01-مارس-2020

الجيش التونسي في الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بن علي (كريستوفر فورلونغ/Getty)

الترا صوت- فريق الترجمة

 

كيف تنجح الثورات؟ وما هو دافع جزء من النظام القديم، وتحديدًا المؤسستين العسكرية والأمنية للانشقاق عن النظام القائم، في أوقات المظاهرات الحاشدة؟ يحاول المقال أدناه المترجم عن موقع Aeon الإجابة عن تلك الأسئلة.


ما الذي تتطلبه الإطاحة بديكتاتور مستبد؟ في معرض إجابته عن هذا السؤال كتب ليون تروتسكي في كتابه تاريخ الثورة الروسية الذي نشر عام 1930، قائلًا: يتحدد مصير كل ثورة في نقطة معينة بلا شك بمدى تغير موقف الجيش.. لهذا تمثل الشوارع والميادين والجسور وبوابات الثكنات ساحات صراع دائمة، ساخنة أحيانًا وهادئة أحيانًا أخرى، على قلب الجندي.

مهما بدت سلطة المستبد متمركزة ومتوحدة، لا يمكنه أن يحكم وحيدًا بأي حال من الأحوال. حين يهمل المنفذون واجبهم أو يتمردون، لا بد للنظام أن ينهار. وحين يتمسكون بولائهم يصمد النظام

فمهما بدت سلطة المستبد متمركزة ومتوحدة، لا يمكنه أن يحكم وحيدًا بأي حال من الأحوال. حين يهمل المنفذون واجبهم أو يتمردون، لا بد للنظام أن ينهار. وحين يتمسكون بولائهم يصمد النظام. لهذا التظاهرات بمفردها ليست كافية على الإطلاق للإطاحة بالمستبد.

اقرأ/ي أيضًا: استثناء الجيش التونسي في منطقة الانقلابات.. لماذا استمر في حياده السياسي؟

إبان الثورة التونسية، بدأ التمرد الذي أدى في النهاية إلى هروب الرئيس زين العابدين بن علي في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، في وحدة النخبة من قوات الشرطة التي كانت مكلفة بحراسة وزارة الداخلية، ضد أكبر مظاهرة في الثورة حتى ذلك الوقت. وحين زحفت المظاهرات باتجاه القصر الرئاسي، انتشر العصيان إلى مختلف وحدات قوات الأمن، وأجبر بن علي على الفرار بعدها بساعات. حين انقلبت الشرطة، سقط النظام.

لكن أسباب اختيار الشرطة أو الجيش لمسارات معينة، لا تزال غامضة. تركز التفسيرات السائدة لأسباب الانشقاقات العسكرية أثناء الثورات على المصالح الشخصية أو الاقتصادية. وفقًا لهذا المنطق، تحفز المظالم ظباطًا متمردين، يتحركون أملًا في وضع أفضل في نظام سياسي جديد. بينما يسعى الموالون للحفاظ على وضعهم وامتيازاتهم.

خلف هذه الواقعية الهوبزية المتشددة، يكمن مبدأ بسيط وبديهي، وهو أن الناس يفعلون ما يحقق أفضل منفعة لهم. لكنه يفشل في شرح سبب انشقاق رجال كرسوا حياتهم المهنية لخدمة الحكومة وأقاموا هويتهم المهنية على أساس صلب من الانضباط والطاعة. ولم تخبرنا هذه النظرية بالكيفية التي يغير بها أفراد الجيش والقوات الأمنية فهمهم لمصالحهم حين مواجهتهم للمظاهرات الحاشدة.

قرار التمرد أبعد غورًا من مجرد حماية المصالح المادية المباشرة والمفهومة. وكذلك يسهل في بعض الأحيان التغافل عن المعضلات الأخلاقية المتجذرة التي تفرضها عملية قمع الجماهير على الجنود ورجال الشرطة. تخيل بلدًا يشهد ثورة عارمة، عشرات أو مئات آلاف المتظاهرين يملأون شوارع العاصمة. لا يعود بإمكان الحاكم المستبد الاعتماد على أجهزة الشرطة السرية أو مكافحة الشغب. بل يجب عليه تحريك قوات الاحتياط، التي تحمل ذخيرة حية وليس لديها الخبرة والتدريب اللازم للتعامل مع الحشود. يواجه هؤلاء الرجال خيارًا صعبًا. فحماية النظام ثمنها نهر من الدماء. أما التهرب من الخدمة أو التمرد فعقوبته الموت أو مواجهة المحاكمة العسكرية.

حتى من لديهم خبرة في القمع، عادة ما يكون اضطرارهم لقتل عشرات أو مئات من الأبرياء خيارًا بغيضًا للغاية. فالمعضلة هنا أخلاقية وفردية، فهي تضع المرء بين اختيار خدمة النظام أو خدمة بلده. لكنه سرعان ما يصبح خيارًا جماعيًا، فحين يدرك ظابط أنه ليس وحده من يواجه هذه المعضلة، يبدأ بالتساؤل عن إن كان زملاؤه سيتبعون الأوامر. ومن هذه الشك تولد احتمالية انشقاقه وعصيانه للأوامر.

نادرًا ما نرى انشقاقات في صفوف الجيش والشرطة في مواجهة المظاهرات الصغيرة، لكنها تحدث دائمًا في الانتفاضات الثورية التي تجاوز الكتلة الحرجة، والتي لا تدع للنظام مهربًا سوى ارتكاب المجازر. في عام 2019 خرجت مظاهرات متفرقة في مواجهة قوات الشرطة في السودان لأكثر من ثلاثة أشهر متواصلة دون أن تؤدي إلى انشقاقات كبيرة، لكن حين أقامت المعارضة اعتصامًا أمام مقر الجيش في 6 نيسان/أبريل، اضطرب الجنود. وفي اليوم الثاني دافعوا عن المتظاهرين ضد المليشيات الموالية للنظام. وفي 12 نيسان/أبريل انقلب الجيش والأجهزة الأمنية على الرئيس عمر البشير.

التمرد الذي يبدأ أثناء الثورات ينتشر بين الجيش والأجهزة الأمنية انتشار النار في الهشيم. بدأت الثورة الروسية عام 1917 حين رفض عناصر كتيبة الخيالة في فولينسكي أن يكونوا أدوات للقمع لفترة أطول من ذلك. وعلى وصف المؤرخ السوفيتي إدوارد بورغالوف "سرعان ما انتشر هذا التمرد في الكتائب المجاورة في بيتروغارد، وبحلول المساء لم يكن بإمكان أي جنرال قيصري تولي مسؤولية الموقف للدفاع عن النظام المستبد". 

سيكون من الخطأ اعتبار هذه الوقائع أعراضًا لمظالم منتشرة وقديمة داخل القوات المسلحة وقوات الأمن. بل هي أقرب لمحاولات من الضباط الاصطفاف معًا. فما إن يبدأ التمرد، تدخل احتمالية الصراع بين الضباط المنشقين والموالين في حسابات الضباط. ويميل الموالون كثيرًا إلى الانضمام إلى التمرد لتجنب القتال. في تونس جذب قائد التمرد ضد بن علي وحدتين إضافيتين عبر ادعائه بأنه يعمل وفقًا للأوامر، وحين اكتشف زملاؤه كذبه، بقوا في صفه بدلًا من رفع أسلحتهم في وجهه. بعدها بدقائق، أقنع قائد قوات الأمن التابع لبن علي الرئيس على ركوب الطائرة والهروب إلى المملكة العربية السعودية، قائلًا إنه خشي حدوث مجزرة.

في حالات أخرى، يمتنع المتمردون المحتملون من المشاركة في الانشقاق بسبب اعتقادهم بفشله. في الصين، تعاطف الجنود مع المتظاهرين في ميدان تيانانمين عام 1989، وأدان الضباط علنًا قرار الحكومة فرض الأحكام العرفية. ورغم هذا الاضطراب، لم يقدم أي ضابط على المبادرة ببدء تمرد مفتوح. استعادت الحكومة زمام المبادرة وسحقت الانتفاضة. 

بلغة نظرية اللعبة، تمثل هذه الانشقاقات لعبة تنسيق. أي أنها مواقف يحاول الأفراد فيها اتباع نفس الخط على حساب تفضيلاتهم الشخصية لأن التصرف وفقًا للأهداف المتعارضة يمثل أسوأ الخيارات بالنسبة للجميع. على الجميع أن يتوقع ما سيفعله الآخرون، لهذا تحدد التوقعات، أي التصورات المشتركة عما سيحدث لاحقًا، سلوك الأطراف. يعتمد نجاح الانشقاق في اللحظات الثورية على مدى قدرة المنشقين على خلق انطباع بأنهم سينجحون لا محالة، وليس على مظالم مسبقة يعاني منها زملاؤهم.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية

لهذه النقطة تأثيرات إبستمولوجية عميقة على كيفية فهمنا لمسارات الثورات. عادة ما تبدأ الانتفاضات بطرق مشابهة، لكنها تتخذ مسارات مختلفة للغاية، ابتداء من الثورات السياسية، إلى استعادة السلطوية، والحروب الأهلية والثورات الاجتماعية. يحاول علماء الاجتماع السياسي عادة النظر إلى الأحداث التي تسبق الاضطرابات لتحديد الأنماط الكامنة التي تسهم في تشكيل العوامل المؤثرة في الحراك، مثل تركيب الطبقات الاجتماعية وبنية الدولة، والظروف الاقتصادية.

نادرًا ما نرى انشقاقات في صفوف الجيش والشرطة في مواجهة المظاهرات الصغيرة، لكنها تحدث دائمًا في الانتفاضات الثورية التي تجاوز الكتلة الحرجة، والتي لا تدع للنظام مهربًا سوى ارتكاب المجازر

لكن إن كانت القوات المسلحة هي العامل الأساسي المؤثر في نجاح أو فشل الثورة، وإن كانت مواقفها تتحدد على أساس زمني مؤقت في غضون ساعات أو ربما حتى دقائق، حينها تفقد النظريات البنيوية الساعية للثورات كثيرًا من قدرتها التفسيرية. إذا أردنا فهم أسباب اختلاف البلدان، يجب علينا أن نطور نظريات أفضل عن الأحداث الثورية المفصلية مثل المظاهرات الحاشدة والانشقاقات والتمرد داخل القوات المسلحة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الجيش.. من السياسة إلى الثكنة