23-يناير-2023
مشهد من البصرة

مشهد من البصرة

قادتني خطواتي، على ضوء نبض قلبي وغريزة جنوبية مجهولة المنبع، إلى الكورنيش وهناك زرت تمثال أبي، أبي الشعر العربي الحديث، بدر شاكر السياب.

وقفت إلى جانبه. كان أطول مني طبعًا، مثل كل الآباء الذين يقف الأبناء جوارهم.

سمعته يتمتم: عيناك حين تبسمان تورق الكروم/وترقص الأضواء كالأقمار في نهر.. ما مر عام والعراق ليس فيه جوع.

في البصرة السياب، أبو الشعر العربي الحديث وحامل لواء ثورته الكبيرة، وفيها محمود البريكان حارسًا للفنار من عواصف البحر ودليلًا للسفن الضالة

ومن يومها كلما قرأت، أو رددت، هذه القصيدة لا تكتمل بصوتي إذ تنتابني دمعة شهية مبللة بالمطر.

بلغت سوقًا حية، مفعمة بكل شيء، بالبشر وحاجاتهم. سألت: ما اسم هذه السوق؟ فأجابوني: إنها سوق الصيادلة. فدخلت.

البصرة العطرة والبصريون العطرون كانوا هناك. وأنا بينهم مغترب صغير لا أحد لي فيها أو فيهم.

نعم، لي فيها السياب، أبي، أبي الشعر العربي الحديث، وحامل لواء ثورته الكبيرة. ولي فيها محمود البريكان الذي قرأته مبكرًا ومعي صورته حارسًا للفنار من عواصف البحر ودليلًا للسفن الضالة. ومحمد خضير الذي أخذ بيدي لنطوف معًا تلك المملكة السوداء، بضيائها الأسود. ولي فيها مهدي محمد علي الذي سبقني شعرًا ونثرًا وحضورًا حتى صار، فيما بعد من أعز أصدقائي.زرته في حلب/البصرة، كما كان يحب أن يوقع مكاتيبه وقصائده. سهرنا حتى الفجر: غنَّينا معًا وقرأنا شعرنا معًا وبكينًا معًا، وكانت نضال، زوجته، ممدة على سرير لا تبرحه إلا نادرًا، تحت رحمة الأنسولين.

لم أحاول، وقتها، عام 1969، أن أسأل عن أدباء البصرة وشخصياتها المعروفة إذ لم أكن قد نشرت شيئًا ذَا قيمة وقتها.. كنت أقرأ، حسب، كتبًا ذَا قيمة. من أنا لأقول لهم من أنا؟

قيل لي إنهم يتخذون من "گهوة الدچة" مكانًا للقاءاتهم اليومية مساء كل يوم.

حسنًا، مررت من هناك ورأيت بعضهم، أصدقائي الذين لا يعرفونني. لم أجرؤ حتى على السلام عليهم، أنا القارئ الشاب قبل أن أصبح بعد ثلاثة أعوام: الشاعر الشاب.

أصدقاء من طرف واحد!

زرت البصرة، ثانية، صحبة الفنان المسرحي رياض محمد، شقيق الشاعر الحلي موفق محمد. كان هذا عام 1973.

كنت نشرت بعض قصائدي في بعض صحف بغداد.

عندها فقط تجرأت وذهبت إلى "گهوة الدچة" كان هناك عبد الكريم گاصد ومهدي محمد علي، ممن أتذكر اليوم.

للحق، كان احتفاؤهما حارًا وشعريًا حقًا.

ساقوني، جنديًا مكلفًا، بعد تخرجي من معهد إعداد المعلمين، عام 1973، ونُقلت إلى عقرة/ كردستان لأسباب سياسية، بعد أن عملت في مجلة "الجندي" لشهر واحد فقط، كان معي صديقي الشاعر شوقي عبد الأمير.

في عقرة تعرفت على جندي احتياط من أهل البصرة، اسمه "عبد علي". لا أتذكر منه سوى لطفه ومرحه ومعرفته بأدباء البصرة، إذ أخبرني بأنهم صاروا يسهرون في "نادي الفنون".

ثمة تظاهرة مدنية يتقدمها حشد من عباقرة البصرة وهم يتمسكون بأذرع بعضهم بعضًا، على شكل لوحة من لوحات الواسطي، تعلوها رايات وتتقدمها أبواق، عرفت منهم: ابن المقفع والجاحظ والفراهيدي وأبو نواس والزجّاج

كان "عبد علي" رسول الشعر والصداقة يحمل رسائلي إلى عبد الكريم ومهدي ويعود لي بردودهم.

لم أعد أملك تلك الرسائل. فُقدت مع ما فقدت من رسائل وحميميات، وحتى صداقات.

نمت قبل أن أكمل هذه السطور.

حلمت، لأواصل الكتابة:

ثمة تظاهرة مدنية يتقدمها حشد من عباقرة البصرة وهم يتمسكون بأذرع بعضهم بعضًا، على شكل لوحة من لوحات الواسطي، تعلوها رايات وتتقدمها أبواق، عرفت منهم: ابن المقفع والجاحظ والفراهيدي وأبو نواس والزجّاج والحسن بن الهيثم وابن سيرين وعلي بن محمد والسجستاني وسيبويه ورابعة العدوية ومحمود البريكان ومحمد خضير ومحمود عبد الوهاب.

ما أن بلغوا تمثال السياب حتى انحنوا يحيونه.. ولأول مرة في حياتي رأيت تمثالًا يرفع يده ليحيي المتظاهرين وأقول معه من بعيد:

السلام للبصرة وأهلها، السلام للعراق كله.