31-مايو-2020

تُعرف الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908-1986) من خلال كتاباتها ومؤلّفاتها وأفكارها المطروحة داخلها، باعتبارها المسار الأسهل لتشكيل صورة عنها وإن كانت موجزة، إلّا أنّها كافية حتمًا للتعرّف، على الأقل، إلى الطريقة التي تُفكِّر من خلالها، والكيفية التي تتعامل بها مع أسئلة الحياة وقضاياها الكُبرى. فيما بعد، ستسهّل مؤلفة "الجنس الآخر" عملية التعرّف إليها من خلال نشرها لمذكّراتها التي شكّلت صورتها كإنسانة بعيدًا عن الأفكار التي كانت تشغلها، ولكن دون أن تسقطها من المتن كونها كانت أساسًا في حياتها.

اختلطت مشاعر دي بوفوار، بالتالي مواقفها، من الجسد الأنثوي، خاصة جسدها هي وجسد أمها، لتبقى مراوحة بين النفور وبين التقديس حتى في أشد لحظات هذا الجسد ضعفًا أمام استحقاق الموت الفيزيائي

أصدرت بوفوار سنة 1964، بعد سنة على وفاة والدتها، كتابًا حّمل عنوان "موت عذب جدًا"، صدرت حديثًا عن (دار المدى) ترجمته العربية التي أنجزها كامل العامري، ليكون إضافةً مُهمّة لسيرتها المدوّنة في مذكّراتها وبين مؤلّفاتها، كونها تروي تفاصيل تجربة فارقة في حياتها كإنسانة ومفكّرة، وهي تجربة إصابة والدتها بالسرطان، ومجالستها لها في أيامها الأخيرة حتّى وفاتها، تاركةً برحيلها آثرًا على حياة بوفوار وكتاباتها التي عبّرت من خلالها على مدى الحيرة التي كانت تعتري علاقتها بها، أمّها.

اقرأ/ي أيضًا: "أنت قدري": أسرار علاقة دي بوفوار مع عشيقها الشاب في رسائل جديدة

الكتاب الذي جاء في أقل من 100 صفحة تقريبًا، صنّفته مؤلّفته كسيرة شخصية، إلّا أنّه لا يخلو من بصماتها الفلسفية المتولّدة من طبيعة علاقتها مع والدتها التي تراوحت، ولسنواتٍ طويلة، بين مدّ وجزء، وأخذٍ وردّ جعلت منها علاقةً مُضطّربة اختارت بوفوار أن تستعيدها وتُراجعها، بل وتُقيّمها أيضًا كمحاولةٍ لفهمها في الوقت الذي تعدُّ فيه أمّها أيامها الأخيرة. المراجعة نفسها وإعادة القراءة استمرّت حتّى بعد الوفاة، وكان لا بدّ لها أن تستمرّ لتُضيف الكاتبة الفرنسية إلى كتابها هذا، ضمنيًا، آثار هذه التجربة عليها بصفتها حدثًا فارقًا له انعكاساته لا على حياتها فقط، وإنّما على كتاباتها.

تروي صاحبة "المثقّفون" في كتابها هذا تفاصيل مُعايشتها لهذه التجربة، منذ اكتشاف إصابة والدتها بالسرطان، والكيفية التي تعاملت عبرها مع هذا الاكتشاف، وطريقة مواجهتها للأمر، ومواجهة الفاجعة التي ألّمت بوالدتها، وصولًا إلى الزيارات المُتكرّرة إلى المستشفى، وأثرها على أمّها التي وصلت إلى مرحلةٍ باتت فيها أدويتها عاجزةً عن تخفيف ألمها، في الوقت الذي وصلت فيه بوفوار إلى قناعةٍ بأنّ كلّ ما يُمكن بذلهُ من جهود لإنقاذ أمّها، وإن لوقت قصير فقط، بات دون فائدة.

هكذا، بين الاكتشاف الذي كان بمثابة الإعلان عن موتٍ قريب، وبين حدوث الموت نفسه، تقول بوفوار إنّ عُريَّ أمّها كان يضايقها، وأنّها حينما كانت طفلة، كانت مُنشدّة ومُنجذبة إلى جسدها الذي نفرت منه بعد بلوغها سنّ المراهقة.

 وبين محبّة سابقة ونفور لاحق، وفي ظلّ مجالستها لها في وضعها الجديد، اكتشفت الكاتبة الفرنسية أنّ جسد والدتها كان يحملُ من المعاني ما يجعله بغيضًا ومقدّسًا في وقتٍ واحد. لذا، كان أقرب إلى تابو وفق تصوّراتها وقراءتها له قراءةً مُتراوحة بين العاطفة والعقلانية اللتان كانتا على مستوى واحد مكّنها من النظر إلى هذه التجربة نظرة نقدية خالصة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النسوية.. عندما تضل المعركة وجهتها

جون أبدايك .. بريد إلى الغرباء