27-يونيو-2017

غراندا موس/ أمريكا

لم تر السيدة سكر قط فيما مضى مرتدية قرط ذهب أو سوارًا من فضة. كما ولم يلحظ عليها أثر نعمة من قريب أو من بعيد. وقد كانت هذه الملاحظة لتمر مرور الكرام لو لم يكن زوجها صائغ البلدة ووجيهها. الأمر الذي لم يكن ليكون ذا بال لو لم يكن قد تزوجها عن تحد واشتهاء تاركًا وراءه زوجته وابنة عمه وأم بناته الخمس بعد أن طمر الأخيرة بأرتال الحلي والمجوهرات.

الشيء الذي كان ليكون هامشيًا هو الآخر لو أن أثرًا لزوجها الأول، وقد كان بستانيًا، ظهر عليها في سنين خلت؛ إذ لم تلمح مرة حاملة لزهرة أو سلة ثمار، كما ولم يلمح أثر تراب على ملبسها أو ممشاها ولا أثر بذار. ولم يشهد بيتها على اتساعه نفسًا لنبات ظل أو عشبة طب أو إناء ورد ولو موسمي.

والحق أن السيدة سكر خلافًا لاسمها مرة المعشر. لها عيون من زجاج لا تبكي ولا تبتهج. وقد حملت غرابة أطوارها أهل البلدة، وهم أهل بهت وثرثرة، إلى اتخاذها مأدبة لليالي السمر وصباحات التسري. فأقسمت النسوة أن السيدة سكر متى ما وقفت تحت شمس الظهيرة لم يلمح لها ظل، ومتى ما دخلت بيوت أناس لم يصر لهم باب ولا أزّ لهم درج. بينما ذهبت أكثرهن بلاء إلى أنها لمحت السيدة تبول واقفة غير مرة. خلصت النسوة إلى أن السيدة سكر إما أن تكون رجلًا أو شيطانًا، وكلاهما سواء في عرف نساء البلدة، وإن كن يغبطنها خفية على لي أعناق الجبابرة وهو ما سنأتي على ذكره لاحقًا.

غير أن الشائعة التي أتت على بيدر قش برأس سيجارة كانت أن السيدة غير ذات إربة بالرجال. والحق أيضًا أن لهذا الدخان نارًا مسبقة. فقد شاع فيما مضى أن البستاني قد هجر البلدة إلى غير وجهة، وقد كان فحلًا لا يشكك في رجولته، لأن مضاجعة السيدة سكر تشبه إلى حد كبير مضاجعة قطعة خشب أو قضيب حديد. وإن أفتى من خلق غير قادر على حملها لأن يرف لها جفن أو تفتر لها شفة أو يتغضن لها جبين.

ورغم أن ما قيل عن زهدها بالرجال قد ألجأ النسوة لأن يتجنبها طوعًا وكراهية ويفر منها الصبيان، فقد لزمها اثنان: زوجة العطار وصائغ البلدة. أما زوجة العطار فقد ظنتها مبروكة، وقد كان يعلم أن العطار يضاجع كثور ولا يرتوي، فأخذت تتلمس من أثرها ما حسبت أن تسكت به شهوة زوجها. لم تمض أسابيع حتى أضافت زوجة العطار إلى أحاديث النسوة أن السيدة سكر لا تفوح منها رائحة رغم أنها ساقت إليها من العطور ما يدل أنوف السائرين على مبعدة أمتار.

ما لم تقله زوجة العطار أن أثر السيدة لم يزد زوجها إلا جبروتًا ومجونًا. أما ثاني الأمرين، وهو ما يعنينا في هذا المقام، فهو رهان أطلقه الصائغ في لحظة هياج وهو أن ينال من سكر ما لم ينله منها من سبق. وقد يقول القرّاء، لجهلهم المفهوم بطبائع الأمور، أن الرجل لا يعيقه أن يكذب في أمر كهذا، خاصة وأن أهل البلدة لن يطلعوا على ما استتر من حال حريمه وأهل بيته. وليت الأمور بهذا اليسر. فقد أقسم المسكين على شرفه، ولأن تكون فحولته محل تندر أهون عليه من أن يضيع شرفه وقد ذكرنا من حاله مع كثرة ذوات الأنساب والقربى ما ذكرنا.

أما أنا فقد كنت معها أسمع وأرى، وأنا أحب اليها من كل شيء، وهي أحب إلي من أي شيء. أشم فيها الخيبة وألمح انكسار ظلها إذا ما مشت ونواح الأبواب متى ما ولجتها. وأسمع مباهج الحياة تتسرب من ثقب في قاع قلبها ما فتئ يتسع ويتمدد ويظهر أثره. وأعلم أنها إذا ما رمقت قنديلها ارتجف خيطه، وبهتت مرآتها كلما رأتها، شراشفها نحلت وحال لونها، وخزف مائدتها تصدع، وإذا ما وطئت البلاط يكاد قلبه ينخلع.

أراها بعد المغيب تصير شيئًا آخر. أراها كل ليلة تصير سكينًا حادة تقطع من أعضائها ما يهدد شرف الرجال. وأراها تصير بالتتابع دمًا يسيل رفيعًا على ساقيها وأتساءل عن صدق ما همست به أمها "خير من أن يسيل من رقبتها، هم أهون من هم". وأراها تصير أخيرًا شرف العائلة مشعرًا كثير المخالب والأنياب لا يعوي إلا في عتمة. كنا أصغر من أن ندرك ما علاقة شرف العائلة بكم الحرقة والألم بين فخذيها وفي قلبي، كنا أصغر من ان نفهم كيف قام زوجها مهتاجًا من فوقها يشتم ابنة الحرام وينعتها بعاهرة وهي تنظر إليّ كقطعة رخام، كنا أصغر من أن نفهم كيف هوت فأسه على جذعي، والسيدة تصيح "إلا الدالية، قلبي معلق بالدالية.."، وكنا أصغر من أن نفهم كيف بكت السيدة سكر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وصفة لكتابة نص حار

الحب.. محاولات تعريف