17-فبراير-2019

سناء عون (تصوير رامي العاشق)

أن تحكي، أن تحكي فقط، هو كل ما تريد الكاتبة والقاصّة السورية سناء عون أن تفعلهُ في مجموعتها القصصية الجديدة "حيث تشير البوصلة"، (منشورات المتوسط، 2018). الكاتبة المقيمة في النرويج، لا تبدو معنيةً بالعمل على إنتاج نصوصٍ أدبية فنيّة بقدر ما هي معنية بكتابة أوجاع الآخرين. وكذلك، أن تخبرنا قصصًا عن الحرب والموت والتشرّد والحياة في ظلّ كلّ ما سبق.

أن تحكي، أن تحكي فقط، هو كل ما تريد الكاتبة والقاصّة السورية سناء عون

إنّها تكتب من قناعةٍ مسبقة بضرورة أن تحكي، وبعدم جدوى الصمت. من هنا تحديدًا، تبدأ الكتابة عند سناء عون، فتبدأ بوصف مصائر البشر في مجتمعات تعيش واقعًا يدفع ببشره نحو الجنون، أو يضعهم عند حافة الانتحار، فيبدون في العمل شخصيات بأرواحٍ مشبعة بالأسى، والكآبة، والاغتراب.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة سناء عون

تكتب سناء عون القصص كأنّها، في مكانٍ ما، استقصاء. تفعل ذلك بلغةٍ تتعمّد البساطة، وأسلوبٍ ليس بمعزلٍ عن الأخيرة كذلك الأمر. وبهذا الأسلوب، يبدو النص أكثر قربًا من أولئك الذين تُطارد عون حكاياتهم، وتحاول أن تنطق بشجونهم، وتترجم أزماتهم، وفي مكانٍ ما، أن تحررهم من ثقل كلّ ما سبق. فالكلام هنا محاولة أخيرة للخلاص، فرصة لنقل ما يعتمل داخل النفوس من الحيّز الضيّق والخاص إلى العام، فلا تعود أسرارًا، ولا تضطّر الشخصيات للاستمرار في عيشها بمفردها، فسناء عون تشتغل على إشراكنا كقرّاء في الحكاية/ المأساة.

سناء عون لا تعوز الفنتازيا في إنجاز وبناء قصص المجموعة. ولا تنشغل كذلك في البحث والتنقيب عمّا يمنح النص بُعدًا أو طابعًا فانتازيًا، ساخرًا أو صادمًا، فالواقع مليء بما لا يُصدّق. هكذا، نقرأ عن امرأة تجمع صورًا من أنقاض المنازل المدمرّة، في أثناء بحثها عن ابنها المفقود؛ صورًا ليست كاملةً، مشوّهة، تشرع المرأة في ترميمها باستخدام إبرةٍ وخيط، فتضيف يدًا هنا أو تضع رأسًا هناك. تلصق رأس امرأة بجسد رجل، أو طفل، أو تفعل العكس. تحاول أن ترقّع الصور، ولكنّ الأخيرة تزداد تشوّهًا، "بدت الصور كاريكاتورية" تقول روز.

صورةً وراء أخرى، يتحوّل الجدار إلى معرضٍ للصور المقطّبة بالإبرة والخيطان. الجدار بدوره يتحوّل إلى كومة ركام، وروز تلفظ أنفاسها الأخيرة بين الصور التي قطّبتها، كما التقطتها عدسة صحفية تنال جائزة عن الصورة الأخيرة، دون أن تمرّ على ذكر روز، أو أي شيء يتعلّق بتلك المرأة. هذا ما يتعلّق بالحكاية التي ترويها عون، أمّا في دلالاتها وإشاراتها، نجد أنّ القصّة تثير الكثير من الأسئلة: كيف يصبح السكّير مقاتلًا في صفوف الجماعات الإسلامية؟ كيف يمكن للإنسان أن ينقلب فجأةً من أقصى الشمال إلى اليمين، أو العكس؟ ما الذي يدفع روز لأن تجمع الصور من أنقاض المنزل وتطبيقها؟ كيف يمكن للإنسان أن يؤدّي دور الضحية، مكرهًا، أكثر من مرّة؟

تثير عون هذا النوع من الأسئلة للإشارة إلى الالتباس الذي يعيشه المجتمع السوريّ في سنوات الحرب هذه. وأيضًا، كنوعٍ من التهكم عن السياسة ومحاولة تقزيمها والسخرية منها، وتحويلها إلى أمرٍ يبعث على الفكاهة، دون أن يغيّب ذلك من الحزن الذي يلفّ القصص، فالأخير له اليد العليا في تحديد نهايات القصص.

تجمع سناء عون في قصّة أخرى الوجع السوري في مكان ووقت واحد؛ بيت عزاء يجمع نساء سوريّات ليست هناك واحدة منهنّ ليس لها ميّت أو مفقود. العزاء مساحة للتجاذب السياسي، وإلقاء اللوم على طرفٍ دون آخر من أطراف الحرب الدائرة، ولكنّ التجاذبات التي توسّع الشرخ بين الحاضرات، تختفي حين يتحوّل العزاء إلى مكانٍ تُقارن فيه درجات وجع الوفاة، وشكلها، ودرجة بشاعتها. وكلّما قلّت الدرجة الأخيرة، توجّب على النساء حمد ربهنّ.

تثير سناء عون الكثير من الأسئلة للإشارة إلى الالتباس الذي يعيشه المجتمع السوريّ في سنوات الحرب

هناك امرأة فقدت ابنها، وهناك أخريات كثر حدث لهنّ الأمر ذاته، ولكنّ الفرق يكمن في أنّ الأولى لابنها قبر يدلّ على وجود جسده داخله، بينما الأخريات لا قبر لأبنائهنّ لأنّ لا أجساد يتأكدن من خلالهنّ من موتهم. وهناك من فقدت أبنائها الأربعة في المعتقل والمعارك والبحر، أثناء رحلة لجوء. وهناك من فقدت ابنها صغيرًا لا يتجاوز 7 سنوات. هكذا، يصير فقدان البطلة لأمّها بشكلٍ طبيعي، أمر لا يستحق الاهتمام، ولا يُقارن بمصائب النساء الأخريات.

اقرأ/ي أيضًا: في جهة الشام المُتخيلة

استكمالًا للخراب السابق، تكتب سناء عون عن تحوّل الأرقام في جوّالاتنا أثناء الحرب إلى إشارة للأموات والمفقودين والمهاجرين، وضرورة التخلّص منها، والاحتفاظ بأرقام بائعي الغاز والماء والخبز والوقود. وفي كل القصص الأخرى، ليست هناك منعطفات حادّة، أو طرق خلفية تسلكها الشخصيات في القصص، ولا حيرة في اختيار الطريق، فليس هناك طريق آخر سواه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القصة القصيرة جدًّا.. الكتابة بمنطق الرصاصة

كيت شوبن: قصة ساعة