالية ضدّ الشيوعية، آنذاك، نتيجة لأشياء كثيرة من بينها أثر غرامشي عليه، خاصّة في أرضنته لمفهوم الزمن.

يولي مفكرنا الفلسطيني عناية لمكانيّة الفكر أو الفعل السياسي والثقافي، وقد لاحظ إدوارد سعيد ذلك في أعمال فوكو وتشومسكي (وكلاهما -على التباين القوي بينهما- قد أثَّر في تفكيره)، فقد تمّيزت بمكانية واضحة، يقول إدوارد سعيد: "أعتقد أن كليهما يتمتّع بحسٍ استراتيجي بالمعرفة، بحس استراتيجي وجغرافي مقابل الحس الزمني الذي ميّز أسلوب هيغل والأساليب التفكيكية في ما بعد. أسلوب فوكو وتشومسكي أكثر مكانيّة، وأعتقد أن غرامشي مهمٌ جدًا أيضًا في هذا الإطار باعتباره وسيطًا للاثنين. كنت أبحث عن وسيلة لأقوم بذلك بصورة فعالة وبليغة [...] لم أرِد لأسلوب فوكو أو أسلوب أي شخص آخر أن يطغى على ما كنتُ أحاول تقديمه. فكرة المعرفة غير القسرية التي أنهيت بها الكتاب [الاستشراق] قُصد لها أن تكون مخالفة لفوكو".

لطالما رأى إدوارد سعيد في القومية قوّة في مواجهة المستعمِر وأزمة في التحرر بعد الاستقلال

هذه العناية بمسألة المكانيّة تتضح في انزعاج إدوارد سعيد من الماركسيين السابقين أو المثقفين الذين استطاعوا الخروج من الاتحاد السوفيتي، وذهبوا إلى الولايات المتحدة وعقدوا لقاءات في التلفزيون والصحافة، للتحريض على النظام السوفيتي، أو تأليب العالم ضدّه، أو جني المال بشكل أو بآخر. كما تتضح أيضًا في تعليقات إدوارد سعيد على حرب الخليج الثانية وموقف بعض الليبراليين العرب منها. فمشكلة هؤلاء لا تتمثّل، عند سعيد، في انقلابهم أو رفضهم للأيديولوجيا الماركسية، لكن في الطريقة التي يفعلون بها ذلك: المواقف المجانية -المربحة- والانسياق وراء البروباغندا الغربية. لا يُنقَد هؤلاء في المُعجم السعيدي من منطلق شوفينيّ أو قوميّ (لطالما رأى سعيد في القومية قوّة في مواجهة المستعمِر وأزمة في التحرر بعد الاستقلال)، لكن من منطلق "مسؤولية المثقف" ومكانيّة الثقافة.

تظهر نزاهة هذا الموقف الأيديولوجي الذي يتبنّاه سعيد في حرص إدوارد سعيد الدائم، أولًا، على الاستقلالية الفكرية والعملية، وفي توجسه من أن يصير دمية في يد طغمة أو نظام ما، وهذه هي مسؤوليته كمثقف يبنغي أن يقف على مسافة نقديّة من الأنظمة. وفي أهمية البعد المكاني، ثانيًا، في الفكر والفعل السياسيين، وفي تحديد مدى مصداقية القول السياسي للمنظّر أو الناشط.