06-نوفمبر-2023
من متحف ويليام بريمان

من متحف ويليام بريمان

كلما حاولت إعادة قراءة وترتيب الأحداث وجدتني مضطرًا للبدء من جديد، لا يعوزني التركيز لكن كثافة الأحداث، واحتشاد المعلومات من كل حدب وصوب، تجعل تفنيد الوقائع وعزلها بغية وضع خلاصات واضحة أمرًا عسيرًا.

قد تنطلق من سؤال يهيأ لك بأنه سؤال بسيط، كأن تسأل: ما هو الهولوكوست؟ الجواب السريع التعريفي سينقل لك معلومات نمطية اعتدت على سماعها، من مثل أن الهولوكوست هو الكلمة التي اجترحت في منتصف القرن الماضي لتعريف المجازر التي ارتكبت بحق اليهود في أوروبا على يد النازية.

لكن تداعيات السؤال ستنقلك حتمًا لمكان آخر من البحث، فلماذا ارتكبت تلك المجازر؟ وكيف حصلت؟ ومن ارتكبها؟ وما الذي يقف وراء ارتكابها؟ وماذا ترتب على ارتكابها؟ وكيف استغلت الحركة الصهيونية ما ترتب على كل ذلك؟ وما موقعنا كعرب مما حدث؟ وغيرها من الأسئلة التي تفرض نفسها باستمرار كلما استجدت مصيبة في فلسطين، وتداعت الأحداث حاملة ويلات الحرب المسلطة على رؤوس الفلسطينيين العزل.

مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي خطابه أمام الكنيست الاسرائيلي قال إسحق رابين متوعدًا: "سنفرض القانون والنظام.. وسنكسر أيديهم وأرجلهم إن لزم الأمر".

في سلوك "إسرائيل" العدواني المتكرر والممنهج تجاه الفلسطينيين تبرئة للنازية من جريمتها، على الرغم من مواصلة الصهاينة، ليلًا نهارًا، بالتبجح بأنهم يتعرضون لهولوكوست جديد

كانت الانتفاضة قد بدأت 1987 في جباليا بقطاع غزة، ثمّ انتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيّمات فلسطين. يعود سبب الشرارة الأولى للانتفاضة لقيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إريز الذي يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية منذ سنة 1948. هدأت الانتفاضة في العام بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993.

تتالت بعد الانتفاضة الأولى الحروب والاشتعالات بين عام وآخر، ولم تكن لتهدأ في مكان حتى تستعر النار في مكان آخر من فلسطين.

لم يكن كلام رابين السابق كلامًا لا يمكن التوقف عنده، بل يستحق منا التأمل، فهو يتبجح بمفردات كالقانون والنظام كي يستخدم تحتها كل بربرية وهمجية ستتاح له.

هذا ما حدث خلال حكم العديد من رؤساء وزراء الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، إن لم يكن قبله، وبالعودة للهولوكوست، فإن السؤال الذي يتبادر للذهن، ألا ينبغي للضحية أن تكون مثلًا معاكسًا للجاني عندما يكتب لها النجاة؟ وإلا فما هو الفرق؟

في سلوك "إسرائيل" العدواني المتكرر والممنهج تجاه الفلسطينيين تبرئة للنازية من جريمتها، على الرغم من مواصلة الصهاينة، ليلًا نهارًا، بالتبجح بأنهم يتعرضون لهولوكوست جديد كلما عن على بالهم ارتكاب مجزرة بحق الفلسطيني.

تكمن التبرئة حقيقة في تمثل عقلية المجرم ودوافعه، ألم يكن هتلر طامحًا لإبادة اليهود أو عزلهم وحرمانهم من التعاطف العالمي؟

وكيف يمكن لإنسان يتمتع بذاكرة سوية أن ينسى جدران الغيتوهات العازلة ومعسكرات الاعتقال النازية؟

وما الفرق بينها وبين جدار العزل العنصري المقيت الذي يطوق غزة؟

تحاول "إسرائيل" الظهور بمظهر الضحية، لكن واجب الناجي من المجزرة أن يحمي البشرية من ارتكاب عار مجزرة مثلها.

ما تقوم به "إسرائيل" هو العكس، فهي تقوم بغسل عار ضعفها بارتكاب جريمة أكبر هاربة من مشاكل كينونتها العضوية إلى الأمام.

سبق أن شبه مناحيم بيغن الفلسطينيين بأنهم نازيون يتوقون لارتكاب هولوكوست جديدة بحق الشعب اليهودي، حينها رد عليه آبا ايبان، الذي كان يشغل منصب وزير في حزب العمل، قائلًا: "آن لإسرائيل أن تقف على قدميها لا على أقدام ستة ملايين من ضحايا الهولوكوست".

طرد اليهود من بريطانيا في عام 1290، وطردوا من فرنسا في العام 1340، ولاحقًا من إسبانيا في العام 1492.

وكانت تلك الكوارث التي تحل باليهود أينما ذهبوا في أوروبا تتخذ طابعًا تحقيريًا.

توج كل ذلك بعد تبلور الحركات الأممية في أوروبا، وظهور الدول القومية المعتدة بعرقها، بما اصطلح على تسميته بالهولوكوست.

تحمل الحداثة الأوروبية مع ما أتت به من تنوير، وزر ارتكاب الكثير من المجازر التي ارتكبت بحق شعوب ودول كثيرة، كفيتنام وأفغانستان والعراق وغيرهم، فعقلية مرتكبي الهولوكوست التي يحاول الغرب رجمها بالحجارة كلما تجرأ أحد على التذكير بها، لم تزل موجودة وحية، وما يجري الآن في فلسطين من مجازر بحق سكان البلد الأصليين وأصحاب الأرض والتاريخ، تحت مرأى ومسمع العالم الغربي يحمل إدانته للحداثة الغربية قبل أن يحمل إدانته للعدوان المباشر.