06-سبتمبر-2022
غلاف كتاب "العراق في زمن الحرب: الجندية والاستشهاد وإحياء الذكرى"

غلاف كتاب "العراق في زمن الحرب: الجندية والاستشهاد وإحياء الذكرى"

"العراق في زمن الحرب: الجندية والاستشهاد وإحياء الذكرى" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022/ ترجمة أيمن ح. حداد) للباحثة والمؤرخة الاجتماعية الأمريكية دينا رزق خوري، محاولة في فهم الطريقة التي جعلت من الحرب العراقية – الإيرانية حدثًا طبيعيًا مألوفًا وواقعًا مستمرًا من جهة، وجزءًا أساسيًا من حياة المواطن العراقي اليومية، وعاملًا مهمًا في فهمه لمواطنته وممارستها، من جهة أخرى.

لعب "حزب البعث" دورًا رئيسيًا في تطبيع الحرب، وتشكيل التصوّر العام عنها، وجعلها أمرًا دائمًا وواقعًا مستمرًا حتى بعد انتهائها

تستدعي هذه المحاولة فهم أثر الحرب على بنية الدولة العراقية وسياساتها الداخلية أيضًا. فالافتراض هنا أن تطبيع الحرب، وجعلها أمرًا دائمًا، هو نتاج الممارسات السياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية التي طورتها أجهزة الدولة للتعامل مع الحرب، وأن فهم طريقة تطبيق هذه الممارسات، وأثرها على فهم المواطن العراقي لنفسه خلال الحرب، يساعد على فهم الطريقة التي جعلت منها جزءًا من حياته اليومية.

لذلك تتوقف المؤلفة، أولًا، عند التحولات التي فرضتها الحرب على السياسات الداخلية للدولة العراقية، وفي مقدمتها تخليها عن ثنائية التنمية – الأمن التي تمحورت حولها سياساتها قبل الحرب، لصالح إدارة الأمن القومي للدولة، وتعبئة السكان عسكريًا، ومكافحة حركات التمرد، وتجنيد الرجال.

استهدفت السياسات الجديدة للنظام العراقي، بطابعها الأمني البحت، الجنود والمتمردين والفارين من الجيش وعوائل الشهداء والأسرى، باعتبارهم الفئات الأكثر تأثرًا بالحرب. بينما اعتمد في تطبيقها على "حزب البعث" الذي تحوّل خلال الحرب، وبفعلها، من حزب أيديولوجي تتركز أهدافه على التنمية الاجتماعية والاقتصادية، إلى ذراع أمنية وأداة لإدارة حياة المواطنين الاجتماعية، ووسيطًا بينهم وبين مؤسسات الدولة، خاصةً عوائل الجنود والأسرى والشهداء.

هكذا أصبح تحويل الحرب من حدث استثنائي مؤقت إلى واقع مستمر وعادي، من مهام الحزب الذي طوّر لتنفيذها مجموعة من الطرق والممارسات الاجتماعية والأمنية التي شملت، اجتماعيًا، إدارة التبعات والتكاليف الاجتماعية للحرب، وضمان امتثال المواطنين ودعمهم، وتوفير الخدمات المعيشية لهم، خاصةً المجندين وعوائلهم وعوائل الأسرى والشهداء الذين مُنحوا امتيازات عديدة منها التوظيف في مؤسسات الدولة.

أما أمنيًا، فشملت مراقبة المعارضين، وملاحقة الفارين من الجيش وإعدامهم، وتعبئة السكان عسكريًا، وضمان إمداد الجبهة بالمقاتلين، ونشر الرواية الرسمية للحرب. وعبر هذه الممارسات، بشقيها الأمني والاجتماعي، استطاع الحزب السيطرة على حياة العراقيين الاجتماعية والسياسية إلى جانب إدارة أمن الدولة، التي مكّنها نجاح الحزب في تطبيق هذه الممارسات من تحويل الحرب إلى وسيلة للحكم، وهذا بالضبط ما جعل منها حدثًا عاديًا، وواقعًا مستمرًا، وجزءًا أساسيًا من حياة المواطن العراقي اليومية.

غلاف كتاب "العراق في زمن الحرب: الجندية والاستشهاد وإحياء الذكرى"

تُعيد دينا رزق خوري أسباب نجاح "حزب البعث" في تطبيق الطرق والممارسات التي طوّرها للتعامل مع الحرب وإدارة تبعاتها الاجتماعية إلى مجموعة من العوامل،أهمها توسعة مؤسساته، وبرقرطتها، وتأسيسه مؤسسات عسكرية وأمنية جديدة وموازية لمؤسسات الدولة، إضافةً إلى ارتفاع أعداد أعضائه ومكاتبه، ونجاحه في اختراق منظمات المجتمع المدني والهيمنة عليها.

وترى المؤرخة الاجتماعية أن الحزب تحوّل، بفعل هذه العوامل، من حزب سياسي ذو جوهر أيديولوجي إلى وسيلة لإدارة أمن الدولة وحياة العراقيين الاجتماعية والسياسية من جهة، ومنظمة اجتماعية ضخمة تُعنى بالتعامل مع عوائل المجندين والأسرى والشهداء والمعارضين والفارين من الجندية بصورة يومية مكّنته من التغلغل في مختلف جوانب حياتهم، وحياة العراقيين عمومًا، من جهة أخرى.

طوّر الحزب للتعامل مع العراقيين عمومًا، والفئات المتأثرة بالحرب خصوصًا – باعتبارها الأكثر ميلًا إلى الشعور بالسخط السياسي – مجموعة من الإجراءات التي سعى من خلالها إلى دخول حياتهم اليومية، وامتصاص تأثيرات الحرب السلبية عليهم، والتوسط بينهم وبين مؤسسات الدولة، وتلبية حاجاتهم، إضافةً إلى مراقبتهم من خلال زيارات منتظمة ترصد كوادره خلالها طبيعة نظرتهم للحرب التي أصبحت معارضتها آنذاك معارضة للنظام نفسه.

عُرفت هذه الإجراءات باسم "المعايشة" و"إدامة الصلة"، وهي من الممارسات الحاسمة في تطبيع الحرب، إذ مكّنت النظام والحزب من التغلغل في حياة العراقيين سواءً عبر الزيارات المنتظمة التي قامت بها كوادره، إلى جانب كوادر "الاتحاد العام لنساء العراق" الذي كُلّف باختراق المجال العائلي للفئات السابقة، أو من خلال المراسم العامة التي تحتفي بالجنود أو تحيي ذكرى من لقي حتفه منهم.

تسعى خوري في كتابها إلى فهم الطريقة التي جعلت من الحرب حدثًا طبيعيًا وجزءًا أساسيًا من حياة المواطن العراقي اليومية

ناهيك عن الامتيازات التي مُنحت لعوائل الجنود والجرحى والأسرى والشهداء، والعقوبات التي أُنزلت بعوائل المعارضين والفارين من الجيش، وغيرها من الإجراءات التي لم تقنع العراقيين بأن الحرب حدثًا عاديًا، لكنها جعلتها كذلك حين حوّل النظام العراقي الحرب نفسها إلى وسيلة للحكم والسيطرة على السكان حتى بعد انتهائها، وهذا بالضبط ما جعل منها واقعًا مستمرًا، وجزءًا من حياة المواطن العراقي اليومية.

لعب "حزب البعث" من خلال الممارسات السابقة دورًا رئيسيًا وحاسمًا في تطبيع الحرب، وتشكيل التصوّر العام عنها، وجعلها أمرًا دائمًا وجزءًا من حياة المواطن العراقي اليومية. وهي ممارسات ترى خوري أنه لم يكن من الممكن تصوّرها أو تطبيقها لو لم يكن العراق دولة حزب واحد.