02-نوفمبر-2016

لقطة من فيلم "الختم السابع" لـ أنغمار بيرغمان

ببساطة.. ما إن يُقذف بكَ في هذا العالم حُرًا، حتى تكون مُدانًا من أعلى رأسك إلى أخمص قدميك.. أنتَ مسؤول حتى عن طريقة مشيك في الشارع.. الآخَر يتربص بك على الدوام؛ ليس لأنه شرير، وإنما لأنه يمثّل قانونًا في طريقة تناوله للطعام كحدٍّ أدنى؛ وعليك إزاءَ ذلكَ أن تختار وجهًا لنفسك.

الإنسان هو ذات حيوية من لحم ودم، وَجدت نَفسها في هذا العالَم دون أن يستشيرها أحد

وإني إذ أسمعكَ الآن تقول: "سأختار وجهًا لنفسي"، أقول أنا من جانبي إن اختيارك للوجه يعني تبنّيكَ لقضية ما (أن تكون لصًّا على سبيل المثال) وتكون مسؤولًا عن كل تَبِعاتِ تلك اللصوصية بالطبع، لأنك اتخذت هذا الوجه بحرّية.

اقرأ/ي أيضًا: محاكم التفتيش الإسبانية.. إما المسيحية أو الموت

تخيل أنكَ على حافة هاوية، أو حافة بناءٍ شاهق وأنتَ بكامل قواكَ العقلية، إن نظرتَ إلى أسفل ستجدُ في نفسك شعورين من الخوف؛ خوفٌ من السقوط، وخوفٌ من حافزٍ يدفعكَ لأن تلقي بنفسك. إن النوع الثاني من الخوف أو الهلع الذي سيُصيبك، ناتج عن إدراكك أنك تملك الحرية المطلقة في تقرير رمي نفسك من عدمه، وهذا الخوف يصيبكَ بالدوار.. وهذا ما يُسمى بـ"دوخة الحرية"، ويقترحُ مُطلِقُ هذا الوصف عليكَ أن تختبر هذا الشعور بالدوار في كل قراراتك الأخلاقية، ويذهبُ لتبيين أنها (الدوخة) وإن كانت تسبب القنوط، فهي تهزّك من غفلتك لِتعي الخيارات المتوفرة أمامك. وهكذا يزداد وعيك بنفسك، فتحسس مسؤوليتك الشخصية على الدوام؛ وانتهاجُكَ لهذا النظام يجعل منك كائنًا وجوديًّا.

الوجودية

الوجودية فلسفة، مذهب، مَشرَب، نزعة بشرية، طريقة… سمّها ما شئت؛ ما أوده الآن هو أن أضعك كقارئ أمام لحظات خاطفة وسريعة من عدة جوانب تصب في جوهر موضوعنا، لأنني لا أعتزم الحديث بتفصيل معمّق عن الوجودية واختلاف وجهات النظر فيها لدى معتنقيها كنزعة إنسانية؛ لذا سأكون على عجلة من أمري قدر المستطاع.

عزيزي القارئ، إن الإنسان هو ذات حيوية من لحم ودم، وَجدت نَفسها في هذا العالَم دون أن يستشيرها أحد، وعليها أن تُجسِّد نفسَها بنفسها، لأنها غير موجودة لشيء أشمَل منها إطلاقًا، أي أنها ليست ممحاة ولا قلم رصاص، ولا هيَ نعجة تذهب إلى المرعى فجرًا وتعود حالَ مغيب الشمس إرضاءً لمُربّيها؛ والإنسان هو كائن يشعر بالقلق، ويخاف الموت، وهذا ما يجب أن يدفعه لإدراك محدوديتهِ وهشاشة وضعهِ في العالم؛ وعلى الإنسان أيضًا أن يُعيد النظر ويركّز على تحليل العلاقة بينه وبين الموجودات المحيطة به دائمًا، كي يستطيع الكشف عن وجوده الأصيل، وينتشل نفسهُ من الضياع في الأداتية، وحياة الناس اليومية، وإلا فهو كائن ثرثار، ومُبهم في الوقت ذاته. أكرر.. ثرثار ومُبهم في الآن ذاته.

العقل البشري يقرر منطق تفكير كل واحد منا، إذًا.. خياراتنا التي تشكل ملامح وجوهنا يستحيل أن تكون متشابهة

إن ما سَبق، يفرض على الإنسان أيضًا أن يخشى اتخاذ القرارات المفصلية في حياته، ويخافَ التعدّي على حرية اتخاذ الآخَر للقرارات التي من شأنها أن تحدد ماهيته هو أيضًا؛ وتعني -بناءً على ذلك- أن لكل فرد معنى ومغزى يحدِّدُه بنفسه ولنفسه، لأن العقل البشري هو من يقرر منطق تفكير كل واحد منا، وهذا يعني أن خياراتنا التي تشكل ملامح وجوهنا يستحيل أن تكون متشابهة.

اقرأ/ي أيضًا: آسيا علي موسى.. ملتقى الأصوات المهمّشة

لقد أمتعتُكَ موسيقيًا ها هنا، وأنا على دراية بذلك، لكننا الآن سنستعرض موضوعًا أكثر ضراوة وشدة، أريدكَ أن تقرأه ببطء، ومما لا شك فيه أن ذلك من الأهمية بمكان لا يمكن نزعه.

أسبقيّة الوجود والماهية

مانريد ذِكره قبل الشروع بالحديث عن الوجود والماهية، هو أن أولى خطوات الوجودية أيها السادة بدأت مع قول أرسطو "أيها الإنسان.. اعرف نفسك بنفسك"، ثم تطورت شيئًا فشيئًا بعد ذلك عبر "سورين كريكغارد"، و"إدموند هوسرل"، و"كارل ياسبرز"، و"هايدغر"، و"جان بول سارتر" الذي بلورها في نهاية المطاف. وكثيرون أُخر.

بلورةُ "سارتر" لهذه الفلسفة جاءت ردًا على أسئلة كثيرة تتشابه مع أسئلتنا اليوم: "هل سقطت الأيديولوجيات بعد الحرب العالمية الثانية التي أظهرت وحشية الإنسان، وابتعاده عن كل الفلسفات الإنسانية، وعن الفكر الديني الذي يدعو للتسامح؟ لقد أُلقيت قنبلة نووية مدمرة على هيروشيما وأخرى على ناغازاكي، قَتلت وشوهت مئات الآلاف". 

البعض قال إن كل الأفكار العظيمة التي تناولت الإنسان قد سقطت أيضًا مع الحرب، بما فيها وجودية الأسلاف ذاتها؛ وهنا يمكننا الإشارة إلى أن بلورة الوجودية كفكرة تدفع بالإنسان إلى إيجاد ذاتيته، قد تمت بعد أعوام من الصراع الذي ذهبت فيه قيمة هذا الإنسان أدراج الرياح، وبات يشعر فيها أن (لا معنى لحياته وسط كل هذا الخراب إطلاقًا)؛ لكن "سارتر" دافع عن الوجودية ومدّها بحياة جديدة بعد الحرب، مفسرًا شكل العلاقة المطلوبة بين الفرد والمجتمع، ومفهوم الحرية.. فوقف مع ثورة الجزائر من منطلقاته الفلسفية الرافضة لاغتصاب حقوق الآخرين وحريتهم، وأيّد حقوق الشعب الفلسطيني من نفس المنطلق؛ وقدّم من جانبهِ "ألبير كامو" روايته الشهيرة "الطاعون" للحديث عن الحرب العالمية كـ"عُرس بشري"، وطقس مفعم بالحيوية الغرائزية، أشار فيها إلى أمور عدة، سأنوّه منها على الدور الذي يلعبه رجال الدين في مراحل الفوضى بالحديث عن البلاء وغضب الإله، وعن استماحتهِ عذرًا لرفع المصائب… ولو كانت المسيحية تتخذ من القرابين شريعةً لها، لم يكن "كامو" ليغفلها آنذاك.

والآن، لو تناولنا أيًا من الأشياء المصنوعة مثلًا الكتاب، أو سكينة من السكاكين، نجد أن السكينة قد صَنعها حِرفي، وأن هذا الحرفي قد صاغها طبقًا لفكرةٍ لديه عن السكاكين، وطبقًا لتجربة سابقة في صنع السكاكين، وأن هذه التجربة أكسَبته معرفةً هي جزء لا يتجزأ عن تلك الفكرة المُسبقة لديه عن السكاكين، ولا يتجزأ عن السكينة التي يصنعها؛ وأن الصانع كان يعرف لأي غرض ستُستخدم هذي السكين، وأنه صنعها طبقًا للغاية المرجوّة منها. وهذا يعني أن ماهيّة السكين هي مجموع صفاتها وشكلها وتركيبها والصفات الداخلة في تركيبها وتعريفها، كلها قد سَبقت وجودها، وبذلك يكون لهذا النوع من السكاكين وجود معين خاص به، وهذا الوجود هو وجود تكنيكي، بمعنى أن السكين بالنسبة لي هي مجموعة من التركيبات والفوائد، ونظرتي لكل الأشياء بهذه الطريقة تكون نظرة تكنيكية يَسبق فيها الإنتاج على وجود الشيء وجودًا محققًا. 

لا تدعو الوجودية إلى الإلحاد، وإنما لفهم الله فهمًا يتناسب مع حقيقة أنه عادِل

هذه الحالة تُنعَت بـ"أسبقيّة الماهيّة على الوجود"، أي أن وظيفة السكينة المرسومة في عقل صانعها سابقةٌ على صناعتها.. لكن هل يصح القول: حينما خُلق العالَم، كانت صورته قد تشكلت في عقل الله، وحينما خُلق الإنسان كانت صورتهُ ووظيفتهُ قد تبلورتا في عقل هذا الصانِع العُلوي أيضًا، وأن هذا هو ما فرضَ على الإنسان ما يُسمى بـ"الطبيعة البشرية"، المتمثّلة في أن كل ما يقوم به من أفعال هي ملاصقة ودالَّة على التصور الكلي للكائن البشري لدى الخالِق؟

اقرأ/ي أيضًا: مصطفى خليفة.. القبور ترقص في سوريا

قالت الوجودية منذ البدء إن "الوجود سابق على الماهية" لأن العكس بالنسبة لفكرة الحرية هو أمر كارثي؛ وقالت إن الجدال القائم، والأخذ والرد في موضوع وجود الله من عدمه لا يهمنا ولا يضرّنا في شيء، ولن نتطرق للحديث عنه؛ ولا بد أن "سارتر" قال ذلك من منطلق أنه من الواجب على الله (العظيم والمنصف) أن يتنحّى قليلًا لإتاحة الفرصة أمام العقل البشري إذا ما أراد تمييزهُ عن الحيوان، وإدانتهُ بشكل عادل في نهاية المطاف. 

اعتبرت الوجودية كذلك أن الله قد مات (مجازيًا)، أو لنقُل "الجنائني الساحر" قد مات، وأُوكلت مهمة تربية الزهور ورعاية الحدائق إلى الإنسان، لذا فعلى الإنسان أن يتحكم بحياته دون تبنّي أية فكرةٍ مُطلَقة، أو دعونا نُسميها في هذا المقطع "مبرر وجودي ما ورائي" يدفعهُ لاستثناء قيمتهِ البشرية على الأرض، والعمل بمقتضيات أُخرى، فالوجود لدى سارتر سابق على الماهية كما قُلنا.. الإنسان يولد ثم يبدأ بتحديد ما يريده، والإنسان هو من يتحكم بماهيّته وليس العكس؛ هو من يحدد نفسه، ويرسم وجوده وحريته وكيانه، وهو حينما يأكل ويشرب ويتحرك ويفكر، فهو إنما يقوم بكل ذلك بوجوده لا بماهيته؛ وإن لم يكن كذلك فبأي حق يمكننا أن نحاسب الإنسان؟، وبأي شريعة نُطلق صفة (عبد، حر، ملحد، مؤمن) إن لم يكن له أي رأي أو تدخّل في رسم ملامح ومعالم حياته المستقبلية؟ إن كان الله هو من يرسم ويكتب ويحدد فمن نحن إذًا؟.. وهأنذا لا أدعو كما لا تدعو الوجودية إلى الإلحاد، وإنما لفهم الله فهمًا يتناسب مع حقيقة أنه عادِل، وأننا أحرار فيما نفعل.

المبرِّر الوجودي

تحدثنا في مطلع هذا المقال عن القضية التي يتوجب على المرء تبنّيها، واخترنا اللص مثالًا؛ المبرر الوجودي عزيزي القارئ هو ذاته القضية التي ستتبنّاها كي تتابع الحياة كإنسان (أن تكون نعجة، أو بشرياً يتكاثر… الخ)، وانعدام هذا المبرر يفضي بك إلى الانتحار، الحقيقي برصاصة في الرأس، أو الفلسفي بأن تمارس العبث، إذ أن بعض الأفكار شأنها شأن الانتحار حين تُفضي بك إلى نتائج لا جدوى فيها من كل شيء؛ والوجودية هي واجِب الموَاجَهَة لكل ذلك. والنقد الموجَّه لـ"قذارة الجنس البشري" في غالبهِ محاولة للهروب من مسؤولية الإنسان تجاه نفسه استنادًا لذلك. يقول "نيتشه": "إنْ كان لديك ما تعيش لأجله، تستطيع تحمّل كل شيء!".. إن اخترتَ ألا تعيش ستتابع حياتكَ عابثًا أو تقتل نفسك، وإن اخترت ألا تتحمّل فستتابع حياتك عابثًا أو تقتل نفسك أيضًا.

ناقضت الوجودية كل الحركات الفلسفية التي كانت تدعو قبلها إلى صبّ الناس في قوالب تفكيرية وحياتية جاهزة

اقرأ/ي أيضًا: كيف تموّل داعش؟

والآن، سؤال يطرح نفسه بقوة: كيف يمكن للوجودية أن تكون واجب المواجَهَة؟ ما الذي يؤهلها لتكون كذلك؟ نقول: إن الوجودية ناقضت كل الحركات الفلسفية التي كانت تدعو قبلها إلى صبّ الناس في قوالب تفكيرية وحياتية جاهزة، يقول كارل ياسبرز: "يكفي للفرد أن يوجد، فبهذه الواقعة نفسها نتجاوز الموضوعية. وهذا هو مبدأ كل فلسفة للوجود. ولا أهمية لها إلا في نظر الأشخاص الذين ارتضوا أن يكونوا أنفسَهم، واختاروا الوجود الحقيقي الأصيل، لا الوجود الزائف غير الأصيل. وتبدأ الأصالة من الصمت، وتنتهي به، وغايتها الوحيدة هي معرفة معنى الوجود".

ويقول غابرييل مارسيل: "حينما يشعر الإنسان بالاغتراب وما يصاحبه من يأس وقلق، يشعر في قرارة نفسه بالحاجة إلى الوجود الحق، ويتولد لديه الإحساس بأن العالم واقع مستور محجوب عنه؛ سِرٌّ لا حل له، حاضرٌ حضورًا دائمًا، ونحن نشاركه هذا السر دون معرفته".

من ذلك برزت أهم سمات الوجودية كنزعة بشرية، في انطلاقها من الحياة العاطفية لدى الإنسان، والتي أهملتها الفلسفات السابقة، واعتبرتها جزءًا من علم النفس حين قالت إن العقلانية تتعارض مع إقحام المشاعر البشرية في الفلسفة. إلا أن الوجوديين ذهبوا إلى أن هذه الموضوعات هي التي تجعلنا نندمج مع العالم. ولذلك فقد أثبت الوجوديون من كيركغارد إلى هايدغر ثم سارتر، أن تحليل الحالات الوجدانية كالقلق، والملل، والغثيان، هي أهم الموضوعات الفلسفية. وعلى ذلك نَمَت الأفكار الرئيسية للوجودية من الهم الذي يعيشه الإنسان كموجود ملقىً هناك (Dasein)، دون مخرج (Huis clos)، فالوجودية أحدثت ثورة انفتاحية على هذا الانغلاق، لتوكيد قدرة الإنسان على إعطاء معنى للعدم، عبرَ سَبْرِ أغواره ومن ثم تجاوزه. وهذا ما يجعلها نزعة نابعة من تجربة حياتيّة مُعاشة، وهي تبدأ عند ياسبرز من "إدراك هشاشة الوجود"، وعند هايدغر في "السير باتجاه الموت" وعند سارتر لدى الشعور بـ"الغثيان".

ولِنوضّح ما سبق نقول، إن القلق مثلًا هو الموقف الذي يدرك فيه الإنسان قمة تلاشي ماهيتهِ البشرية، ومدى ضآلة وضياع موقفهِ في العالم. والقلق ببساطة يكشف للإنسان عن الحرية، فهو كيفية وجود الحرية باعتبارها شعورًا بالوجود، فالأنا التي أكونها الآن تعتمد على تصوّري لأنايَ التي لم تتحقق بعد في المستقبل (كيفَ لا والموت ينتظرني وعليَّ الاستعجال) كما أن هذه الأنا المستقبلية التي لم تتحقق، تعتمد على الأنا الحاضرة الآن، لأنها نفسها مستقبلي الخاص، وهي ماهيتي التي ستتكون وفقًا لأفعالي الحالية والمستقبلية. لكن الإنسان يسعى دائمًا إلى الهرب من القلق الذي يفرض عليه هذه الضرورة الدائمة.. الإنسان يهرب دائمًا من القلق الذي يحرّضه على اللحاق بما هو كامن وراء ذاته.. يهرب نحو مستقبل هو نفسه عبارة عن حالة هروب مستمر. وهذا الهروب هو ما يسميه هايدغر "السقوط" أو "الابتذال" أو "الوجود الزائف"، لذلك تراه ركّز على أن الإنسان ما خُلق إلا ليتابع سيره نحو الموت.

إذًا، الوجودية هي واجب المواجهة لأنها الخطوة الأولى والحتمية النابعة من مشاعر الإنسان، ولأنها طريق الإجابة الأمثل وربما الوحيد على الأسئلة الوجودية الأولى التي يطرحها المرء على نفسه.

أيها السادة، إن الوجود البشري في إطاره العقلاني هو تحضير ومواجهة مع الموت بكل تأكيد، إذ لو كانت الحياة أبدية، لما كان لوجودنا فيها أي معنى، أو حاجة للبحث عن معنى حتى، وهي مع الموت تَجعل منا أكثر شجاعة ورغبة بالاستمرار، وهي من يُعطي لأفعالنا جميعها قيمة الفعل، بعيداً عن ماهية هذا الفعل إن كان خيرًا أو شرًا.

لا يرى تنظيمُ الدولة الإسلامية في قراراته التي يتّخذها إلا تخليدًا لفكرة أن هذه الحياة بلا معنى

اقرأ/ي أيضًا: هل سيحارب العالم داعش؟

يُقال إن ثلاثة أصدقاء قُتلوا بحادث طرق، فقال لهم ملاك الموت: سأُلبي لكل واحد منكم أُمنية؛ ماذا تريدون أن يقول أحبتكم عنكم وأصحابكم قبل الدفن؟
قال الأول: ليقولوا إنه كان معلمًا بارعًا، وموته خسارة للعلم.
قال الثاني: ليقولوا إنه كان كريم الأخلاق، محبًّا لمساعدة الغير، وسيفتقده مجتمعنا. 
قال الثالث: ليقولوا.. توقفوا لا تدفنوه.. إنه يتحرك!!
هذا هو معنى أن تحتكَّ بالموت على الدوام… توقفوا لا تدفنوه… إنه يتحرك.. ثمة الكثير ليفعلهُ أو يقوله.

تنظيم دولة الإسلام

لا أريد هنا أن أبدأ بمقدمات أتحدث فيها عن تنظيم غني عن التعريف، ولا أن أضع بعين الاعتبار أمورًا تطرَّق لها القاصي والداني، إنما أودّ حقيقةً أن أضع خطوطًا عريضة تصبُّ في فحوى مقالنا (مثلما اعتدتُ على القول منذ البداية)، وأنوّه إلى ضرورة فهم أُخرى.

تنظيمُ الدولة الإسلامية لا يرى في قراراته التي يتّخذها اختيارًا لماهّيته ووظيفتِهِ المُحدَّدَة مُسبقًا من قِبل الإله، إنما تخليدًا لفكرة أن هذه الحياة بلا معنى، ولا يجدر بها أن تُعاش (عَبَث)، وأن حياةً أُخرى تنتظره.. وعليهِ فالعالَم بحجرهِ وبشرهِ أداةٌ لتحقيق تلك الغاية. وهذا هو حال الجهاديين في كل أنحاء العالم؛ وأتذكّر جيدًا كيف استخدمت "جبهة فتح الشام" (النصرة سابقًا) جزءًا من محاضَرة لـ"نعوم تشومسكي" تتحدث عن نهاية العالم، وعن عدم رغبة الحكومات الغربية بوضع حد للصراع الدامي في سوريا، وذاك لتبرير وجهة النظر تلك، ولتأليف الحس الجمعي للسوريين المضطهَدين حولها في أنه "لا خُبزَ لكم هنا.. تعالَوا لنقاتِل دفاعًا عن قضايانا" المتمثّلة طبعًا بالدفاع عن نساء وأطفال المسلمين (مبررات وجودية)، أو عن الدين (مبرر وجودي ماورائي) الذي يشكِّلُ الموتُ دفاعًا عنهُ سبيلًا للخلاص والراحة من كل هذا الإخفاق المسمى (ظُلمْ)، ومن جانبٍ آخر يُقال: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".

ننوه هنا إلى أن حديثنا عن تنظيم دولة الإسلام في المقطع القصير أعلاه، هو خطف سريع أشبه مايكون (إن صحَّ ذلك) باستراقة النظر إلى قرص الشمس، نريد من خلاله دفع القارئ إلى التساؤل وتحريضه وتهيأتهِ إلى ما سيأتِ تباعًا من حديث. لذلك أود أن تُعاد قراءته مجددًا.  

اقرأ/ي أيضًا:

الضباب والنثر الجميل

أصل العالم.. رجل قتلته امرأة نصف عارية