05-أبريل-2022
بيرس

الشاعر سان جون بيرس

يكتب سان جون بيرس قصائده بالمضمون الدال على شيء يكتشفه القارئ الحاذق من خلال الغوص في الجانب الخفي لتلك الصور المشحونة بالعاطفة وبالأسرار، وأيضًا بمدائح التبجيل للموجودات الكونية. يتناول بيرس تلك الموضوعات ويعالجها كما لا يستطيع غيره، من وضع تلك الصور داخل حدود العقل والروح والإطار الكوني للنظر لما يحدث.

في كتاباته يخاطب بيرس الكامن العميق والذائقة الحسية والحضارية، ولكن ليس عند جميع قرائه، بل عند الذين يقرؤونه ويعرفونه جيدًا. ومع كل هذا التراث الفخم للتجربة الشّعرية

في كتاباته يخاطب بيرس الكامن العميق والذائقة الحسية والحضارية، ولكن ليس عند جميع قرائه، بل عند الذين يقرؤونه ويعرفونه جيدًا. ومع كل هذا التراث الفخم للتجربة الشّعرية، التي توجها بحصوله عام 1960 على جائزة نوبل للآداب، يظل بيرس، وبعيدًا عن كل لقب ومنصب، الشاعر الأكثر دهشة في إيصال ما يعتقده، بخلفيّة أن الشعر خلق في ذاكرة البشر ليقول أشياء كالتي قالها هو.

عالم سان جون بيرس هو عالم الصورة المنتقاة بالإدراك، إنه يقول لكي يثبت أن المتوازيات بين الشعر والفيزياء هي من تنشئ النظم الأرضية العاقلة، ولهذا كان يرى في العالم الإغريقي هيرقليطس المثال الأقرب لما يتخيله في نتاج موهبة بدأت معه منذ أن عاش تلك الطفولة في جزر غوادلوب، وأحس بطعم الحليب السحري من نهود مرضعاته هناك.

من يقرأ بيرس يثيره ذلك الجانب المتواري الذي يبتهل في داخل الكلمات على شكل مدائح وأدعية وصور، حتى ليشعر القارئ أن الطاقة النصيّة الكامنة في الكلمات تكاد تتحول إلى حركة لولبية. تلك الحركة هي التي تحرّك زمن القصيدة التي يشعر بها القارئ دون أن يرى ملامحه ككاتب، إلا في تلك الومضات الخاصة والمثيرة التي يسجلها كشاعر في تتابع الأحداث.

يكتب لنا بيرس مدائح وأمطار ومطولات أخرى أثبت فيها شعريّته وأنه يكتب بدون شبيه، ومن يحاول أن يفهمه عليه أن يستمتع بقراءة ما يكتب، وأن يبتعد قدر الإمكان عن خطر الوقوع في فخّ تقليده وهذا جائز وقريب.

بالعودة إلى ملحمة آناباز، التي قرأناها أول مرة بترجمة الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد، والتي نشرت أول مرة في سبعينات القرن الماضي في مجلة الأديب المعاصر الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وكان لون غلاف المجلة فضيًا، هي من حفزت فينا الانتباه إلى بيرس، وسعى الكثير منا ليبحث عن نتاجه، ويتشبه بذلك المعنى الحسّي الذي منح الشعر نمطًا بلاغيًا عجيبًا قوامه دهشة العبارة وسرياليتها. السريالية ذاتها التي تحتاج إلى معاجم لتظهر لنا الضوء الكامن خلف الكلمات.

كلمات الملحمة وأبياتها وشطورها زينتها الصورة الغريبة المسكونة بجمال أتى من صنعة الدبلوماسي الحاذق، الذي تحدث في خطاب نيل جائزة نوبل أن الشعر الذي اقترن بلحظة النزول الأولى سيظل يوقد شعلة المعرفة والجمال بذات الخطوات التي تمشي عليها ظلال البشر.

تتالت الترجمات لبيرس ولهذا الملحمة بالذات، تظهر أهميتها وتضعها تحت عين المجهر. ترجمة للأديب أحمد الباقري، نشرتها في ذات الفترة مجلة الأقلام، ثم ترجمة لاحقة لأدونيس، وتلك الترجمة عن لغة القصيدة الأم (الفرنسية) بدت غامضة وقاموسية، وأراد فيها الشاعر الاهتمام ببلاغة الجملة كما في لغتها الأصلية، فتوجب على قارئ آناباز في هذه الترجمة الانشغال بالتكوين الصعب للجملة المترجمة، فيما أبقت ترجمة الكاصد لها سلاسة الوضوح والروح الشعرية التي حفلت بالموسيقى الكامنة والغامضة، تلك التي أراد فيها بيرس تتبع رحلة القائد اكزينون في تراجعه الأسطوري مع العشرة آلاف جندي الذين كانوا بحوزته.

العربي-التلفزيون

ما زلت أذكر تفاصيل لقائي بالشاعر شيركو بكه سه في مقر مجلته الأدبية سردم في مدينة السليمانية لاستلام نسخ من أعداد المجلة التي ظهرت فيها دراستي عن كتابه الشعري "أنشودتان جبليتان". ومن ضمن الحديث ما أذكره عن وقائع تاريخية أو اسطورية أن اكزينون في رحلته الشهرية والمسماة "الرحلة الى الداخل" مر في مناطق كردية جبلية تقع اليوم عبر جهة زاخو القريبة من نهر الزاب، وهناك شكا من تعرض المقاتلين الأكراد لجنوده في مسيرة الانسحاب.

لم يذكر بيرس هذا، بل كانت آناباز لديه فكرة فلسفية وكونية لقراءة ما سيحدث في القرن العشرين، الذي ابتدأ بحرب كونية أولى. وفي إحدى رحلاته إلى الصين أتته رؤى التقريب بين ما حدث لاكزينون وما سيحدث في العالم الجديد. وأغلب الظنّ أن بيرس خضع في الصين إلى الهواجس التي تفرضها القسوة في الحياة البشرية. وكانت سيرة جنكيزخان مقروءة لديه، وكان يدرك أن أدلف هتلر سيكون امتدادًا للإمبراطور المغولي في قسوته وحبه للقتل والدمار.

على القارئ أن يتخيّل رؤيا الجدليتين فيما كتب عن القصيدة من خلال خواطر الشاعر الفرنسي الآن بوسكيه والشاعر الانكليزي ت.س. إليوت. وقد اختلفت تفاسيرهما، فالأول ذهب إلى تفسيرها كمكان ورؤية لنزهة صحراوية في آسيا، والثاني تحدث عن بناء مهيب لمدينة تسكن خيال القائد الإغريقي عبر تسلسلات وضعها إليوت افتراضًا من أن الفاتح وضعها قبل الشروع في بناء المدينة. وانتهى في آخر أناشيد البناء إلى مقطع من الأناشيد والابتهاج والسعي إلى رحلة أخرى ولكن هذه المرة عبر البحر وليس الصحراء.

استطاع بيرس في ملحمة آناباز طرح بعض نبوءات ومتغيرات العالم التي ستأتي متعاقبة في القرن العشرين. وبالرغم من أن آناباز لم تبنْ على مثل تلك الخسارات

لكن بوسكيه وإليوت يلتقيان في نقطة الاعجاب والدهشة المشتركة عند تلك المفارقات اللغوية، التي تتعامل مع التاريخ عبر هاجس بلاغة الكلام والصور والفلسفة. وقد اعتنى بيرس كثيرًا بمشاعر اكزينون وقلقه في مغامرته مع جنوده، وجعله كما هيرقليطس يفكر بالتحولات التي تصنعها روحه، ثم تمرّ أجفانها الى العالم الخارجي، حيث يبدأ المسير إلى الهدف الذي لم تتضح ملامحه بعد. ولكنه عبر تلك المدهشات البديعة من زخارف الكلمات والصور والأحاسيس يوصلنا تماما إلى حلم قائد الحملة ونبوءته من أن الوصول إلى المبتغى سيتحقق حتما. فكانت اناباز مزيجًا غريبًا بين القلق والخوف والاحتفاء بما تراه أعيننا في مشارف الغد القادم بعيدًا عن نذر الشؤم الذي بدأت تحمله سبطانات المدافع الطويلة للجيوش المتحاربة في أوربا.

استطاع بيرس في ملحمة آناباز طرح بعض نبوءات ومتغيرات العالم التي ستأتي متعاقبة في القرن العشرين. وبالرغم من أن آناباز لم تبنْ على مثل تلك الخسارات، وإنما كانت في عمق معناها رغبة الشاعر في التخلص من دخان النذر المشؤومة التي ستأتي لاحقا، وتجتاح العالم كما فعلها التتر والبرابرة وصناع الحروب الاستعمارية الأولى، لهذا فضل أن تكون الرؤية على شكل ملحمة يفسرها قارئها كما يريد.

تلك الملحمة الأغنية هي الاستهلال لخطوات مسيرة طويلة في الأبد الإنساني عبر مسارات القارات والتواريخ والمحطات التي تمتد من آسيا إلى أفريقيا فأوروبا، يحفها إيقاع خبب خيول يُسرجها رجال لا يقرأون العالم إلا من خلال حركة أجفان قائدهم، الذي سكنته الفلسفة قبل أن يسكنه نصل السيف.

يقول بيرس: "لبهجة الروح كل خراب الروح

وفي الجهة النبيلة من جبهتي تقيم القصيدة

أكتب هذه الأغنية، أغنية كل الناس

الأغنية الثملة".

آناباز الأنشودة الملحميّة، لربما أنشد مثلها العمال المصريون الذين بنوا الأهرامات، والفينيقيون الذي بنوا أسوار صيدا، أو العمال المهرة الذين شيدوا جنائن بابل وزقورات أور، أو أولئك الذين شيدوا أهرامات الأزتيك، أو العظام الذين نحتوا ثيران بوابات نينوى.