06-سبتمبر-2015

مقطع من الكتاب

ينتهي الجزء الأول من قصة رياض صطوف المصورة، "عربيّ المستقبل" (2014)، بمشهد يبدو فيه بطلها الصغير، رياض صطوف نفسه، مصابًا بالهلع وهو يقترب من الطائرة التي ستعود به هو وعائلته من فرنسا، بلد أمه، إلى سوريا، بلد أبيه. 

لا تكف المعلّمة، التي تشكّل نموذجًا لمعلّمي "البعث"، عن معاملة الطلاب كحيوانات

الطفل الأشقر الذي قضى سنواته الست الأولى بسبب من قرارات أبيه ومشاريعه، بين "ليبيا معمر القذافي" و"سوريا حافظ الأسد"؛ ها هو محكوم، مرة أخرى، بالعودة إلى سوريا الثمانينيات ليقضي هناك سنةً دراسية هي موضوع الجزء الثاني من قصته، الصادر أخيرًا في أكثر من عشرين لغة ليست العربية واحدة منها؛ سنةٌ، شمسيةً كانت أم مدرسية، تبدو طويلةً جدًا بالنسبة إلى الطفل الصغير.

يُفتتح الجزء الثاني من القصة بعودة العائلة، إذًا، إلى قرية الأب، تيرمعلة، قرب حمص. بيوت طينية وأكياس بلاستيكية تطير في هواء القرية الملوّث. إننا، نحن القراء الذين يرون القرية والعالم بعيون الطفل رياض صطوف، في بيت الجدة الملفّحة بالعباءة والتي انحنى ظهرها ولم تعد تستطيع المشي. الجدار، وراء الجدة، مشقّق. يلاحظ الطفل خلوّ البيت من أنس ومختار، ابنَيْ عمّه اللذين أرادا "قتله" لأنه "يهودي" أشقر، فتخبره الجدة أنهما ذهبا لرعاية الماعز مثل كل الأولاد الجيدين، وأنهما يساعدان العائلة ولا يعودان إلى البيت إلا في وقت متأخر.. في غمزة وإشارة إليه، هو الصغير "النعنوع" الذي لا يفارق حضن أمه.

أيام قليلة بعد وصول العائلة، سينفّذ الأب رغبته في إرسال صغيره إلى المدرسة السورية، متجاوزًا في ذلك احتجاجات زوجته التي ترى أن رياض ما زال صغيرًا ولا يجيد العربية بعد. "سيتعلمها هناك"، يجيبها الأب المغرم ببطولات عبد الناصر وصدام حسين والقذافي وحافظ الأسد. بعد أن يشتري حقيبته البلاسيتيكة الرخيصة، والثوب المدرسي العسكري مع الإكسسورات الخاصة به، سيتجه الطفل الصغير إلى المدرسة التي سوف يكتشف فيها "حقائق" لم يكن على علم بها. الحديث هنا ليس فقط عن عدم وجود دورات مياه هناك، بل أيضًا عن أن المدرسة في سوريا هي، قبل أي شيء، العصا. ومدرسة رياض صطوف ليست استثناءً من هذه القاعدة. معلّمته لا تفارقها عصاها. وكأن حضورها الدائم مع العصا هو الشيء الوحيد المتبقي في مخيال رياض حول المدرسة السورية التي لم يعد إليها منذ ذلك العام، لحسن حظّه.

سنعرف، مع تواتر الصفحات، أن طلاب هذا المدرسة يقضون وقتهم في تعلّم النشيد الوطني وفي تلقّي لسعات العصا الغليظة. المعلّمة، التي تشكل نموذجًا لمعلّمي "البعث"، لا تكف عن معاملة الطلاب كحيوانات. إنها تؤدي دورها بشكل ممتاز كجسر رئيسي بين نظام الأسد الدكتاتوري والأطفال. في إحدى الصفحات، تخبر الطلاب أن "لدينا غدًا مناسبة كبيرة في بلدنا: هناك انتخابات رئاسية. يعني ذلك أنه يجب علينا جميعًا أن نقول "نعم لرئيسنا حافظ الأسد. هذا حوار بيننا، نحن الشعب، وبين رئيسنا". وتكمل: "سوريا، مع الاتحاد السوفييتي، من أكثر البلدان تطورًا في العالم. إننا من الدول القليلة التي تطلب من الشعب رأيه.. وهذا دليل على التواضع الكبير لرئيسنا"! 

في الاستراحة، سيتعلم الطفل صطوف من أصدقائه لعبة "الحرب مع إسرائيل". تقوم هذه اللعبة، كما يخبرنا، على مبدأ مطاردة اليهود، الأعداء، وقتلهم. وباعتبار سوريّته، هو الأشقر، موضع شكّ لدى زملائه، فإن رياض، كما يخبرنا، سيحاول قتل أكبر عدد من اليهود مبديًا أكبر قدر من العنف ضدهم، فقط ليفوز بتقبّل زملائه وليؤكد لهم أنه مثلهم وليس يهوديًا، كما يتّهمه البعض.

هذه الأجواء القائمة على إزاحة الحقائق عن مكانها واستبدالها بمفاهيم وشعارات وقصص مصنوعة وممهورة بختم الدعاية والدكتاتورية والطاعة لها، لا تقتصر على الطلاب وعلى المدرسة، ولا على دين أو طائفة أو جنس أو عمر معيّن؛ الجميع تقريبًا، كما نرى على صفحات "عربي المستقبل"، يساهم في جرّ الحقيقة إلى الأسفل وإعلاء حقائق نظام الأسد مكانها. حتى الأطفال ذوو الأعوام الستة، الذين ليسوا إلا انعكاسًا لما يسمعونه في المنزل والشارع والمدرسة، يؤدون دورهم أيضًا في هذه اللعبة التي علق السوريون فيها طويلًا. في أجواء كهذه، لن يمكن الشك إطلاقًا بأن حافظ الأسد بطل مخلّص للسوريين، فصُوَره في كل مكان، وحبّه يُسمع على ألسنة الضبّاط والأطفال ويُشاهد في تلفازٍ يعرض صور مقاتلات يأكلن رؤوس أفاعٍ إثباتًا لوفائهن للقائد. 

أما الغرب، في الأجواء نفسها، فهو، باستثناء الاتحاد السوفييتي، مجموعة من اليهود والإسرائيليين والعملاء المتآمرين. في مقابل هذه الثوابت السورية التي كانت تحيط برياض في كل مكان، والتي كانت تشكّل المجال السياسي للحياة السورية في ذلك الوقت، كان ثمة حقائق ومآس أخرى موازية في مجتمع القرية التي قطنها الطفل الصغير مع والديه. الحديث هنا عن البؤس والفقر وانتشار الخرافة والجهل وكذلك الفساد. النساء لا يأكلن مع الرجال. إنهنّ لا يأكلن، بالأحرى، إلا عندما ينتهي الرجال من طعامهم ويتركون لهنّ ما سيأكلنه. في أحد الأيام، تُتهم واحدة من الأقارب بأنها جلبت العار للعائلة؛ فتُقتل، بمباركة الجميع، بما فيهم والد صطوف، الذي ينصاع إلى هذا العرف البدائي رغم أنه أستاذ جامعي يفترض به أن يكون متنوّرًا وذا أفق نقدي تجاه هذه البدائية. وبفضل الفساد، فإن قاتل هذه الفتاة سيخرج من السجن بعد أشهر قليلة من دخول إياه.

الأطفال ليسوا إلا انعكاسًا لما يسمعونه في المنزل والشارع والمدرسة

كل هذه المآسي السياسية والاجتماعية تتموضع عند مستوى القراءة الثاني للقصة. مآس مغلفة بإطار كوميدي يشكل أرضية القراءة الأولى. فشخصية الطفل رياض، الساذجة، البريئة، تقود القارئ إلى مواقف طريفة بسبب من صمته وحياديته إزاء الآخرين وتصرفاتهم العنيفة والصارمة وحتى الإيديولوجية. كذلك الحال بالنسبة لشخصية الوالد، الريفي التقليدي والمعتز بانتمائه القومي والحالم بمكانة أعلى على السلم الاجتماعي حتى ولو بالفساد، وبالنسبة لشخصية الأم الناقدة لتصرفات الأب والأفعال الخرافية والعادات الرجعية، لكن الصامتة والموافقة على خيارات زوجها. حال هذا الطفل الحيادي بين والدين بشخصيتين نمطيتين مختلفتين قد يورّط القارئ لدخول اللعبة والوقوف إلى جانبه بغية اختيار مكان له قرب هذا أو ذاك، في محاولة من هذا القارئ لإتمام قراءته وتنفيذ دوره، بسهولة، كمنفعل بهذه القراءة.

على أي حال، فإن من البداهة، ربما، القول إنه لم يكن لنا لنحظى بقصة كهذه لولا "الثنائية" و"التباين" اللذين شكّلا طفولة الفنان الفرنسي - السوري. هذا التباين، الذي يشكل مفتاحًا لقراءة "عربي المستقبل"، يتمثل، في أبسط صوره، بالتجربتين المختلفتين اللتين عاشهما البطل الصغير وبالتصوّرين المختلفين للعالم اللذين أحاطا به واللذين نُقلا إليه عبر والديه وعالميهما المختلفين. عصَبُ الحكاية ومعنى تصرفات شخصياتها يقومان، وفقاً لهذه القراءة، على هذا التباين الذي عاشه صطوف وطبع مشاهداته. بعبارات أخرى، إنّ أي حدث في القصة وأي تصرف من تصرفات شخصيتها السورية، مثلًا، يبقى ناقصًا وغير مكتمل المعنى، في سياق القصة، إن لم نقارنه بمقابل فرنسي، أو إن لم نقرأه على ضوء اختلافه وموقعه من هذا المقابل.

ويبدو أن عملية كتابة القصة والتفكير بها خاضعة، هي ذاتها، في الأساس، لهذه الثنائية. باختصار تبسيطيّ فجّ بعض الشيء، يمكن القول إن رياض صطوف الفرنسي يروي، كفنان، في "عربيّ المستقبل"، طفولته السورية، أو إن طفولة رياض صطوف السورية ترشح إلينا بعد تمريرها في مخبر الفنان الفرنسي.