15-يناير-2024
غلاف رواية يوم في حياة عابد سلامة (الترا صوت)

غلاف رواية يوم في حياة عابد سلامة (الترا صوت)

في أواخر العام الفائت، نشرت الصحف والمجلات العالمية قوائم بأفضل الأعمال الأدبية لعام 2023، وكان من ضمن هذه الأعمال رواية نالت استحسانًا واسعًا وتعرّضت لهجوم حاد في الوقت نفسه، وهي رواية "A Day in the Life of Abed Salama: Anatomy of a Jerusalem Tragedy" – المبنية على أحداث حقيقية – للصحفي اليهودي الأمريكي ناثان ثرال.

وعلى الرغم من إدراج الرواية ضمن قائمة أفضل خمسة أعمال أدبية لعام 2023 في مجلتي "التايم" و"ذا نيويوركر"، إلا أن ثرال وجد نفسه عرضةً للانتقاد بسبب موقفه المؤيد للفلسطينيين والمتعاطف معهم في أثناء الأحداث الحالية. وقد أدى ذلك إلى إلغاء حملة دعائية كانت تهدف إلى الترويج للرواية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عما يجعل هذه الرواية مثيرةً للجدل إلى هذا الحد؟

ترسم الرواية صورة للواقع البائس للفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، سيما مدينة القدس، ويتحكم الاحتلال بمختلف تفاصيل حياتهم اليومية

تسرد الرواية حكاية أب فلسطيني يُدعى "عابد سلامة" يبحث عن ابنه "ميلاد" ذي الخمسة أعوام بعد حادث اصطدام حافلة مدرسية بشاحنة بالقرب من القدس. ولفهم خطورة الحادث وعواقبه بعيدة المدى، يعود السرد إلى الوراء ليكشف تاريخ عابد وعائلته، وشخصيات أخرى عديدة على علاقة بالحادث، وتتشارك جميعها معاناة تغلغل الاحتلال في مختلف جوانب حياتها اليومية، إذ لكل شخصية مأساتها الخاصة مع الاحتلال. ومن خلال هذه الخيوط المعقدة، تظهر صورة أكبر ترسم الواقع القاسي للفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة.

في ذلك اليوم المشؤوم، 16 شباط/فبراير 2012، انهار عالم عابد سلامة بعد سماعه خبر أن ابنه ميلاد كان من بين أطفال الروضة الذين تعرّضت حافلتهم للحادث على طريق الجبعة. وحين وصل إلى مكان الحادث، لم يجد سوى حافلة متفحمة، لا أطفال ولا عربة إسعاف ولا مُدرّسين.

بدأ عابد حينها بالبحث عن ابنه ميلاد، وسرعان ما تحوّل الأمر إلى ملحمة، أكثر عمقًا من ملحمة هوميروس، غارقة في واقع الوجود القاسي. فرحلته الخالية من المخلوقات الأسطورية والسحر واللعنات، تواجه بدلًا من ذلك الحقائق القاسية المتمثلة في نقاط التفتيش الإسرائيلية، والمتاهات البيروقراطية، ولامبالاة المؤسسات، والعداء المستتر. كما تتحوّل بطاقة هوية عابد الفلسطينية الخضراء، التي ترمز إلى أنه اعتُقل من قبل، إلى عائق في بحثه عن ابنه، وسبب لمنعه من دخول بعض الأماكن، بالإضافة إلى الشائعات الكثيرة والتقارير المتضاربة حول مكان وجود الأطفال، مما دفعه إلى خوض مطاردة يائسة من مكان إلى آخر حتى وصل إلى الحقيقة.

أبطال عاديون

في نسيج هذه المأساة، ظهر العديد من الأبطال العاديين ومنهم هدى دحبور، طبيبة الغدد الصماء البالغة من العمر 51 عامًا، التي كرّست نفسها على مدار ستة عشر عامًا، لإدارة عيادة صحية متنقلة تحت رعاية "الأونروا" لخدمة المرضى في الضفة الغربية، بعد منعها من الاستقرار في منطقة الشيخ جرّاح بسبب القيود الإسرائيلية.

في يوم الحادثة، اندفعت هدى مع فريقها بعد السماع عن الحادثة إلى مكان الحافلة التي كانت تشتعل في المقدمة، وساعدها رجل يُدعى سالم كان من الشاهدين على الحادثة ونسَّقا معًا عملية إخلاء الأطفال من الحافلة، خاصة بعد رفض الجنود الإسرائيليين المساعدة بعدما ركض إليهم سائق حافلة هدى. وبسبب كثافة النيران في المقدمة، لم يستطيعوا إنقاذ الأطفال من الأمام فقاموا بكسر زجاج الحافلة من الخلف. وبمجرد حدوث ذلك، تصاعدت ألسنة اللهب في الهواء حول الحافلة.

لكن اشتداد النيران لم يمنع سالم من دخول الحافلة المشتعلة لإنقاذ الأطفال، وساعدته معلمة تُدعى علا كان سالم قد أنقذها، لكنها قررت الدخول مرة أخرى بعد سماع الأطفال ينادونها، وظلوا يدخلون ويخرجون حاملين الأطفال بلا كلل حتى أنقذوا العشرات منهم.

ووسط الفوضى، تجمَّع المدنيون من الجبعة ومدينة رام الله للمساعدة ومحاولة إطفاء الحريق وإخراج الأطفال، حتى تطوع العديد من السائقين لنقل ضحايا الحروق إلى أقرب المستشفيات التي يمكن الوصول إليها، والتي كان معظمهم في رام الله، مع أن المستشفيات في القدس كانت أفضل بكثير، لكن فقط حاملي الهويات الزرقاء يمكنهم الوصول إليها، وكان عدد قليل من السائقين يحملون بطاقات هوية زرقاء، وانطلق بعضهم باتجاه "مستشفى هداسا" الإسرائيلية في القدس، أما الأغلبية أصحاب الهويات الخضراء، ذهبوا في الاتجاه المعاكس إلى رام الله، وعندما وصلت سيارة الإسعاف الفلسطينية أخيرًا، كان معظم الأطفال المصابين قد تم نقلهم بالفعل.

من المذنب؟

ركزت المحاكمة وتحقيق الشرطة بشكل ضيق على تصرفات السائق الذي قاد الشاحنة التي اصطدمت بحافلة المدرسة، وحوكم بالسجن، لكن لم يذكر أحد، لا المحققين ولا المحامين ولا القضاة، الأسباب الحقيقية للكارثة. فلم يذكر أحد أن طريق الجبعة هذا الذي تم تصميمه في الأصل لراحة المستوطنين، تحول إلى "طريق الموت" بالنسبة للفلسطينيين، ولم يلتفت أحد إلى أن الجنود المتواجدين هناك كان هدفهم إيقاف السيارات للحد من تدفق حركة مرور الفلسطينيين على طريق مشترك مع المستوطنين، ولم يهتموا بالحادثة.

ولم يُشر أحد إلى النقص المزمن في الفصول الدراسية في القدس الشرقية، وهو النقص الذي دفع الآباء إلى إرسال أطفالهم إلى مدارس الضفة الغربية التي تعاني من ضعف الإشراف. ولم يتم ذكر الجدار الفاصل ونظام التصاريح التقييدية الذي أجبر "فصل رياض الأطفال" على سلوك "طريق الموت" بدلاً من المرور بمستوطنة بسغات زئيف.

أثارت الرواية استياء المؤيدين لإسرائيل بسبب حكايتها من جهة، وموقف كاتبها مما يحدث في غزة من جهة أخرى

كما لم يكن هناك ما يشير إلى أن الصندوق الإسرائيلي لضحايا الحوادث يجب أن يعوض عائلات حاملي الهويات الخضراء، الذين قُتل أطفالهم على طريق تسيطر عليه "إسرائيل" وتحرسه الشرطة الإسرائيلية، ولم يجادل أحد بأن طريقًا واحدًا سيئ الصيانة لا يكفي لعبور الفلسطينيين من الشمال إلى الجنوب في منطقة القدس الكبرى ورام الله، أو يعترض على أن نقاط التفتيش تُستخدم لتعطيل حركة الفلسطينيين وتسهيل حركة مرور المستوطنين في ساعة الذروة.

ولم يلاحظ أحد أن غياب خدمات الطوارئ على أحد جانبي الجدار العازل كان لا بد أن يؤدي إلى مأساة، ولم يقل أحد إن الفلسطينيين في المنطقة مهملون لأن "الدولة اليهودية" تهدف إلى تقليص وجودهم في القدس، المكان الأهم بالنسبة إلى "إسرائيل"، ولم تتم محاسبة أحد على هذه الأفعال.

تتجاوز الرواية حدود المأساة الفردية، وترسم صورة حقيقية وقاسية لحياة الفلسطينيين اليومية في الأراضي المحتلة، إلى جانب تصويرها للخسائر المادية والمعنوية الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي.