08-نوفمبر-2023
لمستشفى عائم

(AFP) صورة أرشيفية لمستشفى عائم

العالم لم يعد يحتمل ذوي الجراح العميقة، خصوصًا إذا كانت جراحهم فلسطينيّةً مفتوحة منذ ثلاثة أرباع القرن ومستمدّةً من الجرح الأصل، جرح أرضهم. فها هي بعض الدول تتلقف فكرةً إسرائيلية لإنشاء مستشفيات عائمة في البحر ليأوي إليها جرحى القطاع المحاصر، وتستعدّ لإرسال سفنها الطبية إلى شرقي المتوسط. 

يمنح الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الفصل الأول من كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" عنوانًا شعريًّا للغاية، هو "سفينة الحمقى"، ليتّضح أنها بالفعل استعارة من بعض المؤلفات في بدايات عصر النهضة، ما لبثت أن تحوّلت إلى سفن حملت على ظهرها المجانين المستبعدين من المدن الرئيسة وأبحرت بهم. حصل ذلك بعد انقضاء وقت على اختفاء الجذام، لتتمخض ظاهرة الجنون في وعي العصر الكلاسيكي بُعيد انطلاق النهضة الأوروبية، ولتُربَك المؤسسة الدينية والطبية في التعامل مع الذين مسّهم التيه، فكانت سفينة الحمقى نوعًا من تخليص الأرض مما بدا أنّه ذنب غامض.  

التقطوا من أزقة المدن المجانينَ الخارجين عن الصراط الاجتماعي ومعايير السلوك العامة، وأرسلوهم في رحلات طويلة بعيدًا عن اليابسة. مثّلت تلك الممارسة وجهًا مبتَكرًا للعزل والإقصاء، تفيض منه دلالة التطهر الكامنة في البحر. فضلًا عمّا يوحي به الإبحار من تسليم الإنسان إلى قدر غير مُحدّد كما يقول فوكو، فيأتي عدم التعيّن منسجمًا مع روحية الجنون وشخصية صاحبه. كان حلًّا بالغ الرمزية في ظل هشاشة المحاولات العلمية لفهم الجنون، فلم تكن قد تطورت بعدُ أدوات العلاج ومراكز الاستشفاء، لتعكس تلك الرحلة قلقًا وجدانيًا تجاه المجنون عبّر عن نفسه في تحويل سفينة الحمقى من حالة تخيلية إلى أسلوب سحريّ في الإقصاء. 

استعصى على العالم إيجاد حلٍّ لمسألة عالقة اسمها فلسطين، فتكاثرت المشكلات والجثث وتمادى مستعمروها في اضطهاد أصحاب الأرض وفي خنق أملهم في دولة تجمعهم

بعد نحو بضعة قرون، استعصى على العالم إيجاد حلٍّ لمسألة عالقة اسمها فلسطين، فتكاثرت المشكلات والجثث وتمادى مستعمروها في اضطهاد أصحاب الأرض وفي خنق أملهم في دولة تجمعهم. لم يندمج الفلسطينيون مع الاحتلال ورفضوا العيش في سياقه وتاريخه، وفي عام 2023 اندلعت حرب قتلت فيها إسرائيل الآلاف منهم في قطاع غزة، وجرحت نحو ثلاثين ألفًا.  

كان القطاع محاصرًا، وعلى الرغم من أنّ الحصار لم يعد في تلك الأيام أحد أساليب الحرب إلا أن إسرائيل استخدمته وسجنت الناس داخله 17 عامًا. ولأنّ حكومة نتنياهو هدّدت بضرب معبر رفح، وهو الممر الوحيد بين غزة والعالم والذي يصلها بشقيقتها مصر، فقد تعذّر إجلاء الغالبية العظمى من الجرحى في ظل استمرار قصف المستشفيات ونفاد الوقود اللازم لتشغيلها. 

في تلك اللحظة الدموية، أعلنت إسرائيل أنها طلبت من دول أجنبية إرسال مستشفيات عائمة لتقديم العلاج للجرحى الذين ستسمح بمغادرتهم القطاع إلى مصر، ليصعدوا إلى تلك السفن من ميناء العريش. وكانت فرنسا أول من استجاب للدعوة الإسرائيلية وباشرت بالتحضير لإرسال مستشفى عائم وحاملة طائرات هليكوبتر لدعم الجهود الطبية. ومن المتوقع بعث المزيد من تلك السفن إذا ما اتفقت على ذلك دول تنوي باريس جمعها في مؤتمر حول غزة قريبًا، تزامنًا مع انهيار القطاع الصحي في القطاع وخروج غالبية المستشفيات من الخدمة، وتصاعد التهديدات باستهدافها. 

مستشفيات عائمة، تلك استجابة الدول الكبرى للكارثة الإنسانية المترتبة على استمرار الجنون الإسرائيلي وذهابه بعيدًا في الإجرام، وعلى عدم قدرة مصر على فتح معبر رفح، الذي يُفترض أنه قرار سياديّ اتخاذهُ شأنٌ يخص الدولة العربية الأكبر، فالمعبر بينها وبين القطاع، لا بينها وبين إسرائيل. 

هكذا يتعامل العالم مع الجرح الأكبر والأقسى والأشد نزفًا، يحاول مسحه قبل أن يسحب السكين منه، فلا دواء فعّالًا حتى الآن، لا سلامًا يوقف المأساة ويعالج المرض فينهي الاحتلال الذي يفرض الحصار. حتى أن المجتمع الدولي بات صَلفًا إلى حدٍّ لم يعد معه قادرًا على استقبال مظلومين إلى هذا الحد، ومجرّد وجودهم صار دليلًا على فشل منظومته السياسية والأخلاقية، التي تُسارع في التخلص من الخاسرين وترادف بين الحق والقوة. 

إن رست سفن الجرحى أمام بحر غزة لتلخّص فصلًا قد لا يكون الأخير من تاريخ الجنون في العصر الحديث، أم لا، فالعار سيظلّ مجلجلًا وعميقًا، لأن قطاع غزة تُرك أصلًا كسفينة معزولة منذ 17 عامًا، وعلى متنها اليوم أكثر من مليوني جريح ومخذول ومكلوم، يحتاجون زمنًا طويلًا للشفاء وأطول للغفران.