03-أبريل-2022
صفاء سالم إسكندر، هناء أحمد، أوس حسن (ألترا صوت)

صفاء سالم إسكندر، هناء أحمد، أوس حسن (ألترا صوت)

شهد الشعر العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين تحولات لافتة، ومؤلمة، أفرزت أسماء شعرية جديدة اشتغلت على تحويل التفاصيل اليومية إلى قصائد، والدم إلى صورة، والجسد إلى كلمة، في عملية لا يمكن أن نعتبرها تدوينًا للمأساة العراقية فحسب، بل هي محاولة في تحويل المأساة إلى دراما كونية عابرة للعرق والطائفة.

هل سينقص العالم شيئًا لو لم يعد الشعر موجودًا؟ سيفقد العالم اللغة العليا، والكائن لا يفهم وجوده بلا لغة

يشترك الشعر العراقي مع الشعر العربي، والعالمي بطبيعة الحال، في سمات عديدة. لكنه مع ذلك يملك خصوصيته التي تتجلى في شجنه، وحرارته الفائقة، وقسوته التي يستمدها من واقع البلاد ومآسيها. فالحياة اليومية المريرة في العراق، هي المادة الخام لقصائد شعرائه التي تتسم بالحزن والقوة والسخرية، وباللقطات الهوليوودية الصادمة.

إنه، في نهاية المطاف، شعر يضرب الجليد بفأس خشبية صلبة، وهذه سمة لا تخصه وحده، لكنها سمته الأبرز في اللحظة الراهنة.

في هذه المقالة، يجيب شعراء عراقيون على مجموعة من الأسئلة المرتبطة بتجاربهم الشعرية وعلاقتها بالواقع العراقي وتحولاته، مثل: ما سر النزوع نحو الشعر؟ وهل بات الشعر هامشيًا اليوم؟ ما مدى اتساع المشهد العراقي للشعر وغيره من الفنون؟ وهل يعمد الشعراء العراقيون إلى تمثيل المشهد المعاش من قتل وتفجير في قصائدهم؟ أم أنهم يكتفون بصناعة رؤيتهم الخاصة؟ ماذا عن الثقافة العربية؟ والدعوات المستمرة إلى الحداثة والتجريب في قصيدة النثر والرواية؟


صفاء سالم إسكندر: الشعر رديف الحب

لم أكن أظن بأنني سأكتب الشعر يومًا، لكن الحب كلمة يأتي من أجلها الكثير. وما كنت أعتقده أن الشعراء كانوا يسيرون بصمت، لأنني حسبت ذلك ترفًا، ثم اختلف الأمر عندي يوم حسبت صمتهم لغة. وهذا الذي يبدو هامشيًا لمن لا يعرفه، هو أقرب إلى سؤال مركزي، السؤال الذي يطيح بالمتن: هل سينقص العالم شيئًا لو لم يعد الشعر موجودًا؟ سيفقد العالم اللغة العليا، والكائن لا يفهم وجوده بلا لغة. بل إنه لا يفهم أيضًا هذه الـ "لماذا"، وأعني السؤال الأول عن القدوم.

نكتب حين لا نستطيع الصراخ أو البكاء، أو حتى الابتسام، ذلك أن الشعر يأتي نيابةً عن ذلك كله

 

تسعى التكنولوجيا، بعمد أو سهو، إلى تحجيم الشعر بكل طريقة ممكنة. لكن هناك أشياء لا يستطيع البشر أن يستغنوا عنها، ومنها الجانب الروحي الذي يعيد إليهم طمأنينتهم وإيمانهم بما حولهم. لذلك تجد العراقي لا يزال، رغم كل المتغيرات، مؤمنًا بالشعر. لا أقول إن الجميع يستطيعون تعريف الشعر، لكن هناك من يتذوقه، وهم نسبة لا يستهان بها أبدًا.

لو لم تسمح وسائل التواصل بنشر أي شيء، لكان من الصعب جدًا أن تعلن نفسك "شاعرًا" في العراق، ذلك أن هناك من يعي حقيقة الشعر بعيدًا عن مجاملات وسائل التواصل. ولأن العراقي لم ينتهي من حروبه بعد، ولأنه شاهد عيان على مرحلة صعبة من تاريخ العراق هي مرحلة الطائفية، فإنه من الصعب أن تجد شاعرًا يصف الوردة أمام كل هذه الدماء على الإسفلت. لذا، ليس من الغرابة أبدًا أن تجد الجثث في قصائد الكثير من الشعراء.

YT Banner

في واقع يستدعي الكثير من التأمل، لدينا أوطان بلا مفكرين. وحتى إن وجدوا، فإن عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. هل توجد اليوم فسلفة عربية تقابل فلسفات العالم والدول بمفكريها وفلاسفتها؟ هل يوجد لدينا فيلسوف ذائع الصيت حديثًا؟ أما بالنسبة إلى دعوات التجديد في رؤية الأدب والواقع والفكر والحياة، فهي مجرد دعوات لا أكثر ولا أقل طالما أن هناك نظرة مقدسة لمن يحكم باسم الدين، بغض النظر عمن يكون.

لهذا السبب تبدو الهجرة هي الحل الأول والأخير. وبالنسبة لي، أحسد كل من وجد وطنًا. لكن هل هذا الاغتراب يكفي لتشكيل رؤية جديدة؟ لا أعتقد ذلك إن لم يكن واعيًا منذ البداية.

دعني أعود إلى موضوعة الشعر، وأتطرق إلى تعريف وتسمية "قصيدة النثر العراقية". ربما أكثر وأهم من تحدث عن ذلك، هو شاكر لعيبي في كتابه "رواد قصيدة النثر في العراق"، الذي تطرق فيه إلى اسم مهم في الثقافة العراقية، وهو حسين مردان، وسلط فيه الضوء على كيفية تسمية هذا النثر الشعري بـ "النثر المركز" الذي سبق المحاولات الشعرية العربية، دون أن يغفل كتابات جبران في هذا الجانب لناحية مناقشة التواريخ والأسبقية حسب ما أذكر.

واسمح لي أن أتطرق أيضًا إلى جانب آخر يخص قصيدة النثر العراقية، وكيف تؤثر قراءات اليوم للترجمات الشعرية على إيقاع النص واستسهال الصورة الشعرية، ذلك أنها تُكتب وكأنه نص مترجم وليس نصًا عربيًا يأخذ إيقاعه من لغته.

أما عن مشروعي الشعري، فمن يدري؟ ما أعرفه عن ذلك المشروع المحير والملتبس هو أنه سيصدر لي قريبًا كتاب "حيث أبدأ وأنتهي"، عن "دار لازورد" في لاهاي.

صفاء سالم إسكندر
صفاء سالم إسكندر

 

هناء أحمد: الشعر كائن منفي ومغترب

الشعر هو الوحيد الذي ينقذنا من بشاعة هذا العالم، ويمنحنا تلك المساحة أو الملاذ الذي نلجأ إليه هربًا مما نراه في حياتنا اليومية من مشاعد مروعة. نحن نكتب حين لا نستطيع الصراخ أو البكاء، أو حتى الابتسام، ذلك أن الشعر يأتي نيابةً عن ذلك كله.

الشعر هو الوحيد الذي ينقذنا من بشاعة هذا العالم، ويمنحنا تلك المساحة أو الملاذ الذي نلجأ إليه هربًا مما نراه في حياتنا اليومية

أذكر أنني في الحرب الأخيرة في الموصل، وتحديدًا في عام 2016، كنت أكتب – وإن خلسةً – كلما شعرت برغبة في البكاء، أو شعرت بأنني أود الموت. حينها فقط كنت أشعر بأنني لا أزال على قيد الحياة. لذا، فإن للشعر فضل كبير في نجاة أرواحنا مما خبرناه ورأيناه من مشاعد مروعة. ورغم أنني خرجت من تلك الحرب بجثث الكثير من تلك القصائد، إلا أنني أفكر أحيانًا بأن كل ما كتبته هناك قد يكون طوق نجاتي.. من يدري؟!

لم يكن الشعر هامشيًا يومًا ما، حتى وإن تأثر بالمتغيرات التي يمكن القول إنه كان المتحدث الرسمي باسم الكثير منها. ولأن الشعر على تماس مباشر مع الحياة عمومًا، بجمالها وقبحها وسطحيتها وعمقها وواقعيتها ومثاليتها، فإنه لا يستطيع إلا أن يكون مركزًيا في ظل المتغيرات التي تطرأ على الحياة، وذلك بغض النظر عن انحسار جمهوره أو اتساعه.

بالنسبة إلى المشهد الأدبي العراقي، يمكن القول إنه كانت لديه، على مر العصور، مساحة شاسعة لاحتضان الشعر والشعراء. فالشعر عراقيٌ وكذا الحزن. ولا أنحاز هنا إلى بلدي وأحزانه، بل هذه حقيقة مرة يعرفها الجميع، وقالها لي الكثير من الأصدقاء العرب والأجانب أيضًا. وعند الحديث عن الشعر المعاصر، بوسعنا القول إن هناك ما يشبه "مدرسة شعرية عراقية" إن صح التعبير.

وعلى الرغم من كثرة الكتابات الشعرية، على تنوعها وتفاوتها، إلا أننا نستطيع أن نميز النص الشعري الحقيقي المعجون بالتجربة الذاتية أو الجماعية، والمنسوج بلغة شعرية واعية ومفتوحة على الكثير من المرجعيات الثقافية.

الفن وحده قادرٌ على تقبل واستيعاب ما حصل ويحصل في العراق من كوارث وفظائع تفوقت عليه أحيانًا. نحن وحدنا من يعي هذا لأننا خريجوا حروب شرسة نتقن طقوس التوديع، ونبتكر أشكالًا جديدة لها. ويمكنني أن أضيف هنا بأن الجمال ينبع من قمة الألم، وهذا ينطبق على الشعر الذي تشكل الذاكرة العراقية المتخمة بالحروب والموت والفقد مواده الخام.

بعض الشعراء قد سلكوا طريق تقليد الشعر المترجم، ظنًا منهم بأنه النموذج الذي يمثل قصيدة النثر بصورة عامة

أظن أن الشاعر لا يلوي عنق نصوصه بحيث تتماشى مع ما يترتب على الحروب ومعارك الحياة، بل يسعى إلى أن تكون انعكاسًا لها. ولأن هذه الأفكار متاحة للجميع، فإن طريقة تناولها أو معالجتها هي ما يخلق للشاعر لغته الخاصة وتفرده وأسلوبه.

اقرأ/ي أيضًا:
من ديوان العراق

وفي ما يخص ثيمة الاغتراب، أرى أنه لا يمكن الخروج على فكرة أساسية مفادها أن الشعر كائن منفي ومغترب، حتى وإن كان في ظل بيئة أو وطن معينين. ولعل هذا ما يجعله يترجم علاقاته الغريبة والأليفة في مع ما يحيط به، بنوع من الوعي والطفولة، الحلم والحقيقة، الشك واليقين.. إلخ.

الانفتاح على دول الجوار والعالم لم ينقذ الشعر والشعراء من اغترابهما. هذه هي المفارقة التي يعيشها الشاعر الإنسان، ذلك أن الوطن المتجذر في أرواحهم على هيئة أرض أو روح أو حتى أفقًا، يبتعد كلما ارتفعت القصيدة.  

أما بشأن قصيدة النثر، فإنه بات من المعلوم أن من تسميات قصيدة النثر في العالم العربي "قصيدة الترجمة"، حيث يزعم متبنوا هذا المصطلح أنها شبيهة بما يترجم من نصوص شعرية من اللغات الأخرى إلى العربية، وذلك ربما لأن النص المترجم يسعى إلى المحافظة على الفكرة والمعنى متجاهلًا الشكل والوزن الخارجي، ولقصيدة النثر الغاية ذاتها.

وفي ما يخص تأثير الشعر المترجم في قصيدة النثر حاليًا، أجد وهذا رأيي الشخصي أن بعض الشعراء قد سلكوا طريق تقليد الشعر المترجم، ظنًا منهم بأنه النموذج الذي يمثل قصيدة النثر بصورة عامة، على اعتبار أن هذه القصيدة هي في الأصل غربية المنشأ، ووصلتنا عن طريق الترجمة.

بالنسبة إلى مشروعي، لو صحت التسمية أصلًا، لدي حاليًا كتابان نقديان ومجموعة شعرية قيد الطباعة. للأسف تأخرت في طباعة مجموعتي الشعرية التي كان من المفترض أن تصدر قبل سنوات، لكن الحرب الأخيرة في الموصل أكلت الكثير من نصوصها.

هناء أحمد
هناء أحمد

 

أوس حسن: الشعر تلك المنطقة الهشة

الشعر يسري في أوردة الحياة برمتها، ويتغلغل في أبسط الأشياء وأدقها أيضًا: في التفاصيل الصغيرة، في حركة العالم وسكونه، في الذاكرة والرؤى الباطنية والأحلام. الشعر ينتزعنا من عالم الأشكال والظواهر إلى آخر أكثر عمقًا. بل إلى الجوهر الخفي لحياة لم نعشها. إنه رياضة روحية وذهنية وتمرين للوعي. هناك من يدّعي الشعر ويكتبه، وهناك من يعيش الشعر ويحترق في كل قصيدة.

لم يختفي الاغتراب من الشعر العراقي بعد عام 2003، بل عاد ليلبس ثوبًا جديدًا، حيث أصبح المنفى والاغتراب قائمًا داخل الوطن والمجتمع

لكن المعضلة الكبرى في العصر الذي نعيشه، هي أن الشعر أصبح منطقة هشة سهلة الاختراق من قبل أي شخص يمتلك ظهورًا إعلاميًا، أو صفحة شهيرة في الفيسبوك. والخلاصة أن الشعر غالبًا ما يكون بريئًا من الشعراء.

لا يمكن للشعر أن يكون هامشيًا، لكنه لم يكن أيضًا مركزيًا في أي زمن. الشعر يتغلغل في كل شيء، قبل وجود الإنسان وربما بعده. لكن الوعي والإحساس بالزمن، هو من يجعل الشعر كائنًا لغويًا، ذلك أنه وسيلة الإنسان للتعبير عن الوجود برمته. وكما قال غاستون باشلار، الكون وجِد بانفجار هذه اللحظة الشعرية الهائلة، وربما سينتهي بها.

عن المشهد العراقي، أقول بصريح العبارة إنه ليس غائبًا عن المشهد العالمي. بل أستطيع القول إن المشهد العراقي قد يكون البيئة المناسبة لولادة شعراء من نوع مختلف، وهذا يعود إلى عدة عوامل منها التناقضات، ومفاهيم الكثرة، والاختلاف، والتعددية، إلى جانب تنوع الخطابات السياسية والاجتماعية بعد كل حرب أو أزمة شهدها العراق. هذا التنوع والاختلاف، ممزوجًا بالألم والمعاناة اليومية، هو حاضنة قوية للشعر، وهو الذي سيكون محل ولادته ووجوده.

واسمح لي أن أشير هنا إلى أن القصائد المتفردة والمختلفة التي تتضمن مشاهد قتل وجثث متفحمة، هي في النهاية نتاج موهبة الشاعر في مواجهة خوفه أولًا، وفي استنطاق الموت والعدم ثانيًا. مع ذلك، أرى أن هناك الكثير من التكرار الذي أفقد بعض القصائد العراقية، التي تحاكي هذا الجانب، الكثير من رونقها ودهشتها.

المعضلة الكبرى في العصر الذي نعيشه، هي أن الشعر أصبح منطقة هشة سهلة الاختراق من قبل أي شخص يمتلك ظهورًا إعلاميًا

أظن أن المفهوم العربي للحداثة هو مفهوم ملتبس وغامض، وربما مزدوج أيضًا. فالحداثة بعد عصر النهضة الأوروبي هي نمط في التفكير والشعور، وكذا في الفعل والسلوك. كما أنها تشير، في الوقت نفسه، إلى علاقة تنتمي إلى ذاتها، وتقدّم نفسها كفعل ضروري التنفيذ، ما يعني أن الحداثة هي صناعة، وقد تكون لحظة تمرد وهدم لكل الموروثات البالية استنادًا إلى العقل ومبادئه في التنوير.

الحداثة أو ما بعد الحداثة عند العرب هي استنساخ للتجربة الأوروبية، وليست صناعة أو ابتكار. وهذا ما جعل الكثير من الأعمال الإبداعية تعيش في عزلة مريضة، وفي عالم لا تنتمي إليه.

موضوعة المنفى والاغتراب هي من المواضيع الجوهرية في الشعر العراقي قبل سقوط نظام صدام حسين. وهذا يعود إلى تبدل البيئة، والمكان، وتشظي الذاكرة، وما يترتب على هذه العوامل من هزات في الوعي، وتشكل زاوية رؤية جديدة ومغايرة للعالم، تختلف عما كانت عليه في العراق. فعلى سبيل المثال، لُقّب الشاعر العراقي كاظم السماوي بـ "شيخ المنفيين" نتيجة ترحاله لأكثر من 50 عامًا في المنافي. والعراق تشكل في قصائد هذا الشاعر مما خبره في اغتراباته ومنافيه.

لم يختفي الاغتراب من الشعر العراقي بعد عام 2003، بل عاد ليلبس ثوبًا جديدًا، حيث أصبح المنفى والاغتراب قائمًا داخل الوطن والمجتمع. إنه الاغتراب الأخطر والأعمق، اغتراب الفكر والإنسان الذي جاء مصحوبًا بوعي حاد هو من أنتج لنا شعرية جديدة في العراق تتماهى مع العالم وخطابه السائد.

شخصيًا، لا أعتقد بوجود شيء يسمى قصيدة نثر عراقية، أو فرنسية، أو إنجليزية. قصيدة النثر تنزلق من التعريفات والجغرافيا، بل وحتى من المكان والزمان أحيانًا. والسحر المحير في هذه القصيدة أنه كلما ازدادت تعريفاتها وشروطها، كلما أصبحت أكثر وحشيةً وتمردًا على شاعرها.

أنا كنت مع الشعر منذ طفولتي، أسمع أبياته من أبي وجدي، لكن سؤال المشروع الشعري مقلق ومخيف. ما أعرفه أنني أسعى إلى الاختصار والتكثيف وتقديم قصائد تستدعي الإنسان ليفكر، لا ليكون مخدرًا تحت تأثير الدهشة والمفارقة الكاذبة. هذا جل همي حاليًا.

أوس حسن
أوس حسن