19-يونيو-2019

شيهارو شيوتا/ اليابان

1

"أيا حظي المائل، سأقولبكَ برغبات إرادتي لتستقيم"، وحدكَ يا صديقي من تذكر هذه العبارة، ربّما لأنّك مثلي كنتَ تظنّ أنّ الحظّ هو عنوان الخطأ، لم تكن تعرف أنّ الميلان الذي تُفرزه هذه الحياة له ألفُ سببٍ وسبب، أنا اليوم لا أعتقد حقًّا أنّ خلق استقامة الحظوظ ممكنة، لا أعتقد أننا يمكننا بسهولة فصلُ الحظّ عن جسم الحياة العوجاء وتعديله كما نرغب، الحظّ مجرد جزءٍ ضئيلٍ من معادلةٍ حياتية كبرى؛ تدخلها عنصرًا مشعًّا، وبعد فترة وجيزة تتناقص رغباتك إلى حدٍّ تعيشُ معه على أملٍ واحد؛ أن تُحافظ على استقرارك رافضًا فكرة وجودك في آخر قائمةٍ على جدول الوقت، هناك يا صديقي حيثُ يتمّ تعريفك والتعاملُ معك على أنّك أحد العناصر الخاملة!

2

أنا يا صديقي لا يؤرّقني في الأرق سوى فكرة تُناقضه تمامًا ألا وهيَ النوم، دائمًا ما أتعامل مع النوم على أنّه شكلٌ من أشكال التبديد، لونٌ من ألوان الإضاعات المكثّفة للأعمار والأوقات، الأرقُ يا صديقي شكلٌ جميل من أشكال الصحوة والوعيْ وإن كان معذِّبًا، سيوران الذي عانى من مرض الأرق الملازم قرر أن يستفيد منه حيث قال: "ألا نتعلّم في ليلة بيضاء واحدة ما قد لا نتعلمه في سنة كاملة من النوم؟" كم من كتابٍ ألّفه سيوران في ليالي الأرق؟ وفي مقابل ذلك، كم من وعيٍ حيٍّ وإدراكٍ يقظٍ يموت مرارًا بعد أن يعلو صوت الشخير؟!

3

أتعرفُ شيئًا يا صديقي، لا شيءَ يُخيفني عدا ذلكَ الميل إلى الجوهر من كلّ شيء، ذاكَ الذي يُصوّر لي نفسي والأشياء من حولي على حقيقتها، تخيّل معي أن تُرافقكَ هذه الحالة في سنوات حياتكَ كلّها، أن تعيشَ حقيقتك وحقيقة الآخرين كلّ يوم، أن تملكَ ما يؤهلكَ للنفاذ إلى ما وراء الوجوه والأقنعة والمظاهر الخادعة، فُتُشاهد بأمّ عينيك كلّ ذلك الكذب والتزييف والافتعال، الكلّ يا صديقي يخافُ أن يتجاوز الواجهة، يخافُ أن يَعبرها، يعلمُ أنّه إن عبرها ستصدمه الحقائق، ستُفزعه مرارة الاكتشاف، أنا مثلًا اكتشفتُ مؤخرًا أنّ ما أشاهده بالمرآة ليسَ حقيقيًا أبدًا، وبدأتُ حينها بالبحث عن الوجه الحقيقي لدواخلي وصدقني أنّه كاد يُغمى عليّ من هول ما رأيت؛ رأيتُ داخلًا ممتلئًا بالكآبة والنرجسية والظلامية، داخلًا عجوزًا، مشوهًا، مُنهكًا، متبلّدًا، داخلًا باتَ يتعاطى مع الوجود الإنساني بالأرقام، داخلًا باتَ يَتعامل بعاطفة الاعتياد مع قتلى النشرات الإخبارية؛ فلا تأخذه بهم عاطفةُ حزن أو ألم أو أسى.

نعم يا صديقي، تجاوز داخلي مرحلة العاطفة والبكائيات ليدخل في مرحلة من التبلّد المطلق، وإني كلّما تجاوزتُ وجهي إليه، رثوته وبكيتُ كثيرًا على حالي وعليه. لا أدري حقًّا هل السياسةُ هيَ من شوهتني أم أنني أفضلُ حالًا من كثيرينَ غيري يَعيشون في كنفِ الوجوه الزائفة غيرَ منتبهين لحقيقة التشوّه الذي أصاب دواخلهم، أنا في نهاية الأمر بتّ أخشى كثيرًا من ظلامية داخلي، أخشاه وأخشى أن أستيقظَ يومًا فأجده قد ابتلع وجهي، وعندها فقط لن أستطيع أن أعبرَ حدودَ وجهي، لأكتشفَ خرابه وأبكي عليه!

4

الفكرةُ الليلة يا صديقي هيَ الفكرة، ذلكَ البرقُ المفاجئ الذي يلتمعُ في ذهنكَ أحيانًا حاملًا معه ذلك الكمّ اللامتناهي من صوتِ العمق الراعد، يُخيفني صوتُ العمقِ كثيرًا، يُخيفني وأنا أستمعُ إليه في خشوعٍ مطلقٍ كمن يؤدي صلاة داخليّة خاصة، ألا تعتقد معي أنّ الخشوع أمام تلاوة الفكرة هو جزءٌ لا يتجزأ من صلاة العمق؟ وألا تجزم بأننا غالبًا ما نهربُ من صلاة أعماقنا، أو نُؤديها منقوصة الأركان؟ ستسألني عن أركان صلاة العمق وسأجيبك بأنني لا أعرفُ منها سوى تلاوة الفكرة وخشوع السمع والجوارح.. لماذا أكتب هذا الآن؟ لأنّني لم أؤدِ صلاة العمق كما يجب؛ فغابت عني الفكرة، والتجأتُ إلى إسعاف نفسي بالكتابة عن الفكرة!

5

الدنيا مسرحٌ كبيرٌ لا يتّسع لأمثالي، فيه من الأقنعة ما يُجسّد ألفَ ملهاةٍ ومأساة، ببساطة يا صديقي أنا لا أحبّ فلسفة الأقنعة، لا أحبّ أن أكون حدثًا ما يُروى بلسان الهزل أو الأسى، أحبّ أن أطلّ على العالم من موقعٍ آخر أكون فيه الراوية وصانعة الحدث، بعيدةً كلّ البعد عن الأضواء الخافتة والصاخبة. نعم.. أريدُ مسرحًا آخر خارج حدود مسرحكم الكبير، مسرحًا أكون فيه عارية من كلّ قناع عدا وجهي، أريدُ أن أخرج من هذه الهزلية المأساة إلى حيثُ لا أكون حدثًا دمويًا في نشرة أو رسمًا هزليًا في صحيفة، أخرجني فورًا من مسرح المفعول به، انزع عني التصاقي بدائرتكم الأرضية، أحتاج أن أكون جزءًا من تكوين مثلثٍ آخر، رأسه وقاعدته، الراوي والمراقب والفاعل، أريد أن أكون الفاعل.

6

ما زلتُ على عهدكَ بي، أشربُ فودكا النصوص وأثملُ كذبًا، أحبّ شامات وجهي وألعنها، أغوي الليل بفستان حرفي القصير وأبادله بقبلات كتابةٍ خاطفة ثمّ أهرب مسرعةً ولا أنسى حذائي، أكتبُ عن الأرق وأغرق في النوم عندَ أول ثانيةٍ تشهد فيها الوسادة على براءة هذا الرأس والضمير الذي يسكنه، أحبّ أغنية "ولا يوم" وأوقن أنّ برجوازيتكَ ترفضُ فكرة الوردة المنفردة والقدم الحافية، أطلق على نفسي إشاعات النرجسية والتعالي وأصادقُ البساطة في كلّ شيء، أحاربُ الخواء مع أنني ممتلئةٌ حتى الرمق الأخير، ألمّع نفسي وأشتمها، أُدينها وأبرِّئها، أحبّها وأكرهها، وفي النهاية أحملها وأبرأ منها إلى الحقيقة التي تعرفُ أنتَ أنّها لا تعرف نفسها وأنّها ليست كلّ هذا الهراء!

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف سأحمل لكم وجهي؟

ما يفعل الجنود في آخر الليل