08-يناير-2021

السياب وديوانه "أنشودة المطر"

ألترا صوت – فريق التحرير

بدر شاكر السياب أحد أبرز المجددين في الشعر العربي الحديث. ولد في جنوب العراق في قرية جيكور، بالقرب من البصرة. من مجموعاته الشعرية: "أزهار وأساطير"، و"منزل الأقنان"، و"المعبد الغريق". فارق الحياة عام 1964، إثر إصابته بمرضٍ شديدٍ ظل يصارعه لسنواتٍ عديدة.

يقول الناقد حسن البياتي: "كتبها الشاعر الخالد سنة 1953 بعد شهر من انتفاضة عام 1952 في العراق. كتبها السياب، بعد فشل الانتفاضة، وهو مشرد يضرب في آفاق الغربة، هاربًا من خوف بعد مساهمته الفعالة – مواطنًا وشاعرًا - في تلك الانتفاضة. وقد حطَّ به رحْل الهروب، حينئذٍ، في إحدى دول الخليج العربي (الكويت)، مشردًا صفر اليدين، بعيدًا عن الديار وعن الأحبة. فلا غرابة، إذن، أن تطغى ظلال الغربة والضياع والأسى والحنين وما سوى ذلك من عناصر معنوية على أجواء هذه القصيدة"


الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيلِ

وعلى القلوع تظل تُطوى أو تنشّر للرحيل

زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحارِ

من كل حاف نصف عاري

وعلى الرمال، على الخليج

جلس الغريب يسرع البصر المحيَّر في الخليج

ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج

"أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج

صوت تفجَّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق،

كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي: عراق،

والموج يُعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون

والبحر دونك يا عراق.

بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق ...

وكنت دورة أسطوانةْ

هي دورة الأفلاك من عمري، تكور لي زمانهْ

في لحظتين من الزمان، وإن تكن فقدت مكانهْ

هي وجه أمي في الظلام

وصوتها، يتزلّقان مع الرؤى حتى أنام،

وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمَّ مع الغروب

فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب

من الدروب،

وهي المفلية العجوز وما توشوش عن "حزام"

وكيف شق القبر عنه أمام "عفراء" الجميلةْ

فاحتازها.. إلا جديلةْ

زهراء، أنت.. أتذكرين

تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين؟

وحديث عمتيَ الخفيض عن الملوك الغابرين؟

ووراء باب كالقضاء

قد أوصدته على النساء

أيدٍ تطاع بما تشاء لأنها أيدي رجال -

كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال.

أفتذكرين؟ أتذكرين؟

سعداء كنا قانعين

بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء.

حشد من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانه،

كنا مداريه اللذين بينهما كيانهْ.

أفليس ذاك سوى هباء؟

حلم ودورة أسطوانةْ؟

إن كان هذا كل ما يبقي فأين هو العزاء؟

أحببت فيكِ عراق روحي أو حببتكِ أنتِ فيه،

يا أنتما مصباح روحي أنتما - وأتى المساء

والليل أطبق فلتشعا في دجاه فلا أتيه.

لو جئتِ في البلد الغريب إليَّ ما كمل اللقاء!

الملتقى بك والعراق على يديَّ هو اللقاء!

شوق يخض دمي إلهي، كأن كل دمي اشتهاء

جوع إلهي كجوع كل دم الغريق إلى الهواء.

شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادةْ!

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!

أيخون إنسان بلادهْ؟

إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام

- حتى الظلام - هناك أجمل فهو يحتضن العراق.

واحسرتاه متى أنام

فأحس أن على الوسادة

من ليلك الصيفي طلًّا فيه عطركَ يا عراق؟

بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبةْ

غنيت تربتكَ الحبيبةْ،

وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه،

فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمي من عثار

فتذر في عيني، منك ومن مناسمها، غبار.

ما زلت أضرب، مُترِب القدمين أشعثَ، في الدروب

تحت الشموس الأجنبية،

متخافقَ الأطمار أبسط بالسؤال يدا نديّة

صفراء من ذل وحمى: ذل شحاذ غريب

بين العيون الأجنبيةْ،

بين احتقار وانتهار وازورار.. أو "خطيّه"

والموت أهون من "خطيه"،

من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبيةْ

قطرات ماء.. معدنيّةْ!

فلتنطفي، يا أنتِ، يا قطراتُ، يا دم، يا.. نقود،

يا ريح، يا إبرًا تخيط لي الشراع - متى أعود

إلى العراق؟ متى أعود؟

يا لمعة الأمواج رنَّحهنّ مجداف يرود

بي الخليج، ويا كواكبه الكبيرة.. يا نقود!

 

ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفارِ

أو ليت أنّ الأرض كالأفق العريض، بلا بحار!

ما زلت أحسب يا نقود، أعدكن وأستزيد،

ما زلت أنقص، يا نقود، بكنّ من مدد اغترابي،

ما زلت أوقد بالتماعتكنّ نافذتي وبابي

في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يا نقودُ

متى أعودُ؟ متى أعودُ؟

أتراه يأزف، قبل موتى، ذلك اليوم السعيدُ؟

سأفيق في ذاك الصباح، وفي السماء من السحابِ

كسرٌ، وفي النسمات بردٌ مشبع بعطور آبِ،

وأزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب

من الحرير يشف عما لا يبينُ وما يبين:

عما نسيتُ وكدتُ لا أنسى، وشكٍّ في يقين.

ويضيء لي - وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي -

ما كنت أبحث عنه في عتمات نفسي من جواب

لم يملأ الفرح الخفي شعابَ نفسي كالضباب؟

اليوم - واندفق السرور على يفجأني – أعودُ!

 

واحسرتاه.. فلن أعودَ إلى العراق!

وهل يعودُ

من كان تُعْوزُهُ النقودُ؟ وكيف تُدخَّر النقودُ

وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجودُ

به الكرام، على الطعام؟

لتبكينَّ على العراق

فما لديك سوى الدموع

وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع!

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد الماغوط: إلى بدر شاكر السياب

وديع سعادة: الموتى نيام