12-مارس-2019

خالد جرار/ فلسطين

- لقد عرفت السرّ!

سرٌّ خفيف من أسرار أولاد العم التي يقومون بها بأريحية وسلاسة وهدوء، دون بهرجات وفرقعات إعلامية زائدة، سرٌّ معلنٌ لديهم ولكنهم يختصرونه عنك زيادة في الاحتياط.

أربع سنوات مضت وأنا أمرّ بصورة شبه يومية من هذا المكان، وهذا المكان ليس مجرد مكان في فلسطين، إنه أقصى نقطة يابسة يمكن أن تصلها في شمال غربها، نتوء صغير في طرف الخريطة يولد لك منظرًا بانوراميًا للبحر من ثلاث جهات.

جبل الكرمل بكل جبروته، ينحسر مخسوفًا في تلك النقطة تمامًا ليترك البحر يقلم لها إظفر إبهامه، وبمنتصف ذلك الخسوف المباشر من القمة إلى الحضيض، يتواجد مقام الخضر ومغارته يحتكرها أبناء الديانة اليهودية أسوة بكل ما يحتكرونه حولها.

أمرّ من هناك فأرى مجموعات صغيرة من العائلات غير المتناسقة، يتوسطهم دومًا شاب أو فتاة في مقتبل العمر، يحملون عادة على ظهورهم حقيبة ظهر كبيرة من حقائب السفر، علمًا أن الميناء بعيد عن تلك النقطة، يكون معهم عادة والد أو والدة أو كلاهما، بالإضافة إلى صغار يرافقونهم كما يبدو كنوع من تحبيبهم بهذا "الموضوع" حين يحين الوقت.

أصل كل مرة إلى تلك النقطة، تمامًا بأعقاب الجنرال اللنبي الذي مر "محررًا" حيفا من الاحتلال العثماني، ليبدله باستعمار إنجليزي هو تمهيد لاحتلال صهيوني تيمّنًا بوعد بلفور، يقف ضلع الجبل بزاوية شبه قائمة بعد أن نجح في اقتطاع تلك المساحة الناتئة من البحر ليقف أيضًا حاجزًا أمام الرياح والغيوم، تلتزم الرياح بضلع الجبل الذي يقف برزخًا أمامها لتمر إما عبر وادي الجمال، أو باسمه العبري "عين هيام" الذي يبدو أن مبتدعيه قد غفلوا أن الاسم عربي تمامًا وإن اختلف المعنى، وإما أن تنعطف شمالًا لتبعد معها الغيوم عن الجبل الذي قلب لها ظهر المجن، لتنطلق نحو الجليل الأخضر غير مدركة أن الكرمل مجرد تلة صغيرة نسبة للجبال هناك وعلى رأسها الجرمق أعلى جبال فلسطين، أما إذا أصرت على مسار مستقيم فسوف تصطدم بمضادات الطائرات على القمة وتنفلق إلى فلقتين.

بينما البلد القديمة في باطن الجبل مختبئة من كل تلك الرياح العاتية، أستلم مساري من الغرب الجنوبي المفتوح على البحر أستمع إلى "صوت إسرائيل" لتنقطع كل تلك الذبذبات وتبدلها أصوات آتية من لبنان على محطة المقاومة اللبنانية تحديدًا، لتتحدى تلك المسافة القصيرة مسافة كاتيوشا صغيرة، تصل عبرها أصوات قريبة بعيدة تخترق الأثير إليّ، هناك تمامًا يمرّون أمامي، يوقفون سياراتهم في أماكن ممنوع الوقوف فيها وحتى على الأرصفة، في ما يبدو كمهمة أثيرة ينحنى أمامها القانون ساجدًا من الخشوع، فيبتعد عن ذلك المكان مهرولًا، ذيله بين رجليه، بل وعلى العكس يقف هنالك عادة شخص من الشرطة العسكرية برشاش عوزي قصير وملابس مهندمة، يرحب بالوافدين ويستقبلهم، لقد زرت ذلك المجمع مرة واحدة من قبل، حيث تقف هناك سفينة وغواصة في المتحف البحري، وفاجأني الحارس أنه طلب مني هويتي التي لا أحملها عادة، لا حاجة أن تدفع كي تدخل، بل على العكس مرحب بك كي ترى بطولة الوافدين الجدد القادمين في سفنهم، ومن ثم تطّلع على غواصة متقاعدة عمرها أكبر من عمري، لترى بطولات هذا الجيش الذي يصهر كل المنضمين عليه ليوحدوا انتماءهم حتى يصبح مصوبًا نحو دولة اليهود فقط.

رفض الحارس إدخالي رغم كل التحايلات لإدخال أطفالي حتى يروا الغواصة لأول مرة في حياتهم، ولم تشفع لي بطاقة العمل مع صورتي، فالقانون قانون، بل وتطول قدماه ليطأ بكل ما أوتي من قوّة أي خروج عن الدائرة المرسومة لهؤلاء الأغيار.

عدت أدراجي نحو منزلي غير البعيد لأحضر بطاقتي الزرقاء التي تحدد انتمائي وفقًا تلك الأنظمة والقوانين، فنحن في هذه الدولة نلعب لعبتنا المزدوجة، الدولة تمثل أنها دولتنا، ونحن نمثل أننا مواطنوها، وهكذا نتدحرج معا نحو الظلام. أدخلني أخيرًا الحارس المهندم والمسلح بعد أن أشهرت بطاقتي بوجهه، يدخل أطفالي، أوفر عليهم عناء سماع تفاصيل الوافدين وبطولاتهم، وجنود البحرية الأشدّاء في وجه كل الظروف والأعداء لحماية الدولة الفتية في أدغال العتمة المحيطة، أخرج وأنا ما زلت متحيرًا أين يذهب هؤلاء الشباب. فهم حتمًا لا يأتون في الصباح الباكر من أجل دخول المتحف مع عائلاتهم.

أربط الخيوط ببعضها لأفهم أخيرًا أن ذلك المجمع يحوي مقرًا لاستقبال المجندين الجدد من الشباب البحارة الطموحين، يدخلون إلى هناك مواطنين ثم يخرجون بعدها جنودًا، يحتاجهم الأمر إلى ستة أسابيع من تمارين عسكرية مشددة، يتعلمون بها مهنة القتل وإماطة اللثام عن أعمق غريزة بشرية، غريزة البقاء، من أجلها يصبح القتل أمرًا مفروغًا منه في الدفاع عن وجودك وعن وطنك. لا توجد اسثناءات أمام الأغلبية، بكل هدوء في جيل الثامنة عشرة تترك آراءك اليسارية ومحبتك للعرب والتبولة، لترتدي ذلك الدرع، فمن يحمي هذا الشعب من كارثة أخرى، إذا لم يتحول إلى شعب من محترفي القتل؟

ثلاثة أعوام تتمرن على الأسلحة الخفيفة والثقيلة، وتنضم بها رسميًا إلى أكبر آلة تدمير في الشرق الأوسط، وتبقى بعدها جنديًا في الاحتياط عشرين عامًا إضافية، تحبطك حينها رسالة تعلن استغناءهم عن خدمتك، فتلك تعلن رسميًا أنك لم تعد شابًا، ويبدو أن غريزة القتل قد تضعضعت لديك ولم تعد كافية لصب الزيت على تلك الآلة.

يقرأ المحلل العسكري للقناة الإسرائيلية أفكاري، فيبث في ذلك اليوم تحديدًا برنامجًا عن المجندين الجدد الذين ولدوا في القرن الحادي والعشرين، يتركون طفولة التكنولوجيا الحديثة، لينضموا إلى جيش تبنى تلك التكنولوجيا ليطور قدراته على الاحتلال وعلى قتل الأعداء، يقولها المذيع وتنفرج أساريره من النشوة عندما تحضر سيرة الحروب والقصف والقضاء على العدو، محللون عسكريون يزهر ربيعهم في الحروب التي تسقي سيرتهم المهنية تمامًا كضباط الجيش بل أكثر.

وبينما أشاهد الأخبار تقفز رسالة واتساب، أرسلت كنكتة من صديق قبل أن يعيش على هامشهم وأن يكون قطتهم المدلّلة، أقرأ فيها : "بلال شاب غزاوي، بلال يلعب لعبة بابجي، بلال يستخدم العنف بس بلعبة بابجي، بلال فاهم أنو العنف ما بيجيب نتيجة، بلال واحد فهمان، كونوا مثل بلال".

تقفز كل شياطين الدنيا أمامي وتبدأ بالرقص فأبتلع جبني وخوفي لأهذي وأتمتم، وهل أتى بنتيجة لدولتك شيء سوى العنف، وهل غير العنف لديكم؟

المراسلون العسكريون يحتفلون بالعنف المنظم، ببندقيتهم التي تدك أعداء الوطن، والبندقية التي نحملها هي فقط لغير "الفهمانين"، أفكر في رسالته هذه وأتخيل رسالتي إليه التي في أفضل الأحوال تشبه توسّلات أبي الخيزران الفارغة إلى الجثث المرمية في الخزان*:

"أفيخاي شاب إسرائيلي، أفيخاي يمارس رياضة القتل مع جيشه، أفيخاي يساري تقدمي، لا وقت لديه للألعاب بدون دماء حقيقية، أفيخاي يقتل فقط عندما يضغط رئيسه على الزر، أفيخاي لا يحب مشهد الدماء، ولكنها فداء للوطن والخوف من الأغيار، أفيخاي يحب الأغيار عندما يصبحون قططًا مدللة في دولته دولة اليهود، قدّم فروض الطاعة لافيخاي واعزمه على مقلوبة بدون لبن، لأن أفيخاي لا يأكل اللحم باللبن".

... لا تكن مثل أفيخاي.

 

هامش:

إشارة إلى رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرز قديم للطريق

في نُزل البرتقال

دلالات: