15-يونيو-2023
أسامة أنو عكاشة ووليد سيف (ألترا صوت)

أسامة أنو عكاشة ووليد سيف (ألترا صوت)

في سهرة جمعت أصدقاء قدامى، أسهب أحد صناع الدراما بالحديث عما أسماه "الانحطاط المستمر للدراما التلفزيونية"، وقال إن المسلسل التلفزيوني يتحول، يومًا بعد يوم، إلى أداة ترفيه من الدرجة الرابعة، وأن جمهوره آخذ في الانحسار ويكاد يقتصر الآن على نمط معين من المتلقين، وهؤلاء بالضبط هم الذين سيساهمون في مزيد من التدهور فيما لو طبقنا قاعدة "الجمهور عاوز كدا"..

وأشار الرجل إلى مفارقة تعيشها هذه الصناعة، وتتمثل في التناقض بين تقدم تقني وتكنولوجي كبير من جهة، وهزال، بل وتخلف، في النصوص المكتوبة من جهة ثانية. مذكرًا بتلك الحقبة عندما كانت "النصوص العظيمة" تتعرض للإفساد بسبب تواضع الحلول الإخراجية، وسذاجة الحيل والخدع، وقلة حيلة مصممي المعارك ومشاهد الأكشن..

الدراما التلفزيونية انطوت، ومنذ انطلاقتها، على إمكانات فنية واجتماعية كبيرة، فهي تستطيع الوصول إلى الشرائح المختلفة من المجتمع، ومخاطبة جميع النماذج والأمزجة والمستويات في آن معًا. إنها "الأدب" الذي سينتشر على نطاق أوسع

ولقد انقلبت المعادلة تمامًا، إذ باتت العناصر الفنية التقنية في ازدهار مضطرد، ولكن بالمقابل "صارت عملة نادرة تلك النصوص الجيدة، الجادة، الرفيعة، المشغولة بقضايا وهموم اجتماعية وسياسية ومعرفية".

وأشار رجل الدراما المحبط إلى جانب آخر من المشكلة، فـ"صحيح أن المعاهد باتت تخرج أفواجًا متلاحقة من الممثلين الموهوبين، المعدين جيدًا ليكونوا نجومًا.. ولكن شخصية الممثل اختلفت في العمق. لم يعد الممثل حريصًا على شراكة فكرية ما مع صناع العمل الآخرين، لم يعد يبدي أي اهتمام بالمقولات والدلالات والأبعاد السياسية والاجتماعية.. ولم يعد يهتم بقراءة الكتب، أو حتى الادعاء بذلك.. صار الشباب يهتمون بتكبير عضلاتهم أكثر من تكبير عقولهم، وصارت الشابات مهووسات بجمالهن، حتى أن الواحدة منهن لا تكاد تبلغ الثلاثين حتى تكون قد خضعت لنصف دزينة من عمليات التجميل..".

كان بين حضور السهرة شاعر أربعيني، وقد أدلى برأي قاطع إزاء المسألة: "الدراما التلفزيونية كانت وستبقى هكذا. إنها، من حيث طبيعتها وبنيتها، محكومة بالتفاهة والسطحية". ولم نجد أي صعوبة في أن نعدد له عشرات العناوين التي تثبت بطلان رأيه.. مسلسلات كثيرة ساهمت في صياغة وجداننا، مثلها مثل كتب ومسرحيات وأفلام سينما.. وقد اقتنع الشاعر بسبب عنوانين تحديدًا: "عصفور النار" و"التغريبة الفلسطينية".

والواقع، وخلافًا لرأي شاعرنا السلبي، فإن الدراما التلفزيونية انطوت، ومنذ انطلاقتها، على إمكانات فنية واجتماعية كبيرة، فهي تستطيع الوصول إلى الشرائح المختلفة من المجتمع، ومخاطبة جميع النماذج والأمزجة والمستويات في آن معًا. إنها "الأدب" الذي سينتشر على نطاق أوسع، و"سيُقرأ" من قبل الجميع، دون إخلال بالسوية ودون إغضاب لدوائر النخبة.. حتى أن كاتبًا تلفزيونيًا مصريًا، هو أسامة أنور عكاشة، ظل حتى عمله الأخير يصر على تسمية مسلسلاته بالروايات، في تذكير لاستحقاق هذا النوع من الكتابة الانتساب إلى حظيرة الأدب. ولقد قدم عكاشة وزملاء كثر له، في مصر وسوريا والأردن.. أعمالًا كثيرة تصادق على مشروعية هذا الطموح.

وما الذي حدث للدراما التلفزيونية في العقد الأخير حتى تبدأ بالهبوط؟

تتعدد الإجابات، فهناك منصات الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي والتي شرعت في إحداث تغييرات عميقة في مفاهيم وتقاليد ورؤى كثيرة، ومنها الفن والإنتاج الفني.. وهناك الظروف السياسية التي أعقبت عقد الغليان العربي، وأنتجت دوائر قرار عربية متشنجة وغير متسامحة، كان أول ما فعلته، عندما استتب الأمر لها، هو إلغاء هوامش الإبداع التي كانت ضئيلة أصلًا. وبالطبع فقد نالت الدراما التلفزيونية النصيب الأكبر من التقييد بحكم انتشارها وجماهيريتها وبالتالي تأثيرها الواسع..

وهناك من يربط بين تراجع الدراما التلفزيونية، الرفيعة والجادة، وبين المآل المأساوي للطبقة الوسطى، ذلك أن هذه الدراما قد صيغت وفق أهواء الطبقة الوسطى وذائقتها، كما أنها حاكت تطلعاتها وطموحاتها بالترقي والتغيير، وعندما اكتمل انهيار هذه الطبقة فقد انهارت دراماها أيضًا، ليسود اليوم نوعان من المسلسلات: ذلك الذي يتحدث عن الطبقة المخملية في قصورها الفارهة وشركاتها الغامضة، حيث دسائس السكرتيرات وصراع الإخوة على "المستندات".. أما النوع الآخر فهو الذي يدور حول العشوائيات والمخدرات، حيث البطل الأسمر مفتول العضلات لا يكف عن ضرب الجميع، مع تشنيف آذان المشاهدين بـ"معسول الكلام" الذي يطال أحيانًا الأمهات والأخوات!